المحرر موضوع: مرآة الصبا تتهشم الحكاية من الداخل3  (زيارة 1385 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل برهان الخطيب

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 40
  • منتديات عنكاوا
    • مشاهدة الملف الشخصي


مرآة الصبا تتهشم
الحكاية من الداخل3


برهان الخطيب


حصان الجد وبقرته في حجرة الاستقبال، يتطلعان إلى القادمين في فضول، زوجته الثانية رغم ولادتها ثلاثة أعمام على تسميتها القديمة "الجديدة" تعلف الدابتين الجت وأوراقا جالسة على ديوان، لا يسلم عليها كعادته بعد دخول البيت، ولا هي مهتمة بأحد، دقيقة مزاح مع الحصان ويتركون الاستقبال إلى الحجرة الداخلية، أربع درجات فوق ساحة البيت، الجد يقرأ كتابا على حصيره، عمامته جواره، يضعها على رأسه إذ يراهم عند المدخل متوقفين في انتظار ترحيبه..
أخيرا يتقاطر زملاؤه يقبلون يد الشرع، يصليه الجد بنظرة حمراء: وأنت، تتشبه بالزنديق والدك! يد جده أمامه، من الخلف يدفعه صديقه الحلي، الشاعر المعروف بعد سنوات، يقلد الزملاء أول وآخر مرة في حياته مهمهما: لا تتكلم عن أبوي بسوء.. جئنا نشوفك نسلم عليك.. جدّو..
 تلك اللحظة يكبر، غير سهلة وقفة تحد وقرار، حتى من ذي محتد وأصول قيل، كذلك بعيد الشجرة في أول ظهور ببنطلون جنز في المدينة، يتفاخر مدير المدرسة الشرس بخطبة الخميس بأناقة الصبي المشورب، لحظات لا تنسى تستحق السرد وعمه الأريب لا يهتم لها بما يدوّنه في مجلة الأديب بعد فصله من دار المعلمين متهما بالشيوعية.. يضطر الجد ليبتسم، عيناه صفراوان كهرب، كعيني الأخت الوسطى، صلبتان كنبرته:
_  بوشت! تحكي كباريّة مثل أبيك، شلونه؟ صداقته مع المنكر أين وصلت؟
يتجاهل الصبي السؤال، يلتفت إلى مهند مهادنا: تعال سلم على جدي الشرع!
 مهند يهمس من مدخل الحجرة: ما أقدر انزع حذائي، عندي فركاس والدنيا باردة، انتظركم هناك. يتراجع إلى ساحة البيت. يضحك التلاميذ، يُنعت منذ ذلك الحين: فرجاس ما ينجاس.
لا يلومه الصبي على انسحابه السريع، ولا نبزهم له باللقب البديع..
معتاد.. شخص لا يتدخل في غير شأنه، آخرون يبحثون عما يُضحك في بؤس، ذاهب بعيدا لاختزان انطباعات رواية قد تُكتب مستقبلا.. من حساب إلى حساب..
حادث آخر وآخر يستحق السرد لا يلتفت عمه إليه، عراك أثناء نقاش تلاميذ، انشطار مهند عنهم، حلقة السياسة الأولى، الكل طرف في معركة رغم أنفه، باختصار يبدأ الصبي يرى الواقع قصة، مثل كبار، العم لا يستمع له حسنا، يكتب همّه ينشر، ذات الوقت يتوجب الحذر لصد خطر، عنه عن الأهل، يبرز حتى من نقاش بين العم الثوري والخال الملكي، تلقائيا يقف هو مع فقراء العالم، مسافته عن صديقه مهند ابن مدير المعارف، أياد ابن المتصرف، ضياء ابن وكيل الإنكليز بالسوس، أحمد ابن مدير الشرطة، بل وعن ظله، تصغر تكبر بما ينتاب من خلاف معهم في أنَفة، من خوف طرد من مدرسة، داخل حلم كبير.. في ألفة.
الصبي يقفز فوق المراهقة إلى رجولة، كذا تعترف أمه لجارتها، في عزلة بغرفته يقرر وضع مدونة أفضل من التي يدبجها عمه، لا يطلعه عليها حتى تكتب صحف عنها يطلبها منه، كي لا ينسى الوعد يخط رقعة "لا تثق بأحد" يضعها تحت زجاجة منضدته، بين صور مدن مراسليه من مصر ولبنان والسعودية، يراها أبوه يعاتبه على "انفصاله" مبكرا عنه، يرد بوحي مما يقرأ: كل الثمار تبتعد عن أشجارها في النهاية. يحزن أبوه عن جد: كذلك تنطق الحِكم مبكرا مثل أنبياء.. ليتك لا تُرجم يا ابني من جهلة في المستقبل! تتغير معاملته له، يبدأ يحترمه.
ومثلما يتشوق الصبي "المفكر" ليكبر لا "يتهيب صعود الجبال" يغمه الكبر لاحقا في عالم "كثير الحفر".. 
 
إحساس بازدواجية وثنائية الوجود يداهمه تهديدا قبيل البلوغ، قبيل 14 تموز المعروف، بدنه لصبي و.. رجل فيه يشتعل، كما مصر بالعدوان الثلاثي عليها تشتعل تغدو مشعلا، نورها ينصب من الراديو في كل البلاد المنكوبة مثلها، بحرب وفقر وأمراض وجهل، يسكته والده حين يدمدم قربه: ضروري نثور أيضا، سيادة كرامة ينقص الأمة. يكبر الخطر على مثيري عواطف واضطرابات، مَن يصل خبره مركز الشرطة ولا واسطة له يقلعون أظافره، رغم ذلك يلتهب التلاميذ حماسة، أبوه يخاف الفصل من مهنته التعليم، عمه ينتظر إعادته لكليته، خاله يظل لغزا دائما، صديقه م خ هناك حذر في العطلات، هادئ، مبتسم، دمه يركض أزرق في عروقه الشفافة، جلده أبيض ناعم، مجمل كلامه يتطابق مع أحلام الصبي، من هناك بداية..
باجتماع البستان القريب من بيت الجد يتفقون، تأجيج مظاهرات في البلدة ومركز اللواء.. يعود الصبي إلى مدينته، ينبذ المناوشات مع والده وجارته. مع ثلاثة من زملاء مدرسته المتوسطة يدور على بيوت ومحلات ناس يعرفهم ولا يعرفهم، منهم مدرسون، يتطور نقاش إلى خصام، المظاهرة تندلع أخيرا، المدينة تنضم إليها.
 
 قوى ظاهرة خفية تحرك الناس، أشجار في عاصفة، تتغير اتجاهات الريح ومواقع الكائنات، كذلك الصور والأفكار في رأس محتار، معادلات و نتائجها خارجه، بين شك و يقين، هزل و جد، تتشكل خلية أولى، جوقي القصير، محسن المسلول، مالك الحزين، طالب آخر من صفهم أول متوسط، التفافا حوله، أثناء الفرص، خارج المدرسة، يناقشون هدم سقف العراق، حرث أرضه بأظافرهم، العالم كله يتزلزل أمامهم تحتهم، يبقون جعلان تتمختر أو يقولون كلمتهم، يصدر أول قرار.. يسمعه السمك اللابط والبط واللا بط المُجتمع مثلهم عند الشط..
 
الصبي أبو شوارب المخشوشن الصوت يقترح بتعليم سابق من م خ: ننشط خارج مدرستنا، وجوهنا وجوه برت لانكستر وكيرك دوجلاس وكلارك غيبل معروفة فيها، نروح إلى الثانوية، يشكّوا في أعمارنا الصغيرة نفهمهم أرسلنا القادة الكبار، لجنة ثورية.. كلفتنا إخباركم..
_  ما هذا؟! لم تقرءوا عن غافروش الثورة الفرنسية، المظاهرة اليوم بعد نهاية الدوام، الجميع يشارك، المتأخر خائن، تطوق مصر الشقيقة وبغداد كلبجة حلف ونحن نأكل لبلبي هنا.. أين الغيرة.. أين الحَمية؟!
 لا يتوقع الصبي وميسرته المسلول أي دوجلاس، وميمنته جوقي أي غيبل، يحمي ظهرهم الحائر مالك بدل الحزين من مسعور قد يهجم على داعية الثورة، أن يكون لكلامه فيهم، من وراء سياج الثانوية، تأثير الفلفل الملهب في دبر جحا. الحماية المشددة حوله تترك إلهامها حتى في الطلاب الكبار وراء القضبان، قرود سجناء انقلبوا غوريلا، ثوارا، بعضهم يسأله متلمظا: من أنتم؟ كم تدفعون، أكو ركوب؟.. يكذب جوقي: كيف لا تعرفنا، إذاعة صوت العرب تتكلم عنا، نحن من اللجنة الثورية لتنظيم مظاهرات الحلة أم الباقلا!
 اليوم التالي توصد مدرسته، يعود مع جوقي والمسلول والحائر إلى المدرسة الثانوية، قرب سورها ينفخون صدورهم: يا جبناء، صغار المتوسطة والدلقلية أشطر منكم! يلازمون المقهى المقابل في انتظار نهاية الدوام، قبل أول هتاف منه بين الطلاب تنتظم المظاهرة، مَعلما في تاريخ اللواء، عفوية، صاخبة، في سيل عرمرم، متوقعين ظهور الشرطة بين لحظة وأخرى.. و تحدث معجزة..
 
و يسكت الأديب الأشيب أمام جمهور الأمسية الأدبية ملتقطا أنفاسه، يضيف:
_  تظهر عربة محملة بالطابوق أمامنا صدفة..
 
في الطريق إلى المطعم الزجاجي يكشف رافد، بعد نصف  قرن، سر العربة:
_   لم تكن معجزة ولا صدفة ولا عجب.. العجب عن غموض.. عن جهل..
 
مرآة الصبا تتهشم يوما دون خسران، يدهش لصورته الجديدة، الحصيلة لا قيمة لرواية بريئة في عالم غير بريء، ولا قيمة لرواية غير بريئة في عالم يفقد براءته، براءة العالم لا تستعاد برواية، بروايات، ممكن ترميم براءة إنسان بها، لا الإنسان، ذلك يعني وضعه في مجابهة ضد غيره.. ذلك أفضل من غفلة؟!
 
بالكبر تغيّر صور ما لها من أثر إلى غير المتوقع، إلى تغير المندثر، تحريض طلبة دون رد فعل لا يمر، والده ينذر: الشرطة منتبهة لك، الهدوء لازم.  و.. تمرر الخطر منه وعليه، جزءاً من حصة مشاركة قوة خفية تنوي قلب الأشياء؟ النظام وقلبه من مصدر واحد؟!
بعد التغيير لا يدهش والده من رفعها شعار الناقمين والجماهير، تنشد معهم:
اسألوا الشرطة ماذا تريد.. وطن حر وشعب سعيد!.. 
طبعا، شعار خصم ليس ملكه.