إسحق في ضيافة الغجر
نبيل يونس دمان
اعتاد اسحق الذهاب الى القرية المجاورة ( بهندوايا ) لطحن الحبوب لاسرته او للجيران . وهو المعروف في البلدة بخفة دمه ، حيث يجذب الناس الى الاستماع اليه ، كما ويمتاز بالرقص المنفرد ، خصوصا ً عندما عندما يتناول كمية من المسكر( العرق المصنوع محليا ً ) ، وعلى انغام مزمارعليكو ( علي حسن من قرية سريچكا ) ، كأن تكون : عسكري ، ملاني ، او غيرها . قلة من الراقصين يبلغون منزلته في الرقص ، وما يقدمه من حركات رشيقة ولوحات جميلة ، تارة بالدوران السريع ، او التوقف فجأة ، فيحني رجل واحدة ويرتكز على الاخرى ، هازاً اكتافه باستمرارية وتواصل ، حتى تتوقف الزورنة على نغمة واحدة ، تخترق موجتها طبقات الجو المحيط ، وتتواصل دون انقطاع حتى ينهض اسحق ، ويدور ثانية في الحلبة التي خصصت له على سطح بيت او فناء منزل ، او ساحة في الاطراف ، وهي كبُركة وسط حضور كثيف من المشجعين له .
في الثلاثينات كان يقام عرساً في محلة التحتاني ( ختيثا ) ، عندما اشرف حفل زواج احدهم على الانتهاء ، وقد لعبت الخمرة بالرؤوس ، نزل الى ساحة الرقص الأخوان ( متي و هرمز) ، بعد ان هزت طبقات الهواء تلك الانغام الشجية ، المنبعثة هذه المرة من مزمار والد عليكو ( حسن رشمالو ) ، ضرب الاخوان ارجلهما في الارض صعوداً ونزولا ، ودارا رافعين ايديهم تحية للجمهور الذي اكتظ بهم المكان ، ثم جلس كل منهم على رجل واحدة وشرعا على صوت المزمار يتبادلان ضرب اكفهم ، كف اليمين يقرع كف اليسار وبالعكس ، حتى تعبت اكفهم ، فتناولا غليونيهما ( قلوني ) من خلف رقبتيهما وتبادلا ملامستها برشاقة وايقاع ، وفجاة طرحا الغليونين جانبا ، نهضا واستلا خنجريهما ذوات المقابض الخشبية السوداء المرصعة بالفضة ، وهم يلوحان بها في الهواء ، داروا عدة دورات متأنية ، يقتربان من بعضهما ويبتعدان ، حتى اشتبكا في نزال رائع ( شِك .... شِك ) يضربان خنجريهما الارض تارة ، او يلامسان نصليهما تارة اخرى ، وبحركات متناسقة منسجمة مع فيض الموسيقى التي ينفخ بها العازف مزماره ، وانهالت القروش على رشمالو ( شاباش .. شاباش ) هكذا والجمهور من الجنسين يصفق حتى كلـّت ايديهم واحمرّت ، وقضوا ليلة رائعة كانت مثيلاتها تتكرر في السابق . يا زماناً كان فيما مضى جميلا ً، ولياليه يخال المرء انها تمطر الفرح ، واللذات ، اما اليوم فيبعث في نفوسنا الكظمة والحسرة .
عندما عاد اسحق من بهندواية وعلى مقربة من بلدته شاهد خيم الغجر، وتقرب من مجلس طربهم وقد خيم المساء ، تقول الحكمة : ان العروق التي تسري فيها دماء الطرب تكاد تغلي عندما تقترب من مضارب الغجر. هكذا انسجم معهم بسرعة ، علما بان شكله وملابسه لا تدل بالضرورة انه من البلدة ، التي سألهم ببلادة عن إسمها ، ودار الحوار التالي باللغة الكردية :
- چي كندي أفا ( ما هذه القرية ) ؟.
- افا ألكيش ( هي القوش ) .
- چي مْلـّتن ، چي مذهبن ( ما اصلهم ، وما ديانتهم ) ؟ .
- فلايينا ( مسيحيون ) .
عبـّر بحركة من رأسه عن عدم رضاه وقبوله.
- بيجا هڤال ، تا كيڤا چي ( قل لي ايها الصديق ، الى اين انت ذاهب) ؟.
- ناڤ شيخي ( عند الشيخ ويقصد باعذرا مركز الامارة الأيزيدية ).
- ريكاتا دورا ، بنڤا ناڤ ما قربان ( طريقك بعيد ، نام ليلتك هنا ) .
بعد تردد ربط حمارة في احدى ركائز الخيم ، وابتدا بالسلام عليهم ، فاستقبل بالطرب المعهود . وبعد قليل اصبح اسحق المتمكن من لعبته جيداً ، جزءا ًمن مجلسهم فطرَب وأطرِب . أمضى معهم ساعات وكأنه واحدا منهم ، على انغام الطبلة والعود نافسهم في الرقص الجميل ، ففرحوا به ، وقدموا له افخر العشاء ، وعند انتصاف الليل ، نهض يودعهم ، فحاولوا تغيير ما اعتزم عليه ، وذكـّروه بمخاطر الطريق الى باعذرا ، والليل لا يؤمن من اللصوص وقطاع الطرق ، لكنه اصر على الرحيل ، مدعياً ضرورة وجوده هناك مع تباشير الصباح .
غادر اسحق مضارب الغجر، وبعد دقائق كان ينزل حمله من الطحين في البيت ، استقبله افراد اسرته ، وعبروا عن قلقهم العميق لتأخره ، حيث راودتهم شكوك بانه قتل في الطريق ، على اية حال اسبشروا خيراً بمقدمه ، واسرعت زوجته لجلب العشاء الذي جهزته قبل ساعات مضت ، قال لها اسحق بغنج :
- لا تتعبي نفسك يا إمرأتي ، فقد تعشيت عند اصدقائي الغجر.
اعتاد الغجر ان ياتوا الى البلدة في مواسم غير محددة ، ينصبون خيامهم في الاطراف ، فتدب الحركة في تلك البقعة لعدة ايام او اسابيع يمضونها في تلك الاماكن ، فان كان الوقت شتاءً ، فان اعمدة الدخان تتصاعد عاليا ً من خيامهم ، وتتبخر في اجواء البلدة ، المغطاة بالغيوم والضباب .
الغجر في ايران يقال لهم الغرشمارية ، او غريب زاده ( ابن الغريب ) ، او غربال بند ( صانع الغربال ) ، اما في مصر فالغجر عندهم تصحيف لكلمة القاجاري نسبة الى قبيلة تركية الاصل ، يقال ان اصل كلمة الكاوولي من كابلي اي نسبة الى عاصمة افغانستان – الكابل ، ويقال ايضا ان احد ملوك ايران واسمه ( بهرام جور) دعا من الهند نحو اثني عشر الف للهو والطرب ، والكاولية هم بقايا اولئك النازحين .
الغجر قوم غريبوا الاطوار ، يتكلمون عدة لغات منها : العربية ، الكردية ، الفارسية ، والتركية . لا مكان ثابت يقيمون فيه ، بل ينتقلون من بلد الى آخر ، يعبرون الحدود ، ليست لهم دفاتر نفوس ، او جنسية معينة ، ازياءهم مختلفة عن باقي ازياء الناس القاطنين في تلك الاصقاع ، لا يمارسون الزراعة ، او يشغلون الوظائف ، ولا يذهبون الى المدارس . انهم يجيدون بعض الحرف اليدوية ، التي يتقنوها ، منها صنع اللعب ، الاراجيح ، ومهود للاطفال . تغني الام في بلدتنا بجانب رضيعها في المهد اغنية مطلعها ( دشاي لاي ، دركشتخ د قرجايي ) ومعناها : نام يا رضيعي نام ، في المهد الذي صنعه الغجر. ويقومون ايضا بتلبيس الاسنان بالمعادن الثمينة كالذهب ، او يصنعون الآلات الموسيقية مثل الربابة . او يصنعون الغرابيل ( أربالت ) والمسارد ( سرادِه ) . نظرا لانتقالهم الدائم وعدم ثباتهم في مكان ما ، ولضحالة ايمانهم ومعارفهم ، فانهم يمارسون كل انواع السرقة والدجل والكذب ، فلا ذات توبخهم ولا وازع يردعهم ، يسرقون حتى الاطفال ، واذا تغافل عنهم اصحاب الدار ، فلهم المهارة والسرعة في سرقة الدجاج او اي شيء يقع في ايديهم . كانت جدتي تروي لنا طرفة عنهم فتغمرنا في الضحك حيث تقول : ان والدتها جمعت كل المواد لعمل غربال من ( طاري ، ووطري ، والاخشاب الرقيقة المدورة ) وجهزتها لتسلمها للغجر، فهم يتقنون تأطيرها وصنعها ، فاعطتها لاحدهم ، عند قدومه للاستجداء ، واوعدها ان ياتي بالغربال في الايام التالية ، وسيصنعه على احسن ما يكون ، فصدقته . وعند مجيء ابنتها التي هي جدتي ، بشرتها بالخبر السار في تسليم الحاجات الى الغجري ، فقالت ابنتها :
- امي ، واذا تاخر او لم يعد ، ما هو الضمان لعودته .
اجابت امها والابتسامة ترتسم على محياها :
- يا ابنتي انا اعرفه جيدا وانتبهت الى احدى اذنيه ، فكانت مثقوبة .
ضحكت ابنتها ، وبالتالي كانت تضحكنا ونحن صغار، كلما كررنا عليها باعادة سرد الحادثة ، فقالت لامها :
- انتظري يا اماه عودة ذلك الغجري المثقوب الاذن ، وهو محمل بالغربال المحكم الصنع .
هباء كان انتظارها ...... فلم يعد ابدا ً.
رجالهم يكحلون عيونهم بشكل عجيب ، ربما بعض كبار السن من الاقوام الاخرى يفعلون الشيء نفسه ، لمعالجة مرض في العين ، ولكن رجال الغجر يفعلون ذلك للتبرج وجلب الأنظار. هناك مثل محلي يطلق على الشاطر بالقول ( كشاقل كخله مأينه د قرجيثه ) ومعناه ( ياخذ الكحل من عيون الغجرية ). نساؤهم يحبلن ويلدن وهن متنقلات من جهة الى اخرى ، اطفال الغجر ينبضون بالحياة بأعجوبة ، يحملون خلف الظهور في علايج مخروطية الشكل . يكسبون المناعة من حياتهم التي يكون الترحال جزءا ً اساسيا ً منها ، وبالتالي نادراً ما يتعرض الغجر للامراض ، وان اصابت احدهم وعكة فلهم علاجاتهم الخاصة . عندما تغفل إمراة ما طفلها ويسمع الجيران صراخه ، ينادون عليها " هل هو ابن الغجر ، حتى تتركيه طوال الوقت يغلرق في البكاء " .
في الليالي يقيمون الحفلات الحمراء بالاستعانة بآلات الطرب التي ترافقهم في ترحالهم ، وبموسيقاهم الخاصة الراقصة ، واغانيهم الفلكلورية ، يقع الرقص والطرب ويشترك الشباب وتتمايل الصبايـا الى ساعات متاخرة من الليل ، انها رقصة الغجر المعروفة ، اعتقد ان هواة الافلام اللطيفة يتذكرون فلم ( الغجرية العاشقة ) الذي كان يعرض في صالات العرض ( السينما ) ببغداد فيما مضى ، عندما كانت الدنيا بخير، قبل ان يصيبها زلزال الدكتاتورية ، فحول كل شيء تقريبا الى فقر، قفر، ويباب ، وحتى هؤلاء المتنقلون ولقرون في مناطقنا ، لم يسلموا من سطوة الدكتاتورية ، فطاردتهم وقلصت حركتهم ، ان لم تبيدهم او تحولهم الى غير تلك التسمية المعروفة بالغجر.
2008