المحرر موضوع: هناك . . عند الحدود (7) الفصل الرابع نوزنك . .  (زيارة 1112 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل مهند البراك

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 521
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
هناك . . عند الحدود (7)
                                 د. مهندالبراك
                        ahmedlada@gmx.net  
الفصل الرابع
  
  نوزنك . .

انتقلت مقرات فصائل البيشمركةالأنصار الى وادي نوزنك الضيّق بالتدريج وصارت فصائل منظمة الأنصار و مكتب قوتها اكثر تقارباً من السابق . . و تقيم جميعاً بجوار المقرات القيادية للإتحاد الوطني الكوردستاني ـ أوك ـ الذي ساعد البناة الأوائل للمنظمة عند وصولهم للجبال ـ كجزء من التقليد التاريخي للثورة الكوردية في اكرام و دعم من يناصرون قضيّتها ـ . و كان ذلك التجاور هاماً من اجل تحقيق دفاع ناجح عن المنطقة، في ظروف ندرت فيها وسائل الدفاع الجوي، اضافة الى قلة عدد الأسلحة الخفيفة و المتوسطة لدى انصار المنظمة خاصة .
و قد لعب ذلك التجاور و وفّر امكانية افضل للدفاع عن المنطقة امام القوات النظامية المتنوعة . . و لعب دوراً هاماً في بقاء و توسع سوق نوزنك و تزايد بضائعه من جهة، و ادىّ الى تزايد عائدات الكمرك التي كان الإتحاد الوطني يجبيها من جهة اخرى . . في ظروف كان فيها كل الهاربين من السلطات الرسمية بمن فيهم المهجّرين يبحثون عن اي مكان يمكنه حماية حياتهم، الذي كان اهم قوانين حياة الحدود . .  
   و صارت الفصائل التي قسّمت حسب المناطق تسكن بالشكل التالي : فصيل بتوين بقي في البيوت التي اصلحت في توزلة ومعه موقع هندرين و الإعلام الذي احتوى على ادوات طباعية بسيطة، فصيل المدفعية الذي ضمّ باغلبيته : شباباً عرباً و كلدان اضافة للكورد ، و صار مع مدافعه الثلاثة في اعالي وادي خري نوزنك في شعاب جبل مامنده في مكان اعلى من مقر مكتب القوة و يتصل به، فصيل بغداد  يقع شمال فروشكاه ـ سوق ـ نوزنك و فصيل اربيل في جنوب السوق، فصيل بشدر و فصيل شوان في موقع زلي و هما الأقربان الى جهة قلعة دزة . . على طريق نزول المفارز الى العمق . .
   و صار موقع الطبابة الواقع بين صخور غرانيتية كبيرة . . يطل على خري ـ الجدول ذو الخريرـ نوزنك و يقابل فصيل بغداد المجاور للسوق، و تكوّنت الطبابة من قاعة حجرية تشكّل غرفتين، احداها للفحص و لرقود المرضى و الجرحى و لمنام افراد الطبابة ليلاً، و الثانية صيدلية للأدوية التي تحت اليد للإستعمال اليومي و مكان للأنتظار، و آخر لخلع الأحذية قرب الباب.
و تمّ تثبيت اطوال النايلون على طول و عرض الجدران الداخلية و السقف من الداخل لحفظ حرارة الغرفة و للحفاظ على نظافتها بغسلها بين حين و آخر، و للحفاظ على نظافتها مما يسقط في العادة من السقف من اتربة و غيرها، و فرشت الأرضية بنايلون سميك مخصص للأرضيات في المناطق الباردة لنفس الأغراض، و قبيل الإنتقال الى الطبابة و الأستقرار فيها، تمّ غسل و تعقيم  الغرف باقوى انواع المطهرات الطبية المتوفرة .
و جرت الإستفادة من حضيرة الحيوانات الصغيرة التي تعود للبيت بعد ان نُظّفت، بأستعمالها كمكان بارد لتخزين المواد الطبية المحفوظه في كرتونات و علب كبيرة مقفلة، كبعض كرتونات قناني انواع المغذيات و بعض العلب المعدنية الكبيرة المغلقة، الحاوية على حبوب المسكنات.
و قد تكوّن افراد الطبابة من د. صاحب، د. شوان، سامان كمساعد متدرب، اضافة الى بيشمركة متدرب من كل فصيل دورياً، حيث يساهم كمتدرب الى ان يقرر الطبيب ان بامكانه القيام بأعمال التضميد في فصيله، و الى ان ارسل فصيل بشدر البيشمركة "عولا"(1) ليكون ثابتاً في الطبابة لكونه لايصلح للقيام بمهام البيشمركة العسكرية بتقدير مكتب فصيل بشدر، راجياً  قبوله !
لم يكن اختيار مكان لبناء جديد كمقرات شتوية بالأمر الهيّن ابداً . . فقد كان في منطقة نوكان، وادي ضيّق كثير الأشجار، شكّلت ساتراً حقيقياً هاماً يموّه على القصف الجوي، و كان الخشب متوفراً بكثرة هناك، و لكن لم يعرف لماذا لايسكنه احد، وقال القرويون هناك ان لا احد يسكن هناك بسبب المخاطر، و لم تُفهم ماهية تلك المخاطر، فالبعض تصور انها حيوانات مفترسة و البعض الآخر تصورها صواعق . .  
الاّ ان انصار فصيل المدفعية و كانوا شباباً متحمسين، قرروا اختياره كمقر شتوي بعد ان دققوا كثيراً من الأمور و على رأسها الماء . . و كان كل شئ مناسباً كما توصّلوا . و لكن في الشتاء و بعد تساقط الثلوج نبعت في داخل البناء عين ماء متدفقة لايمكن غلقها ابداً، اضطرتهم الى بناء ساقية لها كي يخرج مائها، ثم نبعت عين اخرى عند الحائط، حاولوا بطرق متنوعة غلقها و لما لم يستطيعوا . . اضطروا الى بناء حائط داخلي جديد خوفاً من سقوط الحائط الأول بسبب الرطوبة و الماء . . و خرجوا بعدئذ بصعوبة سالمين من ذلك الشتاء . . (2)

   سكن في وادي نوزنك الضيّق و في مكان مرتفع يشرف على مقر فصيل بغداد و يقابل موقع الطبابة " عبد الله آغا " ، هو و عائلته المكونة من زوجته و ابنتيه و زوجيهما و اطفالهما، حيث يعمل زوجا البنتين في كمرك أوك عند مدخل نوزنك كما مرّ . و كان معروفاً ان عبد الله آغا و عائلته العائدين الى احدى عشائر بشدر، كان مهجّراً من قريته بعد ان دُمّرت، و كانت العائلة من العوائل الكوردية التي ابعدتها اجهزة الدكتاتورية الى الأهوار . .
   و كان عبدالله آغا يطرب لأغاني الأهوار العربية الجنوبية . . حيث كان المذياع او جهاز التسجيل لديهم مفتوحاً على اعلى صوته و هو يبث أغاني بنات الريف الغجريات غير مبالٍ بوجود مقرات البيشمركة و حاجتها الى هدوء معقول يفسح المجال للإنصات و التسمّع الى درجة الامان هناك من وجود طيران يمكن ان يقصف المنطقة في اي وقت . .
و كانت الأغاني العربية تصدح في الوادي الضيّق و كأنها تشارك في عرس او في فرح ختان، الأمر الذي كان يثير فرح الأنصار العرب عموماً و يلهي بعضهم عن اداء و اجباته اليومية حيث يُسمع صوت آمر الفصيل و هو يؤنب هذا و ذاك لتأخر انجاز اعمالهم بسبب انصاتهم للأغاني و هم مستسلمين لخيالهم و لقصص الحب التي انقطعت و حُرموا منها !     
   و قد تسبب ذلك بضجة مستمرة مع فصيل بغداد القريب على منزله . . مرة حول الحطب و انه يريد حصة له مما يقطّعه الأنصار، كبدل لموافقته على سكنهم و اقامة مقراتهم في املاكه كما يقول ؟! و مرة بسبب ضجيج ينبعث من الفصيل يقلق راحة العائلة على قوله ايضاً . . لأنبعاث موسيقى و ضحكات بصوت مرتفع و تصفيق احتفالي بالأكف في احدى الامسيات الاحتفالية، التي كانت بسبب استلام احد البيشمركة رسالة من اهله يطمئنوه فيها على حالهم و يسألون عنه . .
حين كان النصير رائد الطالب في كلية الهندسة يعزف على كيتاره و سط عاصفة من التصفيق على ايقاع جميل، بين فرح و استهزاء البيشمركة القرويين من مناطق بتوين على نموذج البيشمركة الجديد بكيتارة و هم يهوّسون بصوت عالي " مسقّفي سَوْرِي بربابه . . مسقفي سوري بربابه " (3) ، لأعتقادهم الفلاحي المطلق بان البيشمركة المقاتل لا يمكن الاّ ان يكون رجلاً بشارب كثيف و تكشيرة رجولية و سبع قملات !! .  . الأمر الذي تبيّن من جهة اخرى . . انه تسبب بانفعال عبد الله آغا، الذي قال : " انهم يتعمدون احداث ذلك الضجيج  استهزاءً بي . . " و انه لن و لا . . !!
و قد منع مرور البيشمركة على ممر جبلي كان لابدّ منه ، لأنه كما قال . . يشرف على حمام نسائه !! رغم ان الحمّام كان محصّناً بأغطية عالية ملونة رغم رجاء الجميع له بأن تلك الاغطية الملوّنة تعرّض المقرات لمخاطر الإنكشاف و القصف الجوي . . الى ان ساق عبد الله آغا يوماً احد الضيوف الذي كان ساذجاً و وديعاً و لم يعرف بعد أحد ماذا كان يريد تماماً من البيشمركة . . ساقه مهدداً ايّاه بسلاحه بسبب ضبطه ايّاه  متلبساً و هو يتلصلص على حمّام النساء !! كما قال و اوصله الى ابو جوزيف عارضاً شكواه عليه بكل انفعال . .
نظر اليه ابو جوزيف بحنق بعد ان ملّ من سلوكه المشاكس و بعد ان قاسه (4) جيداً قال له بهدوء و بصوت واطئ واضح المعاني :
ـ خذه معك ! .  .  .  تستطيع ان تعمل به ماتشاء !!
فخرج عبد الله آغا بصحبة الشاب و هو حائر بماذا سيعمل معه . . الى ان اوقفه و صاح به :
ـ اذهب اذهب . . يا ابن العاهرة !
و تركه و ذهب الى بيته فيما بقي الشاب واقفاً في مكانه يتلفّت، فذهب اليه النصيران اللذان كلفهما ابو جوزيف بملاحقة عبد الله آغا مع الشاب، لأنقاذه من احتمال اي تصرف ارعن قد يبدر من عبد الله آغا . . اضافة الى غيرها من المشاكل التي يسببها وجود عوائل بين البيشمركة، و وجود اشخاص كعبدالله آغا بينهم .  
   ذهب مام كاويس (5) يوماً الى المكتب العسكري لـ أوك لطرح مايثيره عبد الله آغا من مشاكل مع قوته باعتباره صديقهم، فاجابوه بقولهم " انه يتسبب بنفس المشاكل التي لاتنتهي معنا حيث اشتكى من ان مانقوم به من حفريات يمكن ان تهدم الجبل ؟؟ . . المهم تهدئته و اقناعه بأن المكان غير صالح لسكن عائلة، خاصة و انه يستطيع الذهاب و الإستقرار في قرية مزرة المجاورة حيث طلبه اهاليها للمجئ اليهم .  . ليذهب اليهم لأنهم من عشيرته . . "
   و في احد الأيام ارسل عبد الله آغا زوجته الى صاحب لأخباره بأن زوجها مريض، وأنه يريده ان يأتي الى بيته لمعاينته و اعطائه الدواء الضروري، فأخبرها صاحب انه لايزور المرضى الى بيوتهم، و كان قراره ذلك بالإتفاق مع مكتب القوة، لأن وجوده في الطبابة هو افضل في كل الأحوال من مغادرتها، كي يكون على استعداد دائم لأستقبال اي مريض او جريح، من جهة.
و من جهة اخرى، فإن ذهابه الى بيوت القرويين، اضافة الى تشكيله مخاطر غير محسوبة عليه، لأنه لايعرفهم و لايستطيع تقدير من منهم يمكن ان يكون مرتبطاً باجهزة الدكتاتورية السريّة التي تبيّن للجميع انها موجودة بنشاط في المنطقة، و ان هناك من هم مكلّفون بمعرفة ماهية حجم قوى البيشمركة و ماهية اسلحتهم و تسقّط اخبار تفصيلية عنهم، تُطلب وفق احتياجات و تتبّعْ الأجهزة الحكومية . . اضافة الى ان زيارة بيوت القرويين يعني الإحتكاك بعوائلهم و تناول طعامهم البيتي، و كان يثير الكثير من التقولات التي كان مصدرها طبيعة حياة البيشمركة الجافة هناك، بسبب انعزالهم في المناطق الجبلية البعيدة تلك .
حيث كان ذلك الأمر يشبه الأمنيات لعدد كبير من الأنصار، و خاصة ممن لايتقنون اللغة الكوردية كالعرب و الكلدان و الآثوريين و الصابئة من البيشمركةالانصار، الذين كان انعزالهم اصعب .  .  .  اضافة للأنطباعات التي يشيعها المعالجون الريفيون الذين يطببون المرضى مقابل اجور و هدايا، و كان اطباء البيشمركة يشكّلون منافساً قويّاً لهم، يقطع عليهم رزقهم كما كانوا انفسهم يقولون . .
و لما اعتذر صاحب لزوجة عبد الله آغا عن الذهاب، و اخبرها بأنه لايترك طبابته في العادة ليكون موجوداً فيها ان حدث اي طارئ، اجابته بأنها تفهم ذلك و تتمنى من الله ان يفهم زوجها ذلك ايضاً ، و لكن ظهر انه لم يفهم و ذهب عبد الله آغا مساءً الى الطبابة وطرق بابها بعنف و بقي واقفاً في الخارج و هو يهدد و يصيح :
ـ انا لااقبل الإهانة من احد !! انتم تحت رحمتنا . . انا غير راضي عنكم ! انا زعلان منكم و لن ازوركم و ستخسرون . . سترون !!
   بينما كانوا يأكلون في الطبابة طعام العشاء . . فتح صاحب الباب و شاهد عبد الله آغا الطويل القامة النحيف، بملابسه السوداء و بجمدانيه الأسود، ببشدينه (6) الكبير الملفوف بقوة على وسطه، و ثبّت تحته خنجر فضي ظاهر بشكل واضح للعيان من جانب، و تدلى على جانبه الآخر مسدس كبير ابو  14 (7)، و بعد ان استمع اليه صاحب بهدوء، دعاه لشرب الشاي في داخل الطبابة . . و كان جوابه بان خزره بعينيه و ذهب و هو يصيح :
ـ سأريكم من هو عبد الله آغا !! سأريكم !!  
دخل صاحب الى الطبابة و هو يفكّر " لماذا يتصرف عبد الله آغا في المنطقة و كأنه زعيم، لا اعتقد ان به مسّ ما، انه يتكلّم و هو بكامل وعيه، و السؤال هو كيف صار آغا و لماذا يعيش لوحده مع عائلته الآن، و لماذا يداري كثيرون غضبه او سلوكه . . يمكن انه صار عصبي عليّ بالأساس من منطلق كونه اغا كوردي ظُلم و هجّر من كوردستان التي ولد وعاش فيها اباً عن جد و ذاق مرارة الغربة و احتقار رجال السلطة (العربية) و ظلمهم، و عاد الى كوردستان غير مبالي ان كان في ارضه هو او في ارض غيره .  .  مادامه في كوردستان التي يشعر فيها بكيانه و بسطوته فيها .  . و سلطته على الأغراب فيها من غير الكورد ثأراً او ردود فعل على مالاقاه في تهجيره، و لكن ان كان الأمر كذلك كيف يحبّ الأغاني العربية خاصة و يطرب لها؟ و كيف و كيف ؟؟ و لماذا ؟ . . و بقيت كلّها اسئلة بلا جواب " ، الاّ انه توصّل الى انه قد يخفي امراً ما ؟؟
في ذلك الوقت جاءت مجموعة من خمسة عشر شاباً، قيل انهم ملتحقون جدد يريدون الإلتحاق بالبيشمركةالأنصار، و توضّح بعدئذ ان رغباتهم كانت متباينة، البعض كان يريد الإلتحاق فعلاً كالفنان الرسام معتصم (8)، و بعض آخر كان يبحث عن امكانية للحصول على زمالة دراسية لأحدى الدول الإشتراكية، و آخرين كانوا خليطاً ممن كانوا يريدون السفر الى اهلهم في ايران او الى اي مكان على نفقتهم، و ممن كان يريد الإلتجاء الى المنظمة كشغيل غير مسلّح في المقرات ؟! و كان المثير في الأمر انهم جاءوا  بطرق متنوعة من مدن مختلفة الى مدينة اربيل
و من هناك جاءوا عبر طرق مختلفة ايضاً و التقوا بمفرزة كانبي المتجولة في اربيل، احد تلك الطرق كان يمرّ في بيت الخائن نامو كمحطة للإختفاء، و كانت المشكلة ان اولئك الملتحقين تحدثوا عنه و كأنهم لايعرفون .  .  او يمكن فعلاً انهم لايعرفون بكونه خائن،  او لايعرفون ان خيانته لم تعد سريّة و انها اكتُشفت . . في خليط شائك معقد فعلاً .
قرر مكتب القوة بعد مداولات متنوعة ان يقبلهم على اساس انه لايريد ان يخاطر بحياة ابرياء غرباء في المنطقة قد يُقتلون فيها ان تُركوا، خاصة و ان المكتب لم يصل الى نتيجة حاسمة في تحقيقه بقضيّتهم، و على اساس ان هجوم الدكتاتورية على التنظيمات السرية و اثارتها للفزع اجبرت عديدين على التمسك بأية طريقة للنجاة . . و هي امور كانت اجهزة الدكتاتورية لاتغفلها بل كانت هدفها من اثارة جو الفزع و الرعب الجماعي . . !
   و بعد ان تم قبولهم و توزّعوا على الفصائل مع ضرورة استمرار التأكد من سلوكهم، نسّب احدهم و كان طالب جامعي مسائي و يعمل مضمد . . الى الطبابة، كان يحمل اسم " باسم سلام " الرومانتيكي، الذي كان بشوشاً مرحاً، الاّ انه كان يثير تحفظ عدد من البيشمركةالأنصار لكونه كثير الضحك، و هندامه و شعره المنفوش يثيران السخرية، و فيما كان صاحب يحاول ان يخفف من إستهزاءهم به، تفاجأ يوماً بحديث آمر فصيل بغداد الذي كان من الكوادر الانصارية المجرّبه، الذي اخبره بأن الأنصار الذين يقضون وقتهم بالأحاديث المكتومة معه، ينامون كثيراً و متعبون دائماً و لايؤدون واجباتهم، و يعتقد ان احاديث باسم سلام ليست سوى احاديث اباحية مكتومة معهم، و انها قد تسبب مشاكل اضافية للفصيل، و يرجوه بأن يحاول ايجاد وسيلة لحل ذلك الإشكال . .
   بعد ابتسامة من كلام آمر الفصيل، قال له صاحب بأن يكف عن مثل تلك الإتهامات التي تعتبر من القضايا الشخصية جداً و لاتسبب بأذى لأحد !! الاّ ان آمر الفصيل اكّد طلبه راجياً ايّاه بأن يساعد في حل مشكلة كتلك و الاّ فإنه سيفاتح مكتب القوة و ستتخذ اجراءات جديّة تناسب حياة و نشاط الأنصار الذين يجب ان يكونوا على اهبة الإستعداد دوماً.
   لم يأخذ صاحب ذلك الأمر على محمل الجد، الى ان فوجئ يوماً و هو يهمّ بالدخول الى الطبابة بعد غياب ليس قصير، باصوات ضحكات مكتومة و ضجيج لعدد من الأنصار متخذين من الطبابة كشبه مقهى، فيما كان صوت باسم سلام طاغياً و هو مستمراً بسرد واقعة قال انه مرّ بها فقال :
(( . . .    و في البيت الواقع عند الشارع الستيني تعلّقت بي ربة البيت، و لم استطع الفكاك منها لأنها هددتني ان لم استجب لها، فإنها ستخبر عنيّ، فوافقت على مضض . . ولمّا رأتني قد اكتفيت بعناقها وتقبيل ثدييها و بطنها وتكرار ذلك لها، كانت شهوتها ورغبتها تزداد شدة وعنفاً . . و قالت بلهجة بدت و كأنها عابرة :
ـ كان . . كان يسحبني اليه ويضع ساقيّ على كتفيه . .
سمعت ذلك منها واخذت اسحبها اليّ ببطء و هي مستلقية على ظهرها، و ارفع ساقيها ليستقرّا على كتفيّ ولأسحبها اكثر اليّ، حين كانت تردد بفرح :
ـ و الله سترى كم انا جميلة حين ترى وجهي و هو يزداد حمرة في هذا الضوء الخافت . . كان يقول لي ذلك دائماً و هو يزداد رغبة و تعطشاً لي . .
ولم اعرف كيف عليّ ان ابدأ و هي تردد تذكرها لزوجها و انا ازداد تهيّجاً و عضوي يزداد توتراً وانتصاباً . . و انا اضغط على نفسي خوفا من ان ايلاجه بقوة قد يؤذيها او يسبب لها جرحاً، كما شاهدت في المستشفيات . . حين كانوا يرتّقون جروح حدثت بسبب سرعة الإيلاج وهن غير متهيّجات بعد . . لغباء رجالهن او لتهورهم و تعطشهم لإطفاء رغباتهم باسرع وقت . . فقلت لها بلهجة بدت وكأنها آمرة بسبب عصبيتي، الاّ انها هدّأت قلقي بسكوتها المطيع  . . و قلت لها :
ـ ادخليه بيدك . . كما يريحك . .
و بعد تردد مدّت يدها ببطء الى عضوي المتصلّب تماما ، بعد ان ازداد انتصاباً بلمسها ايّاه ومداعبتها ايّاه بلطف ثم امساكها به . . ضحكت باثارة كاشفة عن اسنانها اللؤلوئية التي لم تزدني الاّ هيجاناً ،
ـ ساعمل كماتريد . .  و لكن ولكن . .
واخرجت آهةً طويلة  . . وتشبّثت بي حتى كادت تخنقني . . مخرجة آهة بعد اخرى . . ثم . . .  ))
   بعد استراقه السمع جيداً و هو يسمع اصوات ذلك الأداء و تنغيمه، تأكد له صحّة ما قاله آمر الفصيل . . . فدخل و هو يفتح الباب بعنف و اسكت باسم سلام، فيما خرج الضيوف فوراُ بعد ان اعادوا ترتيب الأفرشة . . و اختلى صاحب به موضحاً له خطأ مايفعله و هو المفروض به ان يكون قدوة في الطبابة باعتباره من العائلة الطبية، و ان ماقام به لا يناسب الطبابة التي يزورها انواع المرضى و المريضات و العوائل . . اعتذر باسم سلام طالباً من الطبيب السماح و معاهدا اياه بأن ذلك لن يتكرر !!
.  .  .  .
.  .  .  .
لم يكن د. شوان يهتم بواجبه في الطبابة، و كان كثير الغيّاب بدون اسباب مقنعة، وشاهده كثيرون بأنه يكثر من الذهاب الى فروشكاه نوزنك ـ السوق ـ و يجلس في مقهى هناك يتناقش مع مهربين و كروانجية، في وقت كان هناك تعميم مشدد من مكتب القوة بعدم الذهاب الى السوق، و حصر ذلك بافراد الإدارة و التموين . . و كان يجيب عندما يُسأل عن ذهابه، بأنه يذهب للترويح عن نفسه من الجلوس المغلق في مقرات الأنصار.
عرف صاحب ان  د. شوان المعروف بكونه طبيب كفؤ و مناضل ذو اخلاق عالية، قد مرّ بظروف قاسية فعلاً، فقد القي القبض عليه خلال زيارة مفاجئة قام بها (النائب صدام) لمستشفاهم، و بوصوله الى ردهة د. شوان ، حاول شوان بصفته الطبيب ان يشرح للنائب حالات المرضى الراقدين و اساليب العناية بهم و علاجهم. الاّ انه فوجئ بحرس النائب و هم يهجمون عليه كالكلاب المسعورة و يشبعوه ضرباً مبرحاً بتهمة اساءته للأدب باقترابه اكثر من اللزوم من النائب اثناء حديثه معه، و اعتقلوه فوراً و قدم الى محكمة الثورة التي حكمت عليه بالسجن المؤبد، لإساءته للأدب ؟!! و قد اقتيد الى السجن و هو في حالة ذهول حقيقي من شدة الصدمة . .
و بعد سجنه لمدة اكثر من سنتين انقطعت عنه اخبار زوجته و ابنته الوحيدة، الأمر الذي ضاعف من معاناته و آلامه و تواصلت حالة الذهول لديه، الى ان اطلق سراحه في العفو الأخير فخرج قاصداً البحث عن زوجته و ابنته، و علم انهما في اليمن بعد ان استطاعت زوجته الناشطة سياسياً ايضاً من التخلص من مطاردة رجال الأمن، في وقت الهجمة على القوى الديمقراطية في 78 / 1979 ، فلم يجد طريقاً للبحث عنهما الا عن طريق منظمة الأنصار، و ذلك ما دار حتى ذلك الوقت . .
فحاول صاحب احاطته بدفئ العلاقة و مرونتها، كي يستطيع ان يوضح له مايريده فعلاً بصراحة كي يساعدوه ان استطاعوا، الاّ ان د. شوان لم يفصح بأي شئ يمكن ان يُساء تفسيره بحقه، و كان رد فعله انفعالياً، و حركته و محاولته اقامة علاقات مع غرباء و غير مرغوب بهم في المنطقة من مهربين و كاروانجية كان يزيد من تقولات الأنصار عنه . .
   الى ان سأل د. كمال خوشناو ـ العضو القيادي في أوك ـ صاحب ذات يوم، عن رأيه و رأي مكتب القوة بطلب د. شوان الذي قدمه اليهم لمساعدته بالذهاب الى ايران ؟ وبعد ان فاتحه مكتب القوة عن صحة ذلك الطلب، اجاب بحزن و صراحة قائلاً، انه يريد السفر الى زوجته و اطفاله في اليمن، خاصة وانه افترق عنهم منذ اعتقاله قبل اكثر من سنتين . . و انه كان يخجل من طرح طلبه الى ان وصل الى حد انه لم يعد يستطيع السكوت فيه، و انه قد قدّم طلبه ذلك الى أوك، لأنه متأكد من ان مكتب القوة لن يوافق على طلبه ان طلب ! .  .  و قد وافقت الطبابة و مكتب القوة على طلبه المقدم الى أوك و ارسلت موافقتها الى د. كمال خوشناو لمساعدته .  
.  .  .  .
.  .  .  .
بدأ البرد يتزايد، و اخذ الثلج يتساقط بشكل ابكر من عادته في المنطقة . . . ليستمر تساقطه الكثيف لأيام زادت عن اسبوع كامل في النهار و الليل . . و فيما كان اكثر البيشمركةالأنصار قلقين لعدم معرفتهم ماذا ستعمل الثلوج الكثيفة في وادي نوزنك الضيّق، قال ملازم عمر مسؤول المكتب العسكري لـ أوك بفرح و عن تجربة بالمنطقة حيث يقيمون منذ سنوات فيها :
ـ  يحق لنا ان نفرح الآن  . . ان مجيئكم الى البيشمركة فأل جيد للجميع، فنحن الآن بأمان من احتمالات الإنزال الجوي لقوات الدكتاتورية، حيث جرت تدريبات للإنزال عدة مرات على جبل مامنده، و اعدوا في قمته ساحة لهبوط ناقلات الجنود المروحية.
و قال انه في اواخر خريف السنة الماضية قاموا بإنزال حيث نزلت قوات كثيرة العدد، على قمة الجبل التي غطتها الغيوم، و فوجئت بعاصفة هبّت بشكل غير منتظر، و هطل الثلج مدراراً على القوات التي كان نصفها على ارضية القمة و نصفها الثاني كان لايزال في المروحيات . .
و فيما حاولت القوات الإنسحاب تسلل الى القمة اهالي منطقة نوزنك و معهم عدد من بيشمركة القوى المتواجدة، لأنهم وجدوا فيها فرصة قد لاتتكرر لإنزال القصاص بالقوات الحكومية و للحصول على السلاح و الذخيرة . . و ذلك ماتم فعلاً، حيث ان الكلاشنكوفات اليوغسلافية التي يشاهد البعض ان اهل السوق و بعض البيشمركة يحملوها مع اعتدتها هي من تلك الغنائم .
في يوم من ايام ذلك الشتاء، استيقظ البيشمركةالأنصار الذين يتابعون الأخبار اليومية من راديوات الترانزستور التي معهم . . على صوت راديو مونت كارلو و هو ينقل خبراً غير مألوف ابداً، و هو  اعلان احتلال الحرم المكي، من قبل عشرات المسلحين من قوى سياسية متنوعة في المملكة السعودية، اطلق الراديو عليها، عملية " جهيمان العتيبي " الذي تحدث بالمايكوفونات عن مطالب المعتصمين التي ورد في مقدمتها المطالبة باطلاق سراح السجناء السياسيين، على حد تعبير الراديو، الذي اضاف ان هناك استعدادات عسكرية تبذل لتحرير الحرم . .
كان الخبر مفاجئاً لأغلب البيشمركةالأنصار و كانوا يتناقشون في كيفية القيام بذلك العمل و وصفه قسم بكونه عمل اخرق، و وصفه قسم آخر بكونه بطولي، و انه من تأثيرات انتصار الثورة الشعبية الإيرانية التي اسقطت الشاه. و حاول صاحب بفضوله معرفة تأثير ذلك في منطقة نوزنك و سوقها، بأعتبار ان الناس و العشائر هناك من المتمسكين بالدين و الصلاة و تلاوة القرآن . . الاّ انه لم يلحظ شيئاً غير اعتيادي في المنطقة التي كان اهلها يواصلون حياتهم و احمالهم و مشاكلهم ككل يوم في حياة قاسية و مواجهة للدكتاتوريات ذات المنطق الشوفيني المعادي للكورد . .
و بعد فترة قصيرة و في اواخر ديسمبر 1979 ، اعلنت اذاعة بي بي سي عن وقوع غزو عسكري سوفيتي لأفغانستان، و قد ترك الحدث انطباعات كبيرة عن قوة المعسكر الشرقي و ذهب البعض بعيداً باحلامه بانهم يمكن ان يساعدونا او لابد ان يساعدونا . .
   ومرّ رأس السنة الجديدة الذي تقيم له شعوب و دول العالم احتفالات صاخبة . . مرّ بنفس حال توالي الليالي العادية في نوزنك التي غطّت مرتفعاتها الثلوج التي انعكس عليها ضوء القمر محيلاً الظلام الدامس فيها الى ظلام رومانسي مضاء بضوء القمر، عدا قاعة الفصيل المقابل للطبابة التي تجمّع فيها الأنصار يحتفلون ببدء العام الجديد بشرب شاي الحامض المعمول من الليمون الجاف ـ نومي البصرة ـ ، بعد وجبة عشاء احتوت على لحم، حيث ذبحوا جَدْياً احتفالاً بتلك الليلة، و استمروا بالأغاني و بعزف النصير رائد على الكيتار، مصحوباً بتصفيق الأكف بما ناسب اللحن.
   و كانت تلوح اضواء اللمبات الكهربائية التي تسحب طاقتها من موتور يعمل على البنزين في مقرات أوك الواقعة في اعلى المرتفع . . فيما كان عدد من الأنصار مختلين بانفسهم خارج القاعة متذكرين اهاليهم و عوائلهم و وسط امانيهم بعام جديد سعيد، و احلام عريضة بحصول تغييرات هامة في المنطقة لصالح قضايا الشعوب و منها قضيتهم  .
   كان ذلك الشتاء هو الأول الذي مرّ على قوة البيشمركةالأنصار التي شكّلت بحدود الـ 300 نصير، و كانت فيه مشكلة تقطيع و توفير خشب الصوبات (9)، هي المشكلة الأولى و الصعبة لبيشمركةانصار اتت غالبيتهم الساحقة من المدن . . فأخذ القرويون منهم يدربون ابناء المدن الشباب كيفية تقطيع الحطب من جذوع و اغصان الأشجار البرية التي توجب ان تكون بعيدة عن مقرات الفصائل، للحفاظ على مواقع المقرات مغطاة بالشجر، كجانب من جوانب غش المكان و وقايته من قصف الطائرات .
   و صارت واجبات توفير الحطب للتدفئة و لإعداد الطعام من الواجبات اليومية الجدية، التي لم تكن سهلة، و تسببت بجرح عدد من البيشمركة لأيديهم او ارجلهم بسبب قلة الخبرة باعمال التحطيب، و تسببت بأنواع جديدة من الإصابات التي كانت تحدث بسبب السقوط من شجرة او مرتفع، و الآن بسبب  سقوط اثر تزحلق بسبب عمليات نقل الحطب.
   و تعلّم العديد من الأنصار ان الحطب انواع، و هو حسب فصيلة الأشجار، فما يصلح لفرن الخبز قد لايصلح للصوبة او للطبخ، اضافة الى اهمية تجميع كميات كبيرة من الأغصان المتوسطة و الصغيرة ، التي لابد منها و الضرورية للبدء بايقاد الصوبة، او لعمل الشاي في الفطور الصباحي مثلاً.
   و مع تزايد البرد و تزايد الثلج، ازدادت امراض القصبات و الأنفلونزا، الحمىّ، امراض حساسية الجلد بسبب القمل الذي كان يتكاثر بشكل سريع . . اضافة الى حالات الإصابات بسبب التزحلق على الثلج او على الصخور التي اخفاها الثلج تحته . . و تزايد مجئ القرويين عبر مشاق طرق صعبة بين الثلوج و الصخور حاملين مرضاهم على حيوانات نقل . . حيث لم يكن بالأمكان الأعتذار عن معالجتهم بسهولة، بسبب عدم كفاية العلاج لدى الطبابة لحالتهم .          
   و ذات يوم و بينما كان الثلج يهطل بكثافة و بشكل مستمر منذ ايام، وصل الى الطبابة قروي متين البنيان يسحب بغلاً قوياً، يحمل شخصاً شدّ على البغل شداً و هو بحالة جلوس و اسند ظهره الى مسند مثبت على كورتان الحيوان، و غطيّ بالنايلون . صاح القروي الذي ناداه قروي آخر خرج تواً من الطبابة بأسم "حسين" . . صاح مستعطفاً الطبيب :
ـ  دكتور !  زوجتي زلفى بخطر ! حرارتها عالية جداً ، راح تموت !  دكتور رحمتك !  انا مستعد لكل شيء لأنقاذ زوجتي ، دكتور تفضّل !
وقدّم لصاحب صرّة مليئة بالدنانير (10)  .   .    .
ـ  تفضّل هذه الف دينار ! انقذ لي حياة زوجتي وطفلي ! !
هدّئه صاحب ومساعداه ، عائداً اليه صرة النقود بلطف، وهو يقول له : سنعمل كلّ ما في وسعنا لعلاجها ! اننا في الثورة نعمل من اجل سعادة الفقير وليس لأرباح كنا نستطيع تحقيقها حين كنّا في المدينة  .
كانت الزوجة المسكينة تترنّح بسبب ارتفاع درجة حرارتها الى فوق الأربعين، اضافة الى شكواها من آلام بطنها لأنها حامل !! و بعد ان فكّ رباطها، انزلها زوجها والمساعدون، وادخلوها الى غرفة الطبابة الكائنة في شقّ الصخور الغرانيتية آنذاك، حيث فحصها صاحب بسرعة ودقّة ثمّ ابتسم لـ "حسين" قائلاً له :
ـ اطمأن ، زوجتك وطفلك سيعيشان !  
قال صاحب ذلك وهو يشاهد امامه أمرأة قوية البنيان وليس كما تصوّرها من نحيب الزوج العاشق و قلقه . كان السؤال الأساسي ، الذي يأتي دائماً بلا رتوش ولا أقنعة ،في تلك الأصقاع العارية القاسية، السؤال الذي يأتي مباشراً وسريعاً لدى كلّ مرض و مهما تنوعّت المستويات  : موت أم حياة ؟ . . هل سيعيش المريض ام لا . . . ؟!  كان تقرير ذلك القرار هناك، هو الذي يعطي الطبيب ومتعاطي الطب، تلك الهالة المقدّسة عند اهالي تلك العوالم المنسيّة، الذين يرون فيه و لياً مقدّساً من اقرب الأولياء لله .  
وبعد فحص متمهّل بحضور الزوج، تبيّن لصاحب ان زوجته "زلفى" تشكو من التهاب الفم و اللوزتين الحاد الشديد الذي انتشر الى المعدة، اضافة الى بداية التهاب قصبات حاد . . وهو السبب الأساسي للحمى و أوجاع البطن الشديدة التي تهدد المرأة الحامل بالإسقاط. واوضح للزوج بهدوء ان الخطوة الأولى للعلاج ستكون زرقة بالوريد لتخفيض الحرارة بسرعة ، وستحتاج الى زرقة أخرى في العضل عند الورك !
    و فيما تلعثم حسين فيما يريد قوله . . قاطعه صاحب قائلاً المهم الآن زرقة الوريد بأسرع وقت لتخفيض الحرارة و للحفاظ على الطفل وسنتحدّث بعد ذلك . وبين تراويح وبسملات حسين ، واعداد المحقنة والدواء والتعقيم ، زرق صاحب ابرة خافض الحرارة بالوريد ، التي تقبّلتها المريضة بهدوء و كأنها في عالم آخر .
.  .  .  .      
 قال حسين للطبيب : دكتور تقصد يعني انها يتوجب ان تتعرىّ لزرق الإبرة الثانية ؟ يعني و الله ، الله مايقبل !!
ـ عزيزي حسين، تعرف تزرق الأبر ؟
ـ لا أبداً !
ـ سأعلّمك عليها الآن وستكون مريضتك و انت تزرقها . موافق ؟
ـ لكني اخاف ان اصيبها بأذى لأني لا اعرف كيفية الزرق  .  .  و ان قمت انا الآن بذلك بحضورك من سيزرقها بعدئذٍ ؟ بيتنا بهذا الثلج بعيد دكتور . و بعد سكوت صاح : لكن شرفنا دكتور ، ستشاهد شرفنا بعينك وسترى اردافها الجميلة عارية دكتور !!!
انفجر المساعدون بالضحك ، وتمالك صاحب نفسه واسكتهم بسرعة احتراماً للمرأة الحامل و لزوجها الذي يعزّ عليه ان يرى زوجته و كأنها تتعرى امام رجل غريب و لو كان طبيباً. فيما استمر حسين بالكلام مواصلاً : دكتور احنا ناس اسلام ولدينا شرف و .  .  .
   
انفجر صاحب من جهته، بعد ان سمعه يكرر اقواله و هو صامت . . قائلاً :
ـ يكفي !!  انا ايضاً مسلم واعرف ماهو الشرف. عليك ان تفكّر بهدوء ، زوجتك مريضة وحالتها سيئة ،والطرق اغلقها الثلج ، واحنا ادويتنا شحيحة . اذا عندك حل آخر، قول !! وانا حاضر لكل ماتريد ان استطعت، واذا تريد اخذها للبيت وانت المسؤول عن حياتها وحياة الطفل امام الله و رسوله!
حسين : انا لا  .  .  انا لا  !
في ذلك الأثناء وبينما كانت زلفى راقدة على غطاء في الطبابة . . تجمّع عديد من المريضات والمرضى في الطبابة، من نساء واطفال وشيوخ ، قادمين من القرى التي كانت تجتاحها امراض البرد بسبب استمرار عواصف الثلج . وقام صاحب بفحصهم ، وقام المساعدان عولا و سامان بزرق الأبر للمرضى الذين كانت بينهم أمرأتان، وكان زرق الأبر للنساء يتم بحضور مرافقة لهن سواءَ كانت أماً أو أختاً . .  فيما كان حسين يراقب مايجري مفكّراً ، ومستفسراً عن مشكلته مع حسين، من أمرأة مسنّه كانت ترافق ابنتها المريضة، علّها تساعده بجواب . . ثم قال حسين بصوت خفيض :
ـ دكتور الله يحفظك ! علّمني زرق الأبر على زوجتي، ذلك ليس محرّماً في القرآن بحق محمد النبي المصطفى !  
ـ طيّب اتفضّل ! وطلب صاحب من الآخرين ترك غرفة الطبابة على ان يبقى حسين وزوجته فقط في الغرفة .
بعد ان ارتجفت يد حسين عند مسك المحقنة ، قال :
ـ دكتور ، انا لاأستطيع !!  ازرقها انت ، انا اتفرّج واتعلّم   .   .
   قام صاحب بحضور الزوج بزرق الأبرة و هو يشرح لحسين . . فيما كان الزوج يردد شكره وابتهالاته . . و مرّ وقت وفيما كانا يتهيآن للذهاب بعد تحسّن حالة زلفى بسبب الأبرة في الوريد، اعطاهما الطبيب بعض الأدوية الممكنة ـ رغم شحّتها ـ لأكمال العلاج . وتعبيراً عن غاية امتنانه عرض الزوج على الطبيب علناً ان يزوّجه اخته الجميلة دون مقابل لتخدمه طيلة حياته ! وأصّر على قبول الألف دينار مقابل العلاج، و هو فرح لتحسن صحة زوجته . .  
شكره صاحب بلطف و احترام على عرضه أخته للزواج متمنياً الشفاء لزوجته وله بالتوفيق . ولم يأخذ النقود موضحاً انهم بيشمركة يحملون السلاح ضد الدكتاتورية و في سبيل نصرة الناس و الفقير .  .  وامام الحاحه بأن يقدّم شيئاً كمقابل، طلب منه صاحب ان يساعد الأنصار عند مرورهم ببيته أو عند حاجتهم اليه وان استطاع توفير عدد من الأدوية الضرورية للطبابة من سردشت و كتب قائمة قصيرة باسماء الأدوية الضرورية على ورقة صغيرة اعطاها لـ حسين  .
   تقبّل حسين ذلك بفرح و ممنونية، واصرّ على دفع أجرة المعاينة على الأقل . . كما كان يردد بالحاح، الأمر الذي حسمه مام كاويس مسؤول حماية المقراّت انذاك ، حين كان مارّا بالطبابة مصادفة، حيث قال له :
ـ كاكه حسين ، الطبابة تحتاج حملين حطب للتدفئة الآن . تستطيع توفيرها في هذا الثلج ؟ !
ـ طبعا ً، بعيوني ! اشكركم واشكر الحبيب محمد المصطفى !
و فعلاً وصلت الطبابة بعد يومين، اربعة بغال محمّلة بالحطب  .  .  ثمّ وصلت الأدوية التي أوصى عليها د. صاحب و كتبها على الورقة التي سلّمها الى حسين .  
   وهكذا حٌلَتْ احدى المشاكل التي بدت بسيطة في الظاهر، الاّ انها كانت حساسة ومعقّدة في تلك الأنحاء البعيدة، و كانت تتطلّب الصبر والحزم واللطف لمواجهتها . . فعلى حلّها الذي ينتشر في العادة بسرعة البرق بين اهالي القرى، يتوقّف كسب صداقتهم ومحبّتهم ، التي تعني تقديمهم المساعدة لجرحى البيشمركةالأنصار من طعام ونقل وايواء وحماية، اضافة لأيواء الجميع وصيانة اسرار تواجدهم ، في اوقات المحن وفي اوقات القتال غير المتكافيء ، في حالة تقدم عسكري او أنزال مظلّي و محاولة احتلال المنطقة .
والاّ فأن تلك المشاكل قد تؤدي الى البغض والكراهية وحتى الى التصادم بالسلاح مع البيشمركه وافشاء اسرارهم و تدميرهم، كما حصل مرّات مع لم يحسن التصرّف مع الأهالي ، سواء كان ذلك مع  منظمات او افراد .  .  
(يتبع)




ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1.   واسمه عبد الله، من اهالي قلعة دزة ، كان نصيراً في فصيل بشدر الذي ارسله للعمل في الطبابة ، و هو خريج ابتدائية، واشتغل بدأب كمساعد للدكتور صاحب في الطبابة وتعلّم المصطلحات الطبية اللاتينية وطرق التشخيص، و عمل على اعداد و جمع ملخصات الحالات الطبية و الأعراض و علاجاتها بالكوردية له .  . وفق شروحات د. صاحب له. حوسب بعد فترة لكونه كان يعالج مرضى و يزور آخرين الى بيوتهم و يصرف ادوية لهم من الطبابة مقابل عمولة بشكل خفي، لأن ذلك كان ممنوعاً في نشاط حشع . . وقد ترك البيشمركة بعدئذ.
2.   و المثال الآخر في فصل لاحق ، هو قرار هيئة ضمت مهندسين، اختارت بمواصفات و مقاييس هندسية على وصف اعضائها، مكاناً لبناء ثلاث قاعات كبيرة متجاورة للشتاء . . انهارت القاعات بعد الأمطار الأولى بسبب انهيار الأرضية التي لم تتحمل ذلك البناء، و لم يتسبب ذلك بقتلى او جرحى لأستطاعة الأنصار الخروج سريعاً بعد بدء الإنهيار الذي حصل نهاراً.  
3.   بمعنى مثقف ثوري يحمل ربابة بدل السلاح، لأن الرجولة في مقاييسهم هي حمل السلاح .
4.   قاسه بمعنى وصل الى تقييم لسلوكه و لشخصيته، من مظهره .
5.   مام كاويس . . مسؤول حماية المقراّت انذاك، خباز من اهالي مدينة كويسنجاق، كادر حزبي و انصاري معروف في مناطق اربيل، عضو مكتب الفوج الخامس اربيل، ثم آمر الفوج 31 العائد لقاطع اربيل، قضى في معارك اقتتال الأخوة عام 1984  .
6.   الجمداني، هو الكوفية الكوردية. البشدين، هو ما يثبّت الملابس كالحزام و يكون عادة من قماش .
7.   مسدس ابو 14 الشهير في المنطقة باسم جوار ده خور.
8.   معتصم عبد الكريم ، شهيد في معركة قزلر . . من اهالي بغداد، خريج الفنون الجميلة، رسّاماً مبدعاً ومصمماً معروفاً اثارت لوحاته اهتمام عموم البيشمه ركه في تصويرها معاناة الأنسان العراقي . وقد تطوّع في المفارز الأولى وذهب في مفرزة الى ريف السليمانية، اصطدمت مع قوات الجحوش في قرية "قزلر" وقاتلت بعناد، قضى اثرها وكان يقاتل ببندقية برنو . انتشرت صوره التي كان يرسمها بمختلف الوسائل  آنذاك (من فحم خشب الطبخ والخبز، الى عدد من الصخور المبراة، والواح الصخور وماكان متوفراً  من اوراق)، وفي اعلام العديد من منظمات البيشمه ركه، واحزاب المعارضة العراقية، اضافة الى اعلام المقاومة الفلسطينية .  
9.   صوبات، جمع صوبة بمعنى المدفئة، وهي عبارة عن آنية معدنية شبه مغلقة متصلة بانبوب يقوم بدور المدخنة، تعمل على الحطب . .
10.   كان الدينار آنذاك يعادل  3،3 دولار .


مواضيع سابقة

هناك . . عند الحدود (6) الفصل الثالث الى مهاباد . .
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,738147.0.html


هناك . . عند الحدود 4 ـ 5
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=737948.0


هناك . . عند الحدود (2 - 3)
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=737703.0


هناك . . عند الحدود 1
http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic=737628.0