عبد الأحد شابو الحكيم... سارية وراية جلال مرقس
عزيزي أبا فرهاد .. لست أقوى أن أجزيك بمرثية لأنك الأقوى بخصالك الحميدة التي كانت تمطر مدراراً لتزرع الخير في أفئدة محبي الألفة ..
لا يتوارث كنز إلآّ ويزول ، عدا كنز أبي فرهاد ،فما خلفه كإرثٍ أخلاقي راقٍ لا تطمره داعيات الدهر أبداً وسيفتخر به أولاده وذووه على مر العصور، تركت إسماً ورمزاً لامعاً ليس فقط لدى محبيك ومعارفك وأصدقائك ، بل نلت تقديراً حتى لدى من يخالفونك ويختلفون معك في الفكر والتوجهات ، فكنت دوماً مركز المشاورة والنصح...
ذكراك الطيبة ستظل ترفرف بين كل من جالسك حتى لبضعة ساعات فقط واستمتع بسلسلة أحاديثك كأنها خرز في سلسلة مصاغة بإتقان ، لم تُجِد نطق كلمات سيئة حاشا أن تُنسَب اليك، فكبرى شتائمك لمن كان يخطيء : ( ليس ذنبه إنه أبله لا تعاتبوه) وكان يستشهد بأقوال والده: (الشيطان يوسوس في أذنه) و(الشيطان ولج صندوق قلبه). كنت بحق مدرسة خلقتَ كوادر نشطة في مجال السياسة وفي مختلف المواضيع الإجتماعية المتمدنة والنزيهة...
لا أكتب عنك لأنك شقيق زوجتي بقدر عمق علاقتنا القديمة قبل الإقتران وعقد النسابة بيننا، كنا أكثر من أخوين وكنت أستمع بشغف لأحاديثك وخاصة المتعلقة بالسياسة بشكل عام، كنتَ مثال المربي وتركتَ بصماتِك في نفس كل تلميذ حتى في مدينة الرمادي التي نفيت اليها كإجراء قمعي.
أبا فرهاد العزيز.. برحيلك ستزين عرشين عزيزين عليك وستمحو عنهم خلوتهم منذ عقود.. الوالدان سيفتحان حضنيهما وربما لا يشبعان التقبيل ليس لأنك الإبن البكر بل لكبر قناعتهم بأنك الإبن البار لـ(آل حكيم) جميعهم لأنهم كانوا يستشيرونك كأنك أستاذهم كما كنت لرفاقك أيضاً، أَعْلِم الوالد أن أرض جدته ( أَرا دتتوتا) قد تحولت وما حولها بآلآف المترات الى أحياء سكنية وطمئنه أن كنائسنا في تزايد وهي عامرة بالمؤمنين من مختلف بقاع واصقاع العراق...
عرشك الثاني ربما يؤذيك مرآه لأنك سترى رفيقيك الغاليين – منير وحنا – مقطعي الأوصال... رافقتك الحسرة والى ساعة رحيلك عندما حذر الجلادون ذويهم وأصدقاءهم من إلقاء النظرة الأخيرة على جثثهم كي لا ينكشف سر همجيتهم، وكنت تكرر: (ليس للقساوة حدود عندما يطلق عنانها) تمعَّن الجثتين يا أبا فرهاد جيداً لتكشف مدى مصداقية عبارتك تلك، أدري أنك ستطعم جلساتكم بنكهاتك الخاصة، وأنك ستبشرهم بزوال جلاديهم، أرجو ألآ تذكرهم بنصائحك لهم بضرورة الإلتحاق بفرق الأنصار في كردستان لأن بقاءهم في بغداد لا يخلو من خطورة على حياتهم، لكن لا تنسى أن تُذَكِّرهم بمأساتك القلبية التي رافقتك منذ تلك الأحداث وما لاحقتها من أزمات صحية أخرى، أعرف أن المرض قد انهمك بعد إجراء عملية فتح الصدر وتبديل الصمام والشريان، فكنت تتكاسل السير ولو لعدة خطوات خشية سقوطك بعد أن خذلك بصرك .
أتعبتَ أجزاءك يا أبا فرهاد ، فقلبك لم يغفل معاناة الشعب وفكرك لم ييأس من كشف الحلول لمعضلاته، وكأنك الأب الروحي له وعليك تقع مسؤولية إنقاذه.
حقا مجالس العزاء كانت تضاهرة جماهيرية شاملة عبرت عن عمق منزلتك، أمّا الدقائق الأخيرة من إنتهاء المراسيم فكانت جمهرة المعزين ويقدر عددهم أكثر من مئة شخص بين مسن وشاب منتشرين في الصالة وبهو المجمع الإجتماعي التحمت الجموع تحتضن ذوي المرحوم بالقبلات كأنهم في عرس فاختلطت الدموع ساخنة، حقا كان مشهداً درامياً معبراً قلّ نضيره...
رحلت وتركتنا نرتشف مرارة الفراق لتعمر عرش الوالدين والرفيقين...
الهامة النظيفة
كيف أُرثيك وانت الهامة
وأنت البرج
رايتك تعلو في سماها
من كمثلك يقتني الفخر محتشما
تجذرت ساريتك
فكان الصدق والإخلاص ديدنك
ولا تتباهى
رحيلك دوي
كصهيل الفرسان في الميدان
يشق صمت القبور
وهي تهلهل لهامتك
كي تزين ثراها
يا حكيم الحكيم
مَن مِن بعدك يشاورنه .؟
ولمن تهرع الآهة
فهل من يشفيها..!
لعمري ما سكبت لغيرِك دمعة
أسخن وأصدق وأنقى ..!
ما حزنت لرحيل غيرك
مثلما ألبستني القنوط
دون سواها.
في شدائد أتراحك سحقت الثبور
وفي أبهى أفراحك محقت التبرج
أي زينة تلك
ما أبهاها.!
الرذيلة وشم
كزينة الحلي يرتديها النفاق
وزينة وشمك الكرم
يا أُبَّهة الأخلاق
ما أغلاها ؟