ألعفة عند الكهنة والواقع المنظور
د. صباح قيّا أعود عشرات السنين إلى الوراء وأنا أستعرض خيوط الحوار بين المرحوم والدي والمرحوم احد أصدقائه من القسس من نفس ضيعته والذي كان يزوره مراراً بغية إقناعه للسماح لأحد إخوتي الصغار ألذي كان في المرحلة الإبتدائية آنذاك للإلتحاق إلى سلك الكهنوت لما لمسه من حماس أخي واندفاعه الممزوج بعقله الطفولي الساذج لإمتهان العمل الديني من خلال الرتبة الكنسية التي سيحملها بعدئذٍ ... أتذكر جيداً رفض والدي بصرامة لم تقبل المساومة إطلاقاً وتإكيده على ضرورة زواج القسس ، وأنه لن يسمح أن يدخل أيٌ من أبنائه ذلك الحقل إلا بعد أن تسمح الكنيسة لرجال الدين بالزواج قبل رسامتهم ككهنة ... لم تفلح كافة محاولات راعينا النجيب لإقناعه وتغيير رأيه وكانت النتيجة امتعاضه ( أي زعله ) ولم يصل دارنا بعدها ... أفهمني والدي رداً على تساؤلاتي وقتها بأنه ينطلق من تجربته الشخصية في باكورة شبابه ، ومغادرته دير ( ربان هرمز ) إلى غير رجعة بعد مكوثه فترة وجيزة فيه ، مخيباً ظنّ وآمال المرحوم جدي الذي نذر احد اولاده ليكون راهباً ... وأضاف بأن للجسد غرائزه الطبيعية يتعذر بل قد يستحيل قمعها ، ولكن يضطر الكاهن لكبتها ثمّ تبرز كسلوكيات ومزايا تؤثر سلباً على موقعه الروحي والانساني ، وفد تقلل من الإحترام والإجلال الذي يجب أن يتمتع به بين الرعية ... وكانت معظم محاججة والدي للأب الجليل تصب بهذا الإتجاه ... ولم يرُق مثل هذا المنطق للكتيرين بالأمس ، وحتماً له اليوم صدىً آخر .
كان زواج رجال الدين معمولاً به منذ نشأة الكنيسة رغم المحاولات التي سادت في العام 300 بعد الميلاد وبعده لإيقافه . واستطاع البابا " بندكت الثامن " في القرن الحادي عشر منع الزيجات الجديدة ، وأيضاً حرمان الأبناء من إرث آبائهم القسس والمطارنة كرد فعلً لإثرائهم من واردات وممتلكات الكنيسة ، والذي سيرثه الأبناء من بعدهم ، علماً بأن القوانين كانت لا تسمح للبنات بالأرث . ثم جاء البابا " كريكوري السابع " في نهاية نفس القرن ليلغي كافة زيجات رجال الكهنوت في إجراءٍ فريدٍ من نوعه بغية كبح قرصنة المطارنة الطاغية ذلك الزمان ، ومن لم يمتثل للقرار غادر جسم الكنيسة إلى يوم الدين ..... ولا تزال الكنائس اللاتينية تلتزم به ، ما عدا ، استناء من شروط العفة ، عند قبول المتزوجين من آباء المذاهب الأخرى للمذهب الكاثوليكي ، والذي صدر في تموز 1980 ... وهنالك من الكنائس التي هي في شراكة إيمانية مع الفاتيكان من تقبل المتزوجين لسلك الكهنوت ، وتشمل ، من حسن الحظ ، كنيستنا الكلدانية ، وأيضاً الكنائس الكاثوليكية المنتشرة في جمهورية جيكيا ، المجر ، سلوفاكيا ، أوكرانيا ، وربما أخريات في الشرق ، وهذه الممارسات أقرب إلى الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية .
تشير الإحصائيات في الولايات المتحدة عن نقص في سلك الكهنوت بنسبة 17 % منذ عام 1960 ، رغم زيادة الكاثوليك بنسبة 38 % . كما أن عددا غير قليل من كل بقاع العالم غادر الكهنوت بقصد الزواج . وهنالك من يدعو لعودتهم مجدداً لسد النقص البارز في عدد الكهنة ، ولكني شخصياً أتحفظ على ذلك
... فالذي يعصي بحجة عدم تحمل "العفة " سيعصي لأسباب أقل أهمية منها ... وداعاً له ومع السلامة .... كما تشير الأحصائيات بأن 20 % من القساوسة الكاثوليك متزوجون ، وأمنيتي أن ترتفع سريعاً لتصل 100 % . .. لماذا ؟ لسبب بسيط جداً وهو قناعتي كقناعة المرحوم والدي بأن الغرائز الجسمانية الطبيعية لا يمكن قمعها .. وليست قناعتي مجرد رأي شخصي أو معلومة أبي وحسب ، وإنما مضافاً إليها معرفتي ودراستي المهنية لوظائف الجسم عامة وأعضائه المتعددة خاصة وما يطلق عليه ب " علم الفسلجة " . ورغم إيماني العميق بالكتاب المقدس وتعاليم "سيدنا المسيح " له المجد ، وإدراكي بأن " العفة " ضرورية للسير على خطاه ، وأيضاً لتكريس ما جاء برسائل القديس " بولس " ، والتفسيرات اللاهوتية المتشعبة حول الموضوع ، إلا أنني ، وبصراحة ، لأ أستطيع هضم من لا يتماشى مع حقيقة
أن الكاهن مهما بلغ في مرتبته الروحية والكنسية ، يبقى بشراً كسائر البشر له أحاسيسه ومشاعره ورغباته وحاجاته التي تحركها الماكنة الطبيعية للجسم ، والتي كما تسعى لإشباع غريزة الجوع عنده ، فإنها أيضا تتوق لإشباع الغرائز الإنسانية الأخرى وأهمها غريزة الجسد ... وتساؤلي من الذي لم يخالف وصية الله السادسة أو ألتاسعة ؟ ممكن الإجابة بعد مراجعة الذات بأمانة ... وسؤالي الأهم : من الكاهن الذي يعمل بمواهب الروح القدس ويتحلى بثماره في زمن كل شيئ فيه متيسر ومباح ؟ .... ومن الذي يتقيد بوصايا الله العشرة في وقت ذاب المحظور في بحر الحرية المطلقة ؟ فإذا كان من اليسير عليه أن يحجم عن واحدة ، فهل يصعب عليه الإحجام عن الأخرى، وخاصة التي تخزن في داخلها قوة جامحة قد تكون كامنة لبعض الوقت ، ولكن إلى متى ؟ والمغريات بلا حدود وسهلة المنال ...
لا أريد الخوض بما هو معلوم ومعلن من فضائح وخطايا القيادات الكنسية الغربية نتيجة " حكم العفة" المفروض على الرعاة الكاثوليك جميعاً .. وقد يتبادر إلى الذهن بأن " العفة " من سمات آبائنا الأفاضل فقط لشرقيتهم المحافظة ، وغاب عن الأذهان بأن العادات الشرقية تتجنب الفضائح وتستر المكشوف ، وتفعل عكس ما تقول ، وتقول ما لا تفعل ... وقد رأيت بأم عيني مطراناً في بغداد يقف بعد القداس مباشرة يتلقف قبلات الحسناوات وعناقهن ويظل ممسكاً بأيديهن ما دامت تشع حرارة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى لا يكترث بل لا يرد السلام ، وإذا أجاب فبجفاء ، كون الصوت ليس أنثؤياً .. وسيادته من مجتمع شرقي على نياته ... وأذكر أيضاً في زيارتي لأحد القساوسة الأصدقاء في مدينة الرشيد والذي وافاه الأجل قبل سنوات . وخلال وجودي معه جاءته مكالمة هاتفية فهمت من خلال الحديث بان على الجانب الآخر قسيس . وكانا يتكلمان باللغة الكلدانية ، كانت المفاجئة لي حينما سأل محدثه فيما لا تزال " ألمرأة المسلمة " مستمرة بالتسلل إلى سكن احد الآباء الذي أعرفه جيداً ولا يزال حياً يرزق .. ربما اعتقد واهما بأني لا أفهم الكلدانية فأخطأ الهدف ...... وفي أكثر من زيارة من زياراتي الطبية المنتظمة لدار رعاية المسنين في العاصمة بغداد ، لمحت كاهناً من معارفي هناك. إعتقدت أنه آت لمنح بعض من بركته الواسعة لكبار السن ، واكتشفت بعدها أنه على علاقة غرامية مع إبنة من تشرف على الدار والتي تزوجها ، والحمد لله ، تاركاً البلد والكنيسة نحو أرض الشتات ، وحسناً ما فعل .... هذا غيض من فيض .......
ما دفعني لكتابة هذا المقال بسبب مناقشة هادئة مع إثنين من أقراني حول رعاة كنائسنا .. أبديت رأيي بأن لكل فرد سلبياته وإيجابياته ، ولكن المقياس يأتي من محصلة الميزتين ، وذكرت إسم أحدهم وقلت بأنه على الأقل لا يزوغ بعينيه ، وما أن انهيت كلامي حتى انتفض الإثنان معا ً خلاف ذلك .. تألمت كثيراً في حينه ، ,اخبرتهما بأني مع زواج الكهنة ، وما دام الأمر على هذه الصورة فسأدعو إليه بشدة ... فإذا كانت دوافع " حكم العفة " سياسية ولاهوتية ومادية ذلك الزمن ، فبالإمكان إبطاله استنادا إلى نفس الدوافع ...
فيا كهنة المستقبل تأهلوا ... كي تجعلوا " حكم العفة " منظوراً واقعياً لا زائفاً ...