أيّها المسؤولون الأكارم، اقتدوا بـ (يحيى)
العقلاء، النجباء، الباحثون عن الرفعة والكمال في هذه الدنيا، هم الذين يراجعون أنفسهم من حينٍ إلى آخر، في محاولة منهم للتخلص من أخطاء ارتكبوها في رحلتهم مع الحياة.. أخطاء انعكست سلباً على حياتهم وحياة الآخرين، في المحيط الذي يعيشون فيه..
بعبارة أخرى، كلُّ فرد منهم يقوم بإجراء كشف حساب مع نفسه، فيسأل نفسَه هذا السؤال:
ماذا تقول للإنسان في داخلك؟، في مواجهة حقيقية مع الذات، وتوجيه النقد لها ومحاسبتها..
وكلّما حاول التخلص من خطأ، شعر بأنّ مثقالاً من الهموم قد أزيح عن صدره، فخفق قلبه، وآنتعش فؤاده، وشمخ عنقه، وعاش في جو من الصفاء الوجداني والفكري..
خطوة كهذه، من شأنها أن تؤدي إلى سعادة النفس البشرية، وإراحة الضمير الحي، والسير قدماً في موكب النور، الذي يشعّ ضياؤه في غياهب الليل، فيستنير به من يعيش في الظلمات.
في المقابل، هناك من لا يكلّف نفسه التفكير بهذه الخطوة الحكيمة، ولا يحاول، ولو مرة واحدة في حياته، أن يخلد إلى نفسه ويجري هذا الكشف، أو هذه المصارحة الضرورية مع الذات، رغم معرفته التامة وعلمه بما قد عَلِقَ بها من أدران، فلوّثتها، وقضت على كل جميل فيها.
لا شك في أنَّ من يقدم على هذا التصرف، ويفكر في محاسبة نفسه، إنّما ينطلق من شعوره بالواجب وحرصه الشديد على أن يظهر إلى الناس بمظهر المخلوق البشري السامي، كأغلى قيمة في الوجود، وهو يحاول أن يجسّد إنسانيته وآدميته، ويعبّر عن صفاء نفسه ونقاء سريرته.. ومتى شعر بأنه قد فقد عنصراً واحداً من مكونات شخصيته، أو أنّ سياج كرامته قد تعرّض إلى اهتزاز أو اختراق، وما قد يترتب على ذلك من تأثير على أهليته وكفاءته، عندئذ لا يتأخر في إعلان ذلك على الملأ، من دون أي تردّد أو تحفّظ، فيؤثر الإنسحاب بكل هدوء، مُقِرّاً ومعترفاً بعدم صلاحيته، ويتّخذ ذلك درساً آخر، وتجربة أخرى، تضاف إلى سلسلة التجارب في مشوار حياته الطويل..
إنّ أكثر الناس حاجةً إلى إجراء مثل هذه المكاشفة مع النفس، هم المسؤولين الإداريين، في كل الحلقات الإدارية، وعلى كل المستويات، لأنّ ما يتفوّه به المسؤول ويقوله، يخصّه، ومردوده ينعكس عليه، سواء أكان ذلك سلباً أم إيجاباً، ولكن ما يقوم به ويفعله يخصّ الناس. فليس من الحكمة أن يقع شخص ما في خطأ ويدفع الآخرون الثمن عنه غالياً..
ما يثير الدهشة في هذه الأيام، أنَّ أيَّ مسؤول إداري حين تبادره بسؤال حول فضيحة إدارية أو خلل ما في إدارته، يتعلق بالفساد، فلا يجد غضاضةً في القول، أنَّ الأمر ليس بيده، وأنّ هناك ضغوطات كبيرة تُمارَس عليه من جهات فوقية متنفذة، تتدخل في شؤونه وتحركه كيفما تشاء، مثل( الدمى ) تماماً، وهو يعلن براءة ساحته من كلّ ما جرى ويجري، بل ويذهب بك إلى أبعد من ذلك فيعلن تضامنه معك، ويؤيد كلّ ما تقوله وتفكر به...
على هؤلاء السادة الكرام أن يعتبروا من حكاية ( يحيى بن أكثم ) مع الخليفة ( المأمون )..
تقول الحكاية:
في عهد المأمون كان في بغدادَ قاضي قضاة يدعى( يحيى بنُ أكثم)، اشتهر بنزاهته ورصانته وتمسّكه بالحق الذي لا يخشى فيه لومة لائم .. وأراد المأمون ذات مرة أن يتدخل في القضاء، ويوجه قاضي قضاته إتجاها خاصاً في إحدى القضايا، فرفض يحيى إلاّ أن يقضي بالحق، ولو على قطع رأسه، فحقد عليه المأمون وأراد أن ينتقم منه شرَّ انتقام، فدبّر لهُ مكيدة توقعه في التهلكة، فأرسل إليه ثلاثاً من جارياته، تَوَزَّعْنَ عليه بين عزفٍ ورقصٍ وغناء، وضللنَ بهِ حتى صرعْنه من النشوة...
ولمّا اطمأنَّ إليهنَّ، دعاهنَّ ذات ليلة حلوة جميلة، وراح يرتشف الخمرةَ من شفتي إحدى الجاريات التي تُحسن السُّقيا وصناعة الحب.. وفي هذه اللحظة بالذات فاجأه المأمون وضبطه بالجرم المشهود...
وسقط قاضي القضاة، ولم يجد بدّاً من أن يرفع إليه إستقالته على الفور، مصوغة في هذه الأبيات من الشعر:
يا مولايَ و أميرَ الناس كلِّهم
قد جار في حكمه من كان يسقيني
إنّي غفلت عن الساقي، فصيّرني
كما تراني: سليب العقل والدينِ
اختر لبغدادَ غيري، فأنا رجلٌ
الراحُ تقتلني، والعود يُحييني