المحرر موضوع: الحكاية من الداخل 2  (زيارة 1311 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل برهان الخطيب

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 40
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي
الحكاية من الداخل 2
« في: 00:21 22/12/2014 »


الحكاية من الداخل 2

برهان الخطيب


المؤلف قبل كتابة رواية يجابه ديناصورا يبُعث حيا، يُفترَس منه.. أو يصعد ظهر الوحش. من أجل نتيجة طيبة يستنفر كل قوته الظاهرة، في عجز يلجأ إلى الاحتياطي منها، إلى خفية، قد يستلهمها من تعاويذ وملفات وحكايات وتنازلات، إلهام الروائي يمتزج ببداياته، يتحرك الوحش من الماضي، له سن ناعمة هذه المرة، في فم وليد نهاية الحرب العالمية الثانية، سن تبدو غير طبيعية، تفصيلا بل ظل روائي عنيد، لنص له تعقيد، من زمن عربيد، كشف فحواه يحرر الآه، وقد يستجلب مشاكل ويخاصم فطاحل، يستعاد ما قيل عن مسنون، ريتشارد الثالث، لويس الرابع عشر، غيرهم، يُولدون مع لعنة في فمهم، سن صغيرة، تصدّق الجدة بلقيس والأقارب ذلك، تؤكد رغم الانتظار المتشوق الطويل لميلاد أول حفيد من ابنة أثيرة بأنه قد يجلب شؤما، عليه المرور بالموت بطريقة ما، فيطير الشر المتربص ويعود الخير يسكن بيتها. وعلى ديدنها في مزج الخارق والمألوف يتفتق خيالها المتحاور مع الطيور والأفاعي والملائكة المارة وراء المكشوف، خاصة عند الوسن والشجن والمحن، عن تدبير لا سابق له ولا تصوير، يتلخص في رمي الطفل المسنون من السطح مصحوبا بنذير، وعلى الأب أو غيره أن يكون في ساحة البيت مستعدا بحسن تدبير، لتلقفه وإنقاذه من مصير عسير، بعد ذلك الخير وفير، أو يهوى على الأرض ويخسروه، ومعه خطب خفي غير يسير.
 لا يتمكن والده في ساحة بيت الجد عن الأم رغم صياحه من ثني خالته عن عزمها الخطير، تحمل الطفل بعد الأربعين يوما تمضي إلى السطح في نية التغلب على القدر، بما يميز الآدمي من قوة وحذر، والوالد يهرع من حجرة النفاسة متعجلا استبدال البنطلون بدشداشة، في طقس يتجاوز النجاسة إلى قداسة، الأصح تسهيلا للقف طفله في الحضن، كأن كل ذلك يجري على شاشة.
 
 يُنقذ الطفل طبعا، من حكايته يطلع راوية، بكلمات يصور ديدن غابرين ومعاصرين، قتل معلن وآخر لا يبين، تفاصيل تفاطين يصممها لزمكان عاقلين، بينه بينها مسافة لرؤية ويقين، مبكرا ينجز "خطوات إلى الأفق البعيد" يتبعها "ضباب في الظهيرة" عابرا محنة وأخرى إلى مدى بإرادة لا تلين.
 يصطاده والده بين أطراف الدشداشة، كسمكة لاحقا من الفرات، ترتفع هلاهل، ميلاده الحقيقي يبدأ، أسطورة تصنعها الجدة تنفذها ببصيرة ثاقبة، ثم يفتح الجد شيخ مهدي والد أبيه قرآنه مغمضا عينيه، يضع إصبعه على مهبط للوحي يقرأ: قل جاءكم من الله برهان. يقول هذا اسمه. والطفل يمشي بعد حين.. كرئيس الوزراء برهان الدين باش أعيان.. بطة ممتلئة.. تغري لقنص وترقيص وتلحين..
غالبية ترفع محاسن فوق عيوب في اعتراف، أي اعتراف معرض طعن، أيها السارد لا تظهر نفسك متأنقا عطرا كريم محتد، القارئ الفطن يفهم كم من الصدق في كتاب وخطاب. تموه تفاصيل وأسماء حماية لخصوصية أصحابها والسارد ذلك حق، كذلك ليس كل شيء يُعرف، ولا كل ما يُعرف يقال، تحلّق فوق الأرض لا ترى نصفها الخفي عنك، والبعض في ابتكار عراقي بامتياز ُقتل ويُقتل لموقف، لكلمة، تموزي، الحسين، فهد، الملك فيصل، قاسم، الصدر، صدام، طويلة قائمة الذين اقتيدوا على أرضنا إلى حتفهم لهدف عام، ذلك يجعل لموضوعهم قيمة وقيام، على كفة وعلى الأخرى حياتهم وإلى أمام، وما يزال الباب مفتوحا للأنام.
 
نصير حكاية، عن اختلاف ورغبة في وئام، مطلوبة، مسارها من نطفة إلى عصبة مذمومة أو مرغوبة، و لكل حكاية بداية ونهاية، كثيرا ما تكون بجريمة مصحوبة، بعاطفة مشبوبة، حادث يكبر يستحق السرد، لجمهرة صاحية وأخرى معطوبة، بفن تنجز.. تذيع تشيع، لـ وعن حياة تنقضي من بقاء إلى فناء، غالبا مرعوبة.
 
 تسعيرة الحياة في عراق اليوم مائة دولار، متغيرة حسب السوق، تلك معلومة من شخص يحدثني عن شيء أعرفه، فلا يجوز الكذب والهذر، و ربما السعر أرخص على مكان تحضّر. العالم برأيه يخربه مصلحون. عندهم القتل تفليس حَب. قبل ذلك يصل أو لا يصل تنبيه إلى مَن عليه النور والدور، علنا وربما من أقرب الناس، همسا من عابر سبيل في غير إحساس، كي لا يشاع صاحب الطلب مبتذل أو غدار، لا، كذلك مِن القتل في بغداد ما يُحب، تكريما لـ .. ومِن الحب ما قتل.
بلي، من جريمة أو محاولة جريمة تبدأ رواية، لا من عدم أو ندم، الدافع للسرد متنوع، كالمدفوع، فضول، تقصٍ، شهرة، رغبة محبطة أو مشتتة، تشف، ذلك في واقع وخلفية، في رواية تصير أممية، يُستخدم السرد فوق التشويق لسبر ضفاف، لتزويق أخلاقي وسواه، يرفعه يبرره، حيث البشر أرقام معادلة، مفاهيم فلسفية، رموز قراء.. ومنهم، فيكتسب كتاب جدواه، سلعة تموسق الآه، تقتل الضجر، تشحذ الانتباه.
 
 من أين تبدأ؟ يسأل كاتب نفسه مرات ذلك السؤال وغيره، في محاولة لملمة وعرض تفاصيل وافرة، كل شيء يخضع لمساءلة واتهام، ضرورة هذه الجُملة وتلك الكلمات، النص مفتعل من غير تبرير، كذلك ضروري ترويض حادثة روائية تنزع لغيب وتغريب، تجمح إلى غير الممكن، تصير عصية على التصديق، كل ذلك في صراع متأجج حول الكاتب، فيه، فعلا ناميا بـ  ولتجسيد الصورة العامة، وقت الشد والجذب فيه وخارجه من قوة وأخرى حتى ذروة تجل وغياب. 
مجرم محترف لا يترك أثرا دالا عليه، كذلك الروائي، نقيضه.
ذاك البوكسر يتحرك من حقيقة إلى وهم، في حسم، يبدأ الهدم. والروائي، البودل، من وهم إلى حقيقة، بحدس، يضبط، يدقق وقائع، يدعم الواقع، من تخريب إلى بناء، وخلاف المحترف ينتقل من رذيل إلى فضيل.
 
مع سن مبكرة كل شيء مشكوك فيه، ثم كما في رواية عميقة مبهرة يتضح العكس هو الصحيح، الجدة تتصور مجاعة وفيضان وشك اندلاع، يتبدى العام من أحلى الأعوام، يتذكر الوالد.. الحرب تنتهي، الأرض تزهر، يمر فيضان الفرات ناعما، تمتلئ مناضد الطعام والأسواق بالأرزاق، والقلوب بالأشواق، مخزن الجدة بهدايا الأهالي بعد استقبال طفل وآخر جديد، راتب التعليم إلى ترفيع، يغضون الطرف عن محاضرات خارجية، يرسل العم والعمة إلى العاصمة لدخول كلية، الجد مهدي بعد التثنية يفرح بأول حفيد بين يديه، لا يزور الجدة في كربلاء غير مرة كل شهرين، يتهمه الوالد بإضاعة الذمة والعمامة، بتغليب دنياه على دينه، وتحدث القطيعة..
الجد المعمم غاضب، ابني الكبير عاق، يعاشر شيوعيين، يدخل يهودا بيته، يعاقرها خفية وعلنا، فماذا انتظر منه؟ لا قدم له في بيتي ولا لي في بيته، ربيته خرّجته بأول دورة تعليم في العراق للغة جناب الانكليز فليكف عن ثرثرة المعيز يصرف من راتبه على أمه ونسلها العزيز.
 الوالد يأخذ ابنة الخالة زوجته وطفليهما يبتعد عن الجد عن بلدته المسيب إلى مركز اللواء، الحلة، ربع راتبه لأمه وصغارها في كربلاء حتى يستقل الأخوان الأصغران عن الخالين، يفتحان ورشة حدادة، يقول لهما دوركما حان، يبقى يدفع لأخته وأخيه الثالث نصف مصروف دراستهما بكلية دار المعلمين ببغداد، لا تنتهي المشاكل حتى بوفاة الجد والابن البكر وروح العائلة بعد عقود..
 جذور المشكلة في الماضي نعم، في إخفاقات تصير لغافل ذكريات سعيدة، لروائي تظل تعيسة، سوءَ فهم يتطلب التشريح، السبر، كقرد على جلده وجلد أخيه، علاجا ذاتيا، تلقائيا.. بسرد مضاد للشائع المعتاد.
 
تخيب مساعي التوفيق بين الوالد والجد، وبينهما والعم والعمة، تستمر جلسات العصر والخمر والسياسة والكياسة على اليسار في الحلة، على اليمين في المسيب مجالس العزاء ولوم الأبناء وأولهم الأكبر لخروج عن المألوف، الصبي في الوسط يفكر ويفكر، صراع بلا طائل بين أقرباء، يصيّروه لأضداد وهو لأنداد، في ظله يكبر من طور إلى طور، من كتكوت إلى طير، يبزغ شاربه قوس قزح يعيده إلى الأفق بلا فرح..
مشكلة مزمنة حادة، تترك في نفس مرهفة ندوبا، تزهر أدبا، صبّارا في بور..
 
أخيرا ربيع حقيقي، تلاميذ مدرسة حمورابي الابتدائية عصافير تزقزق، قفص الباص اللامع بالدملوغ، السفرة المدرسية الفصلية إلى البلدة القريبة، مسقط الرأس والأحلام، جارة الفرات وبابل أم الدنيا، مهند ابن مدير المعارف يقتفي المعلم، لا يدري ماذا يفعل، أخيرا يقترب إلى الصبي ابن معلم الإنكليزي، يسأله: تركب خانة الشواذي أو الصدر؟ آخرون ينادون للالتحاق، لا يترك مهندا وحيدا، يجره معه إلى حوض الوسط، غناء، تصفيق، ضحك لا ينتهي، ظهرا يفتحون صرر الطعام، معه حقيبته المدرسية، أكبر كمثرى تراها عين تتدحرج، أجنبية يشتريها والده خصيصا له للسفرة، لا يكره التلاميذ واحدا منهم، على العشب قرب سدة الهندية تحوم عينا مهند فوق الحقيبة وهو يقضم شريحة دجاج، ألذ طعام في حضن الطبيعة الأم، يصعب العلس قرب زملاء بلا طعام، يتلقفون البطاطا وبيضة. يسأله مهند: والأجاصة لمن؟ يرد الصبي: تفضل، خذها..
تمتد يد المهذب الجم تسحب الكوكب الدري، يُضاء وجهه، يسكت التلاميذ، تخشخش الثمرة، تقطر عسلا، يعود التلاميذ إلى اللغط والخبز مبتسمين، غانمين السلامة، من أسنان مقحامة..
يتوقف الباص على تقاطع شارعي المسيب، جولة في سوقها ساعة، يحيطه زملاء لاقتحام الولاية والتوغل إلى النزيزة، يحذره معلم الرياضة: أبوك لا يريد روحتك إلى بيت جدك!..
مهند يلتزم الباص. الصبي يعترض: ما نهاني عن زيارته.. تجيء معنا مهند؟
ينضم ابن مدير المعارف إليهم.. يسكت المعلم.