ألكاهنُ ثقافةٌ وطموحٌ
د. صباح قيّايعزف البعض عن الذهاب الى الكنيسة لأسباب متعددة ، وقد يقتنع البعض الآخر بحضور قداديس الأعياد فقط وربما المناسبات الخاصة ايضاً لعدد محدود منهم . ومن الملاحظ أن الغالبية العظمى من هذا البعض تقتصر على ذوي التحصيل الدراسي العالي وعلى من يتمتع بمركز اجتماعي مميز ، خاصة في المدن التي تتوفر فيها كنيسة واحدة تتناسب مع عدد ابناء الرعية فيها . ومنهم من وجد ضالته في حضور طقوس كنائس أخرى اشباعاً لغريزة الشعور الاستعلائي تجاه أبناء جلدته أو حتى كنيسته . وكتحصيل حاصل لهذا التباين الأجتماعي والوظيفي وكمحاولة ذاتية لمعالجة ذلك العزوف وتبريره ، برزت ظاهرة كنيسة الأغنياء وكنيسة الفقراء وبالأخص في أماكن محددة من بلاد المهجر حيث الكثافة السكانية العالية من الكلدان مما يستوجب توفير كنيستين على الأقل . لم تكن تلك الظاهرة , حسب قناعتي ، من صنع آباء الكنائس الأفاضل ، وانما بدعة استحدثتها وهللت لها شريحة واسعة نوعا ما من الرعية جلّ همها التسابق الأعمى لتعزيز تقليعة مظاهرها الوهمية وكبريائها المصطنع سواء عن جهل أو عن دراية ، أو نتيجة تقليد او ابتكار ، ولكن حتما بدافع ما يسمى " الفنطزة والعنطزة " ليس الا ....
تحضرني وأنا أكتب المدخل أعلاه طريفة حدثت لي في بغداد مع ابن عمتي قبل أكثر من عشرة سنين . اتفقنا أن نلتقي في مدخل كنيسة مركز القديس يوسف ( كنيسة السنتر ) بعد قداس الأحد . رأيته بالفعل ينتظر في الموعد والمكان المحدد ، وحال مشاهدته لي سألني بانفعال : هل موعده معي حقا أمام كنيسة أم أمام نادي اجتماعي ؟ ابتسمت له فقط ... لم يكن سؤاله مفاجئة لي وهو الذي ترعرع في ناحية يرتاد أهلها الكنيسة بانتظام للصلاة وتأدية واجب الأيمان دون الأهتمام اللامعقول بوسائل البهرجة والزخرفة .... والحقيقة يجب أن تقال .. لا كنائس في بغداد للفقراء أو للأغنياء , وانما مظهر الحضور الكنسي يعتمد على المستوى الحياتي لتلك المنطقة ، ورغم ذلك لا يمكن نكران أن كنيسة السنتر اللاتينية تنفرد بحضور طبقة اجتماعية ، غالبتها كلدانية , يغلب عليها طابع المغالاة في اللبس والتبرج . وربما نقلت تلك الجموع عدواها الى بلاد المهجر فنشأ بذلك مرض كنائس الأغنياء .
تدّعي الفئة المتعلمة جداً من العزوفين اعلاه ، بأن كرازة الأب أيام الآحاد سطحية وساذجة وكأنها من دروس التعليم المسيحي للأطفال ، أو معلومات أولية عن الأيمان المسيحي كالذي كان متبعاً في القرى أيام زمان حيث البساطة ومحدودية التعليم سمة دارجة وهذا ما لا ينسجم مع الثقافة العصرية والتطورات الحياتية ... من وجهة نظري ذلك تبرير مجحف وحتى غير عقلاني وغير منطقي وبعيد كل البعد عن واقع الحال .... كهنة اليوم ثقافة واسعة وتحليل عميق وطموح مشروع لبلوغ ما تصبو اليه الكنيسة من المستوى المعلوماتي لمواجهة التحديات الخطيرة ، وما أكثرها ، التي تعترضها . ألكل يعلم أن الكنيسة أنجبت عبر مسارها العسير والمؤلم من الأفذاذ ما تعجز المجلدات عن احتوائه ... لست بصدد التطرق الى ماضٍ بعيد بل الى أمس قريب والى ماذا عن اليوم وما ينتظر الغد ....
حدثني راعي الكنيسة في لندن قبل سنوات عن تجربته عند تقديمه محاضرة عن الأيمان على طلبة احدى الجامعات هناك ... لم يكن لمعظمهم أية علاقة بالرب بل ينكرون الخالق بشدة مع سبق الأصرار ... لم تخلو أسئلتهم ومناقشتهم من الأستفزاز والأستهزاء والأستهانة بالخلق الألهي .... ما هي اذن صفات الكاهن اليوم وكم يجب أن تصل سعة ثقافته وحجم معلوماته لتفنيد معتقدات مثل هذا الجمع وأيضا معالجة رغبات وميول شرائح اجتماعية متنوعة وقوانين دول تتعارض في بعض بنودها مع دعوة الأيمان وتعاليم الكنيسة .
لا تتطور الدولة عندما يقودها الرعاع ، وتخسر الشركات حتما عندما يفتقد مجلس ادارتها الكفاءة والخبرة ، وتنحسر المؤسسات التعليمية اذا عهدت ادارتها لأشباه الأميين ، وتتضاءل شعبية الأحزاب عندما تنحرف عن مبادئها خدمة لمصالح قيادييها .... هذه أمثلة لحلقات ادارية محورها تدبير اداري .... أيضا الكنيسة تحتاج الى راعي يدبر أمر الرعية بنجاح .. ثقافة الكاهن ضرورية وحاجة ملحة وطموحه مشروع ما دام ضمن التحديدات الكنسية .. أستمتع بكاهن يجيد الأستماع ويبرع في الخطابة ... كرازته تحليل عميق لكلمات سهلة ممتنعة ... يستذكر الماضي ليمنح اليوم حلاوة والغد أملاً ... يعزز ثقة الحضور بابتسامة صادقة .. تحضره الدعابة والنكتة تخفيفاً لهموم الرعية ...
هنالك مثل انكليزي شائع فحواه " لا تحكم على النأس قبل أن تجربهم " . وعليه لا أتقبل راياً سلبياً على الكنيسة ممن لا يعرفها ... لا أتقبل التقليل من مستوى كرازة الكاهن ممن لم يستمع اليها ... لا اهاب طموح الكاهن اطلاقا بل على العكس ادعو له زيادة الأطلاع واستمرارية التحصيل المعلوماتي الذاتي منه والمبرمج ما دامت خدمة الرعية غايته واعلاء شأن الكنيسة هدفه . من حق الكاهن أن يطمح في صعود السلّم الأداري الكنسي ويسعى له بتجرد بأستثناء كلمة الرب ....