المحرر موضوع: وحيد في القرية قصة قصيرة في زمن النزوح  (زيارة 1185 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل غسان سالم شعبو

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 12
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني


وحيد في القرية
قصة قصيرة في زمن النزوح


غسان سالم شعبو


مرت ستة أشهر بلياليها قضاها منزوياً في منزله. وأدرك أنه بات وحيداً في قريته التي هجرها أهلها على حين غرة، هرباً من بطش العصابات الإجرامية التي إقتحمتها في غفلة في تلك الليلة المشؤومة. ولم يكن له من يشاطره المسكن. فصعد السطح ليستدرك الأمر وأجال بناظريه صوب خيوط الشمس الطباشيرية التي إنسدلت ما بين التلال القريبة لتشع على الربوع الخضراء. فأطل على طريق زراعي وكان خالياً خاوياً يعلوه غبار تتماوج بين ذراته إشعاعات الصباح الحزين ليكتشف أن الكل قد غادر القرية. فوقف متحلياً بالصبر والهدوء, وكان بين الحين والحين ينظر إلى ساعته، وفجأة إنفجرت قذيفة هاون وسط الحي السكني وتفّجر الصمت وسط المكان، فجاءه هاجس كالصاعقة على قلبه: سيحرقون القرية لا محالة وتصلّب في مكانه وهو يردد بإنفعال حذر: سقطت بلدتي كما كل البلدات .. وأطبقت هالة من الكآبة على صدره وهو يراقب سحب الدخان التي خلفتها قذيفة الهاون التي نالت من إحدى الدور القريبة من منزله. وإمتزجت مشاعر الخوف بالهلع والترقب عما ستؤول إليه الأمور. فدفعه حب الفضول للنزول إلى الحي ويجتاز الدور بإتجاه مصدر الدخان المنبعث قريباً، فسمع هدير السيارات القادمة صوب المكان وإختبأ في سرداب أحد البيوت القريبة بعدما خلع مفتاح بابه عنوة كي لا يدركه أحد. وتلصص من خلف نافذة مطلة على الشارع العام، فشعر بنفسه مقيداً من جديد في هذا السجن السري الذي إختاره لنفسه جراء فضوله. وكانت النار المشتعلة تزداد وهجاً أمام الدار المقابل جراء التفجير وقد تجّمع حولها عدد من المسلحين بلحاهم الكثة ووجوههم المكفهرة وثيابهم القذرة، وهم يتأبطون الأسلحة والخناجر الملوثة والرايات السوداء. وقد ساد المكان صمت مريع، بقدر بشاعتهم فتمالك نفسه وهو يتابع تحركاتهم فوجدهم يكسرون أبواب الدور ويقتحمونها ثم يكسرون أقفال المحلات ويدخلوها ليسرقوا مؤونتها، وهكذا كانوا يجوبون الحي بأكمله وهو يلاحقهم بنظراته بصبر كبير. وشاهد تجمعاً آخر من الرجال يتوجهون صوب جهته، ففزع وشعر بأن أمره سينكشف وسيقومون بقتله. وكم تمنى أنه لو نهض باكراً في ذلك الصباح الكئيب  ليلتحق بركب النازحين قسراً من بني عمومته. فأسرع من سردابه خارج الدار يشق طريقه بين الأزقة بعيداً، لكنه تلقى رشقات من الرصاص بين قدميه من ملتحي الذي صرخ بوجهه وأمره أن يتوقف، وأدركه أحدهم بركلة أوقفته فتسمّر في مكانه وشعر بنفسه مكبلاً بين أيدي المسلحين الأوباش الذين ملأوا المكان وتهافتوا نحوه وتجمعوا حوله بثيابهم البشعة، وهو يقرأ في عيونهم شرارة الغضب. فسأله شخص منهم: من أنت وماذا تفعل هنا؟ قال وهو رابط الجأش محاولاً أن يتأبط قدراً من الشجاعة: كنت أبحث عن الطعام، فقد نفذت مؤونتي. فقهقه الرجال وقالوا بتهكم وخبث شديدين: إذن أرشدنا عن البيوت الفاخرة والميسورة هنا. فإنتبه إلى تصرفاتهم الرعناء وثمالتهم فأدرك أنهم لا بد يتعاطون حبوب الهلوسة..  فصمت. وصرخ أحدهم بوحشية وهو يلوح بقتله، فتجمّد في مكانه ولكنهم إقتادوه جانباً وفتحوا أحد الأبواب أمامه بإطلاقة نار واحدة وقالوا له: هيا إجلب لك الطعام قبل أن نشوي لحمك. وعادوا يتضاحكون وهم يقتسمون ما ملكت أيديهم من الغنائم. فرفض وقال لهم كلا لن أغدر بجاري وأدخل بيته، دعوني وشأني. بينما دخل إثنان منهم وخرجوا بصيد وفير من الغنائم. وهكذا ساروا به من منزل إلى آخر وهم يتهكمون ويتضاحكون ويلوحون برشاشاتهم في الأعالي، وأمام كل منزل كان يرفض الدخول محاولاً التملص منهم دون جدوى. فطلبوا منه أن ينظم إليهم وسيجزلوا له بالعطاء. لكنه أبى وهو يراقب بحذر شديد كل شاردة وواردة منهم كي لا يبقى فريسة سهلة لهم فيقتلوه، فضاقت به السبل وهو قد أصبع على يقين أن أية محاولة منه للهرب لن تجديه نفعاً، لكنه تناهى إلى مسمعه صوت قذيفة هاون حطت على ذات الزقاق الذي كانوا يحتاطون به فتبعثروا هلعاً، وشم رائحة شواء اللحم من جلد أحدهم فأطلق العنان للهرب واختفى وسط الأحراش المتآخمة للقرية. بينما عاد المسلحون ليقفوا وهم يشاهدون بقايا جثة زميلهم المحترقة بالنار.