المحرر موضوع: ملامح من ذاكرة قلعة كركوك (2)  (زيارة 2042 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل صلاح نوري

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 209
    • مشاهدة الملف الشخصي

ملامح من ذاكرة قلعة كركوك
  (2)
الجزء الثاني والأخبر


  صلاح نوري

  من هنا تمر في غربتي الفصول .. تحكي ذكريات نامت في حضن الأماني وترسم البسمة على شفاه السكون وتحبس الآه في الصدور .
قلعتي الحبيبة.. كم هي رائعة تلك الذكريات التي تدغدغ الذاكرة وتمس شغاف القلب كلما جاء ذكر اسمك  يذكرني بالايام الخو الي  من ذلك الز من الجميل .
قلعتي .. ايتها السنديانة التي نما فيك غصني صامتا غافلا عن الفصول .. أزقتك الضيقة الواسعة بعيوننا .. بيتنا ذو الشرفة المطله على السوق الكبير والنخلة التي تتوسط حديقته بشموخ .. كنيستنا العتيقة ام الاحزان ذات الاعمدة الرخامية العملاقة وهدير ناقوسها صباح كل يوم أحد .. بناية المطرانية ( مطرابوليط ) هكذا كان مكتوباً فوق بوابتها المقابلة لبوابة الكنيسة .. بيت الساعور الذي كانت تفوح منه رائحة ( السويق)  (خليط من حنطة محمصة مطحونة و سكر، توزع على اطفال المحلة ثلاثة ايام صوم الباعوقا) . بيت الماسيرات وردة وسيدورا الملاصق للكنيسة . مدرسة الطاهرة الإبتدائية  للبنين تلك التي انهيت فيها مرحلتي الابتدائية قبل اكثر من نصف قرن .. كل هذه الشواهد التي استحالت انقاض او سويت بالأرض مازالت تفاصيلها منقوشة في ذاكتي .
ناسها الطيبين سواء كانوا من العامة او من الذين كانت لهم بصمة خاصة فيها رجال دين  كانوا ام اساتذة لهم  في القلب ذكراهم ، فمن منا نحن جيل الاربعينات لا يتذكر  مطراننا الجليل مار اسطيفان جبري او كهنتنا الاجلاء افرام كوكي ،قس كوركيس ، يوسف أنطون كركوكلي ، يوسف زورا او شمامستنا الرواد الذين فارقونا باجسادهم وليس بأرواحهم منهم كره بيت الله ويرددي ، صبجي كره بيت ، شامل نعوم  وغيرهم ومن الذين مازالوا يرفدون قداديسنا بعطائهم الثر منهم شماسنا القدير ناصر ميناس  .
اساتذتنا (عباقرة ذلك الزمن ) الذين كان لهم الدور الريادي في إعدادنا اعدادا علميا ودينيا اذكر منهم مدرس الدين القس افرام كوكي هو وعصاه الخيزران التي لم تكن لتفارقه لحظة واحدة .. استاذ متي مدرس اللغة الانكليزية .. الأساتذة روفائيل ميناس وتوفيق ننعوم واستاذنا القدير جبار توما  ، كل هؤلاء العمالقة وغيرهم مازالت اسمائهم تراود مخيلتنا .
مناسباتنا الدينية التي  كنا نجسدها داخل الكنيسة  على مدار السنه بدئاً بأعياد الميلاد مرورا بأحد السعانين والجمعة العظيمة وانتهاءً بعيد القيامة  نشتاق لها كلما حلت علينا ذكرى احداها . ففي قداس ليلة الميلاد كانت النار توقد وسط الكنيسة لتعطي الدفئ للمولود الأتي بإسم الرب الذي  في المذود داخل مغارة بيت لحم .. وفي احد السعانين كانت اغصان الزيتون توزع على الجموع المحتشدة      داخل الكنيسة  ومنهم الأطفال الذين كانوا  يلوحون بها وهم  بأبهى ملابسهم يرتلون  ترنيمة  السعانين ( أوشعنا في الأعالي) تماما  كالجموع التي خرجت تستقبل موكب السيد المسيح عند دخوله اورشليم لأول مرة . وفي خميس لبفصح وبعد الإنتهاء من مراسيم غسل الأرجل للأطنال (حاليا للكبار)  كانت مجموعة من الشباب تبقى ساهرة داخل الكنيسة تحرس يسوع من اليهود الذين ينون اعتقاله ومحاكمته..اما في الجمعة العظيمة فقد كانت الكنيسة تتشح بالسواد في حين تنطلق اصوات التراتيل الحزينة من قبل الضمامسة داخلها حدادا على موت المسيح على الصليب ، ذلك الحزن الذي ينقلب الى فرح في قداس سبت النور (ليلة عيد القيامة) حيث تعم الفرحة جموع المصلين حين  يفيض النور من القبر المقدس واععلان الكاهن عن  يقيامة المسيح من بين الأموات  عندها ترفع الأغطية السوداء من على الأيقونات وتوقد الشموع وتقرع الأجراس على انغام قام قام المسيح.
يبدو ان كنيستنا ام الأحزان هذه لم تحتمل شجن فراقنا لها بعد تهجيرنا  قسرا من القلعة بموجب قرار جائر بئخلإها فراحت تتهاوى هي الأخرى مخلفة ورائها بقايا جدران متهرئة وأعمدة عملاقة شاهدة على العصر  .
قلعتي الحبيبة .. لست ادري لماذا كلما تذكرت ناسك الطيبين تتجسد امامي ثلاث صور لأصحاب ثلاثة دكاكين من مجموع  الثمانية المتواجودة فيك . اولهم العم حلمي  الذي كان يبيع  لنا سندويج العمبة (نصف صمونة ) مع بطل سيفون مبرد( ببسي ذلك الزمان) بعشرة فلوس فقط  . أما الصورة الثانية فهي للعم عزت المكوي (الأوتجي) الذي كنا نقف امام دكانه ونحن في طريقنا الى المدرسة نتطلع بشغف وهو يوقد الفحم في مكواته الشبيهة بالمصفّحة لتسخن قبل البدء بعملية الكوي .. اما الصورة الثالثة فهي للعم يعقوب ذلك الانسان الطيب المتقدم في السن ودكانه الذي لم يكن فيه سوى سلتين الؤلى تحوي مصاصات حامض حلو والثانية فيها قطع من علك ماي ملفوفة بورق مستل من كتاب القراءة للصف الاول الابتدائي ، وفي نهاية الدكان بقايا من بصل تالف مركون على الارض يصعب رؤيته لظلمة المكان.
هذه الملامح وغيرها الكثير ما هي سوى لوحات سرمدية مغروسة في وجداننا ... انها قدرنا ... جذورنا التي يستحيل اجتثاثها او التنصل منها مهما جارَ علينا الزمن .

صلاح نوري كرابيت     
                        النرويج       2015