عمدة بغداد المسيحي
محمد صابر عبيدابتُليَ عراقُ اليوم بكارثة حقيقية، أو بدعة سياسيّة بالغة السوء، ابتكرها بريمر وتابعوه، عنوانها الكبير المُخزي "المحاصصة الطائفيّة". تتأتى كارثيّة هذه المحاصصة الطائفيّة أولاً من بروز عنف الماراثون الطائفيّ العراقيّ وتفجير مخزونه العميق على نحو مدمّر، فضاعت هويّة الوطنيّة والمواطنة والوطن وكلّ ما يمكن أن يشتبك مع هذه المفردات من معان ومفاهيم ومصطلحات وقيم ودلالات، وأشرقت الطائفةُ المشخصنة بمحمولاتها العدائيّة السيّئة على نحو يتبنّى فكرة إلغاء الآخر والسعي إلى تصفيته ومحوه، فصار الرهان على الطائفة فوق كلّ شيء.
تحوّلت المناصب الحكومية والبرلمانية والهيئات "المستقلّة" (!) غنائم وسبايا لفرسان الطائفية ودعاتها ومروّجيها، وهم يتسابقون، ويتصارعون، ويتغامزون، ويتلامزون، ويُسقّطون بعضهم، من أجل الحصول على أكبر قدر من الغنيمة بعقليّة استباحيّة ذئبيّة، لا تحدّها حدود. تتكشّف أطماعهم الشخصيّة الرخيصة عن شبق مجنون وجشع مهووس باسم تمثيل الطائفة والدفاع عنها كذباً وزوراً وبهتاناً، على نحو رفعهم عالياً على جوع أبناء طائفتهم ومرضهم وجهلهم وتشرّدهم وموتهم ليقطفوا ثمار طائفيتهم المسيّسة كي تمتلئ بها جيوبهم وبطونهم وضمائرهم الميّتة. تصدّرت الأحزاب الدينيّة صدرَ المشهد وعجزه لتستحوذ على "البير وغطاه"، كما يقول المثل الشعبيّ، وهي تتغنّى بالمرافعة الشرسة عن طائفتها الدينيّة لكنّها تُدخل المحصولَ في حسابات قوّادها أو قادتها، وتتنازع على مرافق الكسب اللصوصيّة الفاسدة من دون النظر إلى ما آلتْ وتؤول إليه بقية فئات المجتمع العراقيّ ممن اصطُلح عليهم بالأقلّيات، وفي مقدمّتهم الطائفة المسيحيّة السريانيّة، وقد تعرّضت للتهميش والإقصاء والإهمال والعزل، وأبناؤها هم أصحاب البلد وجزء أصيل وفاعل ورئيس من مكوّناته على مرّ التاريخ.
فقيادات البلد والمناصب الرئاسيّة والسياديّة المركزيّة صارت حكراً للأحزاب الدينيّة الكبرى في محاصصة طائفية أجهزت على مقدرّات العراق، وشوّهت صورته المشرقة في التاريخ والذاكرة والحلم، ومنعت عليه هواء المدنيّة والتحضّر وإمكان الاعتراف بالموهبة والكفاءة والتخصّص والمعرفة والثقافة والفكر الحرّ، وتحوّلت الحكومة والبرلمان والمناصب إلى حقوق دينيّة (طابو) ربّما سيطول أمدها إلى ما شاء الله للحاصلين على أصوات البسطاء والمساكين الصحيحة والمزوّرة، وابتعد أبناء الطائفة المسيحيّة والطوائف الصغيرة الأخرى عن ضوء المشهد مهما كانت كفاءتهم ومعرفتهم وتخصصهم وولاؤهم للعراق وتاريخه وأهله، وغمرتهم الطائفية المقيتة بظلام دامس لا يرون فيه حتى راحات أيديهم.
كان لأبي بداية سبعينات القرن الماضي بقالة افتتحها بعدما عاد من رحلة الاستشفاء في بيروت على نفقة شركة نفط الموصل (الاحتكاريّة!)، وأحيل على ما اصطُلح عليه آنذاك بـ"العقد المشترك" حين استغنت الشركة بعدما أصبحت "وطنيّة!" عن الكثير من عمّالها، إذ عوّضتهم ببعض المال ومن دون تقاعد، فما كان أمامه سوى العمل بمشروع خاصّ أسوةً بالكثير من زملائه، ولم يكن أفضل من البقالة وسيلة ممكنة للعيش في ذلك الحين من الزمان والمكان، وكان على أبي أن يتسوّق كلّ أسبوعين تقريباً من مدينة الموصل. وإذ كنتُ وقتها صغيراً لا أتمكّن من إدارة البقالة في غيابه للتسوّق من المدينة وهو ما يستغرق يوماً كاملاً، كان يأتمن على البقالة صديقه المسيحيّ يوسف كوريال يوسف، مع أنّنا، في بلدتنا زمّار، محاطون بأقرباء كثر من الأعمام والأخوال، وكان المسيحيون في زمّار مشهورين بالأمانة والمسالمة والصدق وحسن الخُلُق. وهم على قلّتم قياساً بالكثرة المسلمة، لهم حضور بارز على المستوى الاجتماعيّ والثقافيّ، ويحظون باحترام وتقدير كاملين من الجميع، وكان شماشا يمثّل سلطة كبيرة وهو الوحيد الذي يبيع النفط الأبيض (المازوت) في البلدة، وكانت العوائل المسيحية جزءاً لا يتجزّأ من النسيج الاجتماعيّ المكوّن لزمّار على نحو يكاد يكون مثالياً، وهي مندمجة في السياق الثقافيّ العام للعوائل الزمّاريّة على المستويات كافة. أمّا في الموصل، وفي كركوك، وفي بغداد، وفي محافظات عراقيّة أخرى، فحضورهم كبير ومؤثّر، ولم يكن يُنظر إليهم على أنّهم أقلّيّة مطلقاً، ولهم دور مركزيّ في إشاعة التمدّن والتحضّر والثقافة والفكر الحرّ والتعدّدي على نحو هادئ وجميل وبالغ اليُسر والعفوية الثريّة، ومن دون أيّ حساسيّات تُذكَر.
المسيحيون هم أهل العراق الأساسيون وبناة حضارته، حينما نفخر بحضارة العراق القديمة فهم جزء أساس في صناعة هذه الحضارة، المسيحيّ ابن الأرض وحارسها وعاشقها ومربّيها، المسيحيّ يحبّ الطبيعة ويقدّسها. وحيث بغداد الآن شبه خالية من الطبيعة، وتفتقر إلى الكثير ممّا يجعلها عاصمة تاريخية للعالم كما كانت في عصورها الزاهية الأولى، فإنّ ضرورة العودة إليها في ثورة حضاريّة تنقّيها من كلّ ما حصل لها من إفقار متعمّد في عناصر الطبيعة والثقافة والجمال والخيال، إفقار من بهجة الخضرة في لغة الأشجار، وسحر التفتّح الروحيّ في الهواء النظيف والمساحات الخضراء والفضاءات الصالحة للتنزّه العائليّ. إذ لا فائدة من أيّ عمل، وأيّ كلام، من دون بغداد جميلة وأخّاذة تنعم بخيال الماضي وبهاء الحاضر وأمل المستقبل. لا فائدة من تغييرات سياسية تنادي بمحاسبة الفاسدين والسرّاق وإلغاء الامتيازات الفضائيّة للمسؤولين وتدبيج الوعود بغد عراقيّ أفضل، من دون بغداد عامرة بالحبّ والزهور، من دون بغداد نظيفة من أكوام النفايات، ومظاهر التخلّف، والغبار الطبيعيّ والبشريّ، من دون بغداد وهي تتغنّى بالحياة في متنزّهات عملاقة في كلّ مكان من أقصى الرصافة إلى أقصى الكرخ، وحضارة إنسانيّة تزاوج بين العمارة والخضرة، تخضع لهندسة عارفة كفوءة وقادرة على الابتكار تجمع حاجة المواطن البغداديّ ليرى كلّ شيء جميل، ويتنفّس بعمق هواء نظيفاً، ويسمع بهدوء نداء الطبيعة والحضارة معاً، ويمشي على أرصفة تتفتّح ياسميناً وزهواً وكبرياء وعدالة، وشوارع مغسولة بالشامبو العراقيّ الصنع، وهو مشحون حتى أصابع قدميه بثقة المواطنة والانتماء والمساواة وحبّ الآخر.
ننتظر من الحكومة العراقية (حكومة التغيير) أن تعيد صوغ التشكيل الإداريّ لمدينة بغداد عاصمة العراق التاريخية، في قرار جريء من قراراتها التي لا تحسب أيّ حساب للعقل الطائفيّ الذي لا يزال يتحكّم بالمصير العراقيّ على نحو مخيف، وتضع كلّ المسؤوليات الإداريّة والخدميّة والثقافيّة بيد شخص واحد اسمه "عمدة بغداد" بحسب ما اقترحته "قناة البغداديّة الفضائية" في أحد برامجها المهمّة، "ستوديو التاسعة"، وأن يكون هذا العمدة المنتظر من المكوّن المسيحيّ (خارج لعنة المحاصصة الطائفيّة)، وما أكثر الكفاءات المسيحية العراقية في هذا المجال. أعترف أنّني لم أتمكّن من ضبط مشاعري تجاه هذا الاقتراح الحضاريّ الوطنيّ الرائع، وشعرت بأنّ ضميري العراقيّ الأصيل صاح بفرحة عارمة "وجدتُها". إنّه لعمري حلّ مثاليّ ليس على صعيد الأمل بإعادة الروح إلى بغداد ذهب الزمان وفضّة المكان وضوع الدنيا العطر فحسب، بل لإعادة الروح إلى الطائفة المسيحية كي تخرج من ركام التهميش والإقصاء إلى شمس الحريّة العراقية التي لن تكون كما نشتهي من النور والبهاء والضوء والجمال والخير والسعادة من دون أهلنا المسيحيين.