المحرر موضوع: هل هناك أمل في المُستقبل لمسيحيي العراق والشرق الأوسط؟  (زيارة 19909 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
كيف يمكن لمسيحيي العراق والشرق الأوسط ضمان مستقبلهم في بلدانهم الأصيلة وهم يواجهون المخاوف والصعوبات من جرّاء التطرُّف الديني المتفاقم يوماً بعد يوم وليس هناك في الأفق ما يُشير الى توقفه أو حتى انحساره؟ إنَّ الشعوب في الدول الغربية يشعرون بمعاناة مسيحيي العراق وسوريا ومصر وغيرها، ولكنَّ اصحاب القرار في هذه الدول وإن كانوا يُدركون هذه المُعاناة لكنَّهم لا يرغبون الإعتراف بها، لأنَّها مِن تخطيطهم وتآمُرهم، ووضع مسيحيي العراق من جرّاء هذه المؤامرة الدولية هو الأسوأ، وقد استغلَّ هذا التآمُر الدولي المتطرفون الإسلاميون لتفريغ ليس العراق من مسيحييه فحسب بل الشرق الأوسط بأسره وبذلك يقضون على أكبر عائق لتحقيق مُخططهم التقسيمي لبلدان الشرق الأوسط. ولهذا استولى القلقُ على المسيحيين بشأن مصيرهم المستقبلي المجهول! هل يستمرّون على الإستكانة الى الصبر رغم كُلِّ الصعوبات والإنتهاكات و... والى متى؟ مَن يضمَن عدم تعرُّضهم للقتل أو الطرد من أرضهم على غِرار ما تعرَّض له اليهودُ في منتصف القرن المنصرم؟ أليست هذه أسئلة مُحقة تُراود أذهان المسيحيين حول مستقبلهم؟ .
لا أريد التوغل في عمق التاريخ لِما قبل الميلاد والتحدُّثَ عن الأقوام الأصيلة التي ظهرت على أديم بلاد ما بين النهرين فقد سبق وأن أشبعناها درساً وبحثاً أنا وغيري من الباحثين والمؤرخين، وباختصار شديد فقد كان أسلاف مسيحيي اليوم هم اصحاب هذه البلاد، وكان الكلدان آخر الأقوام الأصيلة الذين فرضوا  سيادتهم الكاملة عليها وعلى مُجمل بلدان الشرق الأوسط منذ عام 626 وحتى عام 539 ق. م الذي فيه سقط صولجان حُكمهم على ايدي الفرس الأخمينيين في عهد ملكهم كورش الثاني ووقعوا تحت نفوذهم، وبعد سقوطهم واستيلاء الفرس الفرثيين على البلاد، بزغ فجرُ البشارة المسيحية في عهدهم، فدخل المبشرون الى هذه البلاد، وكانت ديمغرافية الكلدان الأكثف بين شعوب المملكة الفرثية فكانوا أول المتهافتين على قبول بشارة الخلاص المسيحية بشوقٍ وفرح منذ دخولِها بلاد وادي الرافدين "عراق اليوم" بحسب التقليد الكنسي وكتابات الآباء في بداية العقد الرابع من القرن الميلادي الأول، حيث يروي التقليد بأن توما الرسول كان أول المبشرين الأربعة لهذه البلاد أثناء مروره فيها ما بين 35-37م وهو في طريقه الى الهند لتبشير سكانها، وكان في رفقته أدَّي أحد الإثنين والسبعين تلميذاً من تلاميذ المسيح الرب، ولدى مغادرة الرسول توما البلاد لمتابعة رسالته أوكل مهمة مواصلة التبشير الى أدَّي والتحق بأدّي تلميذاه أكَّاي وماري.
الكُلُّ يعلم بأن رُسل المسيح وتلاميذه كانوا يهوداً، وبعد صعود الرب وحلول الروح القدس على الرسُل، بدأ الرسل والتلاميذ بنشر بشارة الخلاص في كُلِّ مكان، وكانوا يتحدَّثون باللغة الآرامية الكلدانية التي تعلَّموها من آبائهم وأجدادهم المسبيين في بابل الكلدانية منذ 587 ق. م، ثمَّ انتشروا في مُختلف أنحاء بلاد الكلدان الأصلية"كلدو وآثور والجزيرة" حيث يقول المؤرخ "كراتز" في كتابه (تاريخ اليهود ص 165) بأن بلاد الكلدان هذه كانت تعجُّ ببقايا اليهود وبخاصةٍ في منطقتَي كلدو وآثور، وهم الذين شكَّلوا النواة الأولى في تقبلُّهم لبشرى الخلاص المسيحية بفضل إخوتهم المبشرين وبحكم مشاركتهم إياهم بالإنتماء القومي وبالذهنية الواحدة وتحدثهم باللغة الواحدة هي الكلدانية.
كانت كنيسة المشرق كلدانيةً أصلاً ومنشأً، ومنذ نشأتها جعلت أبوابَها مُشرعة لكُلِّ الأقوام الراغبين في الإنتماء إليها، وكانت الجزء الكنسي الشرقي المُكمِّل لكنيسة الغرب الأم الجامعة لغاية منتصف القرن الخامس أي حتى ظهور البدعتين النسطورية والمونوفيزية وانتشارهما، وقد اكتوت بنارهما رغم بعدِها عن موقع ظهورهما في الغرب، فأدَّتا الى انشطار كنيسة المشرق الى شطرين نسطوري ومونوفيزي مُعاديَين واحدهما للآخر، وكلاهما معاديان للكنيسة الأم الجامعة. وكان الشطرُ النسطوري الأكبر وكنيسته الأضخم والأوسع وبسبب تبنيها للمذهب النسطوري دُعيت بالكنيسة الكلدانية النسطورية وللإختصار الكنيسة النسطورية.
وعقب هذه التطورات التي طرأت على كنيسة المشرق، حدثت القطيعة بين أكبر كنيستَين، كنيسة الغرب الجامعة وكنيسة الشرق الفارسية، وكأن هذه القطيعة التي حدثت رغم إرادتهما، جاءَت بصالحهما، لتكون حافزاً لكِلتَيهما لخوض مباراةٍ ثورية لنشر بشارة الخلاص المسيحية في كافة أرجاء الكرة الأرضية، فنرى كيف أنَّ الكنيسة الكلدانية النسطورية قد شمَّر أبناؤها من كهنةٍ ورهبان وتجّار عن ساعد الجِد لنشر بشارة الإنجيل فأوصلوها رغم كُلِّ المصاعب الى الهند وأقاصي الصين مدفوعين من ايمانهم العميق وغيرتهم المنقطعة النظير. تميَّزت كنيستُنا بالشهادة والشهداء إذ منذ نشأتها تعرَّضت لإضطهادات الأقوام الذين رزحت تحت حكمهم الجائر بَدءاً بالفرس فالعرب فالمغول فالعثمانيين، مُقدِّمة أفواج الشهداء الذين خلَّد ذِكرَهم بعضُ شعرائنا الكلدان بقصائد مُسهبة إكراماً لشجاعتهم، وأشهرهم كان مار ماروثا اسقف ميافارقين التابعة اليوم لتركيا مثل الكثير من أمثالها كنصيبين والرُّها وغيرهما، نُرتِّلها صباحاً ومساءً، حيث نستمدُّ منها روحانية عميقة تمنحنا القوة والصمود للبقاء في ديارنا. والجدير بالذِكر بأن المسيحيين في العراق وبلاد العجم كانوا يشكِّلون العدد الأكبر من سكان هذين البلدين إبان اجتياح العرب المسلمين لهما في بدايات العقد الرابع من القرن السابع، أما الآن فإن عددنا ولشديد الأسف ضئيل جداً قياساً بالعرب والأكراد وذلك نتيجة الإضطهادات والقتل والتهجير بسبب التمييز الديني.
ولم يتوقف هذا المُسلسل الإضطهادي الرهيب ضِدَّ الكلدان وبقية المسيحيين في العراق حتى يومنا هذا، وقد زَخُمَ منذ التغيير السياسي الذي وقع عام 2003 نتيجة الصراع المتناقض ايديولوجياً وطائفياً ومذهبياً حيث تبارت بتصعيده الكُتل والأحزاب التي تسلَّمت زمام السلطة، فأدّى بها الى التباعد وعدم التفاهم فيما بينها، واستغلَّت ذلك القوى الداخلية المتطرفة والخارجية المناوئة، فعملت على وأد العملية الديمقراطية في مهدها، وصَدِّها عن بناء نظام سياسي جديد وعادل، وكان وقع ذلك شديداً على العراقيين عامة وعلى المكونات الصغيرة ولا سيما المسيحيين منهم خاصة. لقد كان قيام مُقاتلي داعش باحتلال الموصل في العاشر من حزيران الجاري 2014 مُفاجأة للشعب العراقي غير متوقعة، ولا سيما بأنها لم تلقَ مقاومة تُذكر من قبل رجال الجيش والأمن المحلي فاعتبر البعضُ بأنَّ الأمرَ إن لم يكُن تخاذلاً فبالتأكيد كان تواطؤاً! لقد اهتزَّ لهول صدمة احتلال الموصل ابناء المكونات الصغيرة غير المسلمة، وبخاصة المسيحيين منهم حيث اعتبروها كارثة مُرعبة تُهدِّد وجودهم، فلاذوا بالفرار الى أماكن آمنة. ومن الجدير بالملاحظة فإنَّ مَن اهتمَّ بحالهم وسارع الى نجدتهم لم يكن المتبجِّحون بتمثيل المسيحيين في الحكومة والبرلمان، وإنما الكنيسة الكلدانية رئاسة ورُعاة وانضم إليهم بعض رُعاة الكنيسة السريانية، ألا يُعتبر ذلك خيانة من قبل هؤلاء المُدَّعين بتمثيل المسيحيين تجاه الشعب المسيحي؟ أليست هذه المأساة اختباراً لعدم مصداقيتهم؟ ألم يُثبت عدم اهتمامهم حتى بإبداء التشجيع المعنوي للتخفيف من معاناة منتخبيهم بُعدَهم الكبير عنهم ولا يهمُّهم أمرهم بأيِّ شيء! وإنما استماتتهم للحصول على المناصب بالصعود إليها على أكتافهم تأتي من هرولتهم للحفاظ على مكاسبهم المادية ومصالحهم الذاتية المُفرطة بالأنانية الخاصة، تَبّاً لهم.
إنني من موقعي كشماس في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية وكباحث ومؤرخ أوجِّه نداءً خالصاً الى رؤساء كنائس الشرق أصحاب الغبطة وأحبارها الأساقفة الأجلاء وكهنتها الأفاضل وشعبها المؤمن، بأن الواجب يُحتمُ علينا جميعاً قراءة علامات الأزمنة، فقد آن الأوانُ لنتوحَّد كُلُّنا لنُصبح قوة واحدة متحدة، تستطيع أن تلعب دورها الكبيرفي محيطها العربي الإسلامي، بوقوفنا ضِدَّ التناحر الإسلامي المذهبي السني والشيعي، ونؤثر عليهم بعدم الإنزلاق الى التقسيم، لأن انقسامهم سيؤدي الى قيام دويلات مذهبية وهو مسعى تسعى إليه الدولة العبرية لتأخذ منه مُبرِّراً لإعلان دولتها المذهبية اليهودية التي تُجاهر بها، ولن يكون هناك مَن يلومها، حيث تكون بين يديها حجة بأنَّ هناك دويلات مذهبية قد سبقتها. فحذار أيها الإخوة العرب المسلمون من الإنجراف نحو هذا المشروع التآمري، فإننا نحن مسيحيو الشرق سنحاول بكُل ما اوتينا من حكمة ودراية لنقول لكم بأنَّه مشروع بغير صالحكم ولا بصالح الوطن أيَّاً كان، فيا ليتكم تدرسونه بتمعن كبير وتحليل مستفيض. إننا نحن المسيحيون أبناء الرجاء وسنصمد في أرض الشرق أرض آبائنا وأجدادنا مهما إدلهمَّت علينا الخطوب، إن ثقتنا بالله كبيرة بأنه لن يتركنا، وسيستجيب الى تضرُّعاتنا، فيلقي بسلامه في ربوع شرقنا الحبيب لينعم سكانُه بكُلِّ فئاتهم وأقوامهم وأديانهم بالهدوء والسلام والإستقرار!





                      الشماس د. كوركيس مردو
      في 29 / 6 / 2014