مطران سانتياغو في مواجهة بطريرك بابل على الكلدان وبطريرك المشرق الأشوري في حضرة بابا الفاتيكان
ليون برخو
جامعة ينشوبنك – السويد
توطئةسنجافي الحقيقة إن قلنا إن الأمور تسير على ما يرام فيما يخص العلاقة المؤسساتية بين رئاسة بطريركية بابل على الكلدان ومطران إبراشية سانتياغو في امريكا. هناك صراع وهناك تحد وهذا جلي وتفاصيله واضحة للعيان.
وقد ظهرت مقالات عديدة حول هذا الموضوع والمشوق فيها انها دائما تحاول الفصل بين الرسالة الإلهية للكنيسة (الإنجيل والمسيح وصليبه) والرسالة المؤسساتية (الأرضية والبشرية). وهذا فرز لا بد منه لأن ما يحصل في خضم العراك الحالي بين الجهتين يدور حول السلطة والإدارة والمناطقية والإمتيازات والمكانة والجاه – الأمور التي ينبذها المسيح في إنجيله ويترفع عنها ويدينها أشد إدانة.
الإنجيل – حسب ما أفهمه – هو المحبة والتسامح والعطاء والغفران. وما نقراء عن الجفاء والصراع بين الجهتين وكذلك بين الكراسي الكنسية بصورة عامة اساسه مؤسساتي ارضي وبشري وليس إلهي.
والظاهر في هذه الكتابات ان اصحابها يؤكدون على هذا الفرز وهذا كان بالضبط واحد من الأهداف الرئسة لنقدي للمؤسسة الكنسية والذي في حينه (قبل اكثر من خمس سنوات) هاجمه البعض ولكنه اليوم صار امرا مألوفا حيث تلقفه الكثير من كتاب شعبنا.
أين مربط الفرس؟ورغم جراءة وصراحة ما قرأناه من مقالات في هذا الإتجاه، إلا ان التركيز ومع الأسف كان على النتائج الأنية اي الحدث كما وقع ولم نلحظ أي من الكتاب يضع لنا النتيجة والحدث ضمن سياقه: بمعنى اخر لماذا وكيف يستطيع أسقف تحدي رئاسة كنيسته أي البطريرك؟
ذهبت المقالات طويلا في التحدث عن النتيجة – تبرعات كرازات ومقتطفات من هنا وهناك – ولكن لم الحظ ان اي من الكتاب حاول التطرق بإسهاب إلى المسببات: لماذا وكيف وصل الأمر بمؤسسة الكنيسة الكلدانية إلى هذه الدرجة حيث بإمكان أسقف او كاهن تحدي ومواجهة البطريرك والرئاسة.
لا نستطيع فهم أي نتيجة او حدث دون سياقهما التاريخي وسياق العلاقة بين البطريركية وإبرشيات الإنتشار وكذلك سياق السلطة المؤسساتية والتي ومع الأسف تم سلبها من كافة البطاركة الكاثوليك في المشرق منذ منتصف ونهاية القرن التاسع عشر.
السياق التاريخيلا يهم إن إختلفنا او إتفقنا مع المطران سرهد جمو. مواقفنا قد تكون شخصية ذاتية او نابعة من ردة فعل لما نؤمن به وندافع عنه ونتخذ ذلك قياسا للوقوف بجانبه او ضده. وشخصيا انني لا اتفق مع الكثير من طروحاته ومواقفه وتشهد على ذلك كتاباتي ولكن هل سألنا انفسنا إن كانت مواقفه واعماله في مواجهته لرئاسة البطريركة الكلدانية على بابل قانونية ام لا؟
وضمن الإطار ذاته يقع حبنا ودعمنا للبطريركية. مهما كان حبنا لها كبيرا ودعمنا لها بارزا لن نستطيع تغير الواقع القانوني الذي يحدد صلاحياتها ويجعلها محصورة في منطقة محددة دون أخرى. السياق التاريخي مهم جدا لإلقاء الضوء على المواجهة الحالية التي كمفهوم وممارسة ليست وليدة اليوم.
السياق هذا يعود إلى زمن البطريرك يوسف اودو وإنتفاضته ومواجهته لمؤسسة اكبر منه كثيرا كي يحافظ على صلاحياته الإدارية والتنظيمية ولكن مع الأسف الشديد إنهار في اخر المطاف ومنذ ذلك الحين فقد كرسي بابل اغلب صلاحياته المؤسساتية وصارت الكلمة العليا لغيره وليست له وتحولت الشراكة التي وضع لبناتها بطاركة الخط الكلداني لكنيسة المشرق، الشراكة التي حفظت كل الصلاحيات الجاثاليقة كاملة إلى اواخر عهد البطريرك اودو، تحولت الى تبعية مؤسساتية شاملة ومطلقة.
الموقف القانوني الذي يعترض ويكتب ضد ما يتخذه وزير ما من إجراءات في السويد شيء وكون ان كان ما يقوم به الوزير قانوني شيء اخر. إن كانت اجراءات الوزير قانونية شرعية فكل صراخي سيذهب ادراج الريح. نعم حرية التعبير تسمح لي ان اصرخ ولكن القانون مثل الجبال التي تردد الصدى ليس إلا وتبقى هي شامخة. علينا تغير القانون او تعديله إن اردنا ان يكون صوتنا مسموعا وليس صداى وحسب.
القانون – وقد يفاجاء البعض – بجانب المطران جمو. إقراؤا قوانين الكنائس الشرقية الفاتيكانية بتمعن والتي جرى فرضها على مؤسسة الكنيسة الكلدانية في اواخر القرن التاسع عشر بعد فشل إنتفاضة البطريرك اودو. حسب هذه القوانين لا سلطة للبطريركية على إبراشيات الإنتشار، ليس الإبرشيات بل حتى الخورنات، وليس الخورنات بل الكلدان الكاثوليك برمتهم في هذه المناطق.
وحسب هذه القوانين فإن ما يقرره السينودس لا ينطبق على هذه الإبرشيات ومن ضمنها إبرشية الأسقف جمو.
بالطبع قد يرى القارىء ان هناك تعارضا وتناقضا في الكثير من القوانين التي تحكم العلاقة بين الطرفين ولكن الملاحظ ان اي ملم بالقانون ولو بصورة سطحية سيكتشف ان غاية المجمع الشرقي الفاتيكاني هي السيطرة على المقدرات المؤسساتية والإدارية ومهما حاولت التشبث بنص محدد لتقوية السلطة المؤسساتية للبطريركية في بلاد الإنتشار هناك نصوص كثيرة اخرى تحد منها لا بل احيانا تلغيها.
السلطة الإدراية المطلقة هي بيد المجمع الشرقي في الفاتيكان والذي منذ تأسيسه يرأسه كاردينال لاتيني ونواب وموظفون غالبيتهم الساحقة من اللاتين – إلا ما ندر – ولم يحدث حسب علمي ان ترأسه بطريرك مشرقي رغم انه يدير البطريركيات الكاثوليكية المشرقية. (رابط 1)
السلطة البطريركية محصورة بالأمور الطقسية والطقس الكلداني في افول كما يعلم الملمين به ولا أريد الإسترسال هنا لأن هذا خارج سياق موضوعنا.
الإزدواجية المؤسساتيةلا تستطيع أي مؤسسة وحتى على مستوى دائرة صغيرة جدا العمل بصورة جماعية من اجل خير كل اعضائها والمنتمين إليها ما لم تكن لها درجة من الإستقلالية في القرار. انا ادير مركز ابحاث صغير نسبيا ولكن موارده بالملايين من الكرونات السويدية. إن لم تكن لي إستقلالية في العمل والقرار التي تمنحها لأمثالي قوانين مصلحة التعليم العالي السويدية لنتف من حولي كل الهبات التي تصل إلى المركز من المحسنين السويديين ولرموني على قارعة الطريق.
كل المؤسسات الكبيرة – دولة، وزارة، مصلحة – في العالم المتمدن تمنح الدوائر والمؤسسات الصغيرة ورؤسائها قدرا كبيرا من إستقلالية القرار ولا تتدخل في كل كبيرة وصغيرة. هذا هو فن الإدراة الناجح اليوم ولكن لا اثر لذلك لدى المجمع الشرقي في الفاتيكان الذي لا يزال يتعامل مع قوانين بالية مضى عليها زمن طويل ولا تلبي حاجة هذا الزمان.
موقف شجاع؟؟؟؟وهنا اقصد المطران سرهد جمو حيث له موقف شجاع من قضية محددة وانا معه في ذلك قلبا وقالبا ولكن كما وضحت في العنوان الفرعي اعلاه هذا الموقف بالذات له اكثر من علامة إستفهام وهو مثال حي للمد والجذر والمواجهة بين البطريرك وأساقفته وحتى كهنته منذ سلب الصلاحيات البطريركية في اواخر عهد البطريرك اودو.
ففي مقال له شن المطران جمو هجوما مبطنا لاذعا على المجمع الشرقي الفاتيكاني ورئسه في حينه الكاردينال اوجين ووصف تدخله في الطقس الكلداني ضمن وثيقة له "بالفكر الأجنبي الدخيل" وعنون مقالته "الهوية الكلدانية بين بطريرك اصيل وفكر دخيل" وصاحب الفكر الدخيل يعني به الكاردينال اوجين والمطابع الغربية والأفرنجية (رابط 2). عندما يخص الأمر مسألة قومية يهاجم المجمع الشرقي ورئسة ولكن عندما يخص الأمر الصلاحيات المؤسساتية يتشبث بالمجمع الشرقي وهذا حقه لأنه ضمن القانون مهما كان مجحفا.
بالصيف ضيعت اللبنواليوم غالبية الكلدان في الشتات وقد لا يمض وقت طويل حتى يفرغ العراق من كلدانه وكما ان الهند ضاعت بملايينها وأزيلت من الخارطة البطريركية ومعها روسيا وبلدان الإتحاد السوفيتي السابق ودول الخليج العربي ومناطق شاسعة اخرى فيها مئات الالاف من الكلدان هذا بالضبط سيحدث عاجلا وليس اجلا شأنا ام ابينا لما تبقى من الكلدان في بلاد الإنتشار: أي ان دور البطريركية في الوضع الحالي سينمحي تماما في حال بقاء قوانين المجمع الشرقي الفاتيكاني على ما هي.
وفي غياب سلطة مؤسساتية تنظيمية وإدارية ذات إستقلالية ستكون الإبرشيات الكلدانية في الشتات وحتى الخورنات الصغيرة تابعة كل وحسب منطقته للأساقفة اللاتين. وفي غياب السلطة البطريركية كلٌ سيكون له لغته وطقسه وروزنامته وقوانينه ومواقفه – كما هو الحال الأن في اوروبا وغيرها من المناطق – والكل على حق لأن القانون الفاتيكاني بخصوص وضع الكنائس الشرقية في بلاد الإنتشار بجانبه رغم سلبياته.
بدل هذا السجال والمواجهة كان يجب على الأساقفة الكلدان برمتهم الوقوف صفا واحدا وتقديم شكوى بكل محبة الى البابا الحالي لأن رياح التغيير بدأت تهب على الفاتيكان منذ تسنمه عرش البابوية وهو ذاته يطلب من الكاثوليك تقديم نصائح وبدائل للقوانين القديمة وليس فقط القوانين المؤسساتية بل حتى الكثير من الدوغما الكاثوليكية في الكثير من الأمور التي كانت سابقا تعد مناقشتها هرطقة إلا انها صارت امام مطرقة النقاش والتغيير.
وترى اليوم مراكز ضغط كاثوليكية تحاول الإستفادة من رياح التغير هذه كي تثبت وجودها ومواقفها ومطاليبها منها الحركات النسوية وحركات مثليي الجنس وحركات ضد بتولية الكهنة وحركات ضد عصمة البابا وحركات لاهوت التحرير وحركات حرية منع الحمل وحرية الإجهاض إلى حركات تريد الحد من السلطات البابوية والبابا ذاته يستقبلهم ويسمع منهم وقريبا سيعقد مجمع فاتيكاني كبير لمناقشة كل هذه الأمور.
في كل ما أقراءه لم الحظ اي حركة للكاثوليك الشرقيين صوب تغير او تعديل الكثير من القوانين الكنسية التي هي بالـتأكيد مجحفة بحقهم لأنها صدرت في زمن ومكان ربما كان تشريعها مطلوبا ولكن ليس اليوم. الحق يضيع إن لم يكن وراءه مطالب.
بطريرك كنيسة المشرق الأشورية وبابا الفاتيكانمن المفترض ان يكون وفد برئاسة بطريرك كنيسة المشرق الأشورية قد إجتمع ببابا الفاتيكان في 29/9/2014 . كنيسة المشرق الأشورية رغم صغرها لها إستقلالية مؤسساتية تامة وتجري حاليا مباحثات على قدم وساق مع الفاتيكان.
لقد توصل الطرفان إلى إتفاق مهم ضمن نطاق الكريستولوجي christology. وحسب هذا الإتفاق يعترف الطرفان بالإيمان السليم والقويم للطرف الأخر وهذه مسألة مهمة للغاية ومع الأسف لم يستوعبها البعض حتى الأن رغم الإعتراف الإيماني المتبادل بين الطرفين.
حسب معلوماتي ستتركزالمباحاثات حول الأسرار sacraments للوصول إلى الشراكة التامة فيها. ولا أظن ان تكون هذه عائقا امام التواصل لا سيما في عهد بابا متواضع يحاول جهده التشبث بسيرة المسيح وتقديم نموذج لما يجب ان يكون عليه المسيحي الحقيقي اليوم.
وأرى ان كنيسة المشرق الأشورية محظوظة ان تجتمع بالبابا الذي صار قدوة إنسانية وأخلاقية في العالم ووجوده نعمة وهبة من الله وهو الزمن الموائم قد يمكنهم فيه بوجود شخصية بمقامه التوصل الى شراكة حقيقية تحتفظ فيها كنيسة المشرق بصلاحياتها الجاثاليقية كاملة مع شراكة ايمانية حقيقية.
بالطبع سيكون هناك مناقشة مستفيضة للشراكة المؤسساتية ضمن مفهوم constitution. وامل ان يقراء المفاوضون من هذه الكنيسة العريقة هذا المقال لأن إن تم تطبيق المناطقية على كنيستهم واغلب إبراشياتها حاليا في بلدان الإنتشار معناه ان كل إبراشية ستصبح مستقلة لذاتها وهذا يجب ان لا يحدث لأنه سيكون بداية النهاية لإستقلاليتهم المؤسساتية وهويتهم ككنيسة مشرقية عريقة تضرب جذورها في اعماق التاريخ.
تثبيت وتعزيز هوية كنيستنا المشرقيةمن المؤكد ان كنيسة المشرق الأشورية لا تزال محافظة للهوية المشرقية لكنيستنا ولا بد من الإشارة الى كلية مار نرساي في إستراليا التي فيها الاف الطلبة من ابناء شعبنا يدرسون ضمن مناهجهم التربوية الإسترالية لغتنا القومية وطقس وأداب وفنون وموسيقى وتراث كنيستنا المشرقية. وكل الخريجين يقراؤن لغتنا القومية بطلاقة ويدرسون اداب هذه الكنيسة العريقة وتاريخها ويرتلون من جواهر طقسها ضمن دروسهم.
كم اتمنى ان ارى كلية مشابهة لكلية ما نرساي الأسترالية في اوروبا وأخرى في امريكا وأخرى في كندا وفي كل مناطق الإنتشار. وهذا ليس امرا صعبا على اساقفة هذه المناطق وشخصيا لدي مع بعضهم حوارات مهمة وبإمكاني تشخيص إمكانيات وقدرات هائلة كامنة تمكنهم المنافسة مع استراليا لخير شعبنا بأسمائه المختلفة وكنيستنا بمذاهبها المختلفة. في غياب المدارس والكليات سنخسر الهوية لا محالة.
وهكذا ستحفظ هذ الكنيسة لنا لغتنا القومية وكذلك تراث الأباء والأجداد وفنونهم وثقافتهم كما كان شأنها منذ تأسيسها قبل حوالي 2000 سنة وهذه هي اروع ثمارالحضارة الإنسانية التي تشكل الهوية لأي امة او كنيسة تحترم نفسها وذاتها وتاريخها ووجودها ومكانتها واستقلاليتها بين الأمم والكنائس.
++++++++++++++++++++++++++
رابط 1
وهذا رابط لمقال في غاية الأهمية للزميل العزيز الدكتور عبدالله رابي يتناول ذات المسألة وبإسهاب:
http://www.ankawa.com/forum/index.php/topic,712859.0.html رابط 2
http://www.kaldaya.net/Articles/400/Article486_May29_07_BishopSYJ.html