المحرر موضوع: حميد كشكولي بين دماءِ نهرِ الوند وإكسيرِ الحياةِ في السويد(1).....  (زيارة 995 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل هاتـف بشبـوش

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 201
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
 



حميد كشكولي بين دماءِ نهرِ الوند وإكسيرِ الحياةِ في السويد(1).....


ينتابني شعور وإحساس بطعم اليسار حينما اقرأ الهم البوحي للمبدع حميد في ديوانه ( براثن الليل) , أقرأ السياسة التي تأخذ النصيب الكبير من حياته , أقرأ العواطف والإنفعالات في شعره ,  أنهُ الشاعر الذي تآلفَ مع الألم , مع غبار الأوجاع التي لاتصدّقها التقاليد السائدة أنذاك , أنهُ المناضل الذي تسلّق جبال كردستان مع الأنصار الشيوعيين . أنهُ الشاعر الذي لم يتخذ تصميما في أنْ يكون شاعراً , بل أنّ الأبداع الأدبي بالنسبة إليه هو مثل الحلم الذي يشبه السراج القادم من الظلام .  حينما أقرأ لحميد أراني أتجول في كل ما أعرفه عن الطبيعة الآسرة في الأهوار , وفي الأماكن التي يرتادها البسيطون من الناس .
أوراق ديوان ( براثن الليل) موضوعة بحثنا هذه ,  تألفت من 158 صفحة والتي إحتوت على إثنين وثمانين نصا رائعا , والتي يُفترض أنْ تكون في أكثر من كتاب . كما وأني لم أجد مايشير الى نص محدد يحملُ إسم الديوان , وهذه سابقة قلّ مانجدها , إذ عادة الديوان يكونُ موسوماً بأحد القصائد .

حياة الشاعر حميد التي أعطتنا عنوانا خاصا به , يبدأ من نهر الوند في خانقين وكيف كان التأريخ هناك , حينما تحول النهر الى دماء أثر الحروب الغابرة , بينما الشعب يهلك من العطش والجوع , حيث كان النخيل يابساً على أثر تلك الدماء التي لوّثت نهر الوند... كما نرى في نص ( من أنا) ذو العزف المنفرد الذي يعبر عن ميزوبوتاميا حميد كشكولي وما جاورها من الأمصار....

نسبي ربما يصل الى قصبة محترفة في الأهوار
الى سمكة سمراء في بحر قزوين
الى ذرات غبار تصعد من تحت سنابك خيول المغول
الى حجرة في قاسيون.
حين ولدتُ كان الوند يجري دما
ونخيل أهلي كادت أنْ تموت من العطش
والسمك أخرجتْ رؤوسها تتطلعُ الى الله


النص أعلاه إختاره الشاعر أنْ يكون بداية عصارة روحه في أول ديوانٍ له ,  نص أجدني أراه ينتمي الى المدرسة الرومانسية أكثر منه الى المدرسة السياسية التي ينتمي اليها حميد , نص حينما قرأتهُ لأول وهلةٍ , وجدتُ فيه الحنين يبكي على آثارِ أقدامي أينما حللتُ ووطئتُ أرضاً غريبة , نص تعريفي لشخص الشاعر ومستقل بحد ذاته قبل المدخل الى قصائد الديوان , نص جاء في غاية الحزن وكأنه نشيد كشكولي صرف , نص نستطيع من خلاله أنْ نسرد الحياة التي قضاها حميد بين أهله وناسه وفي الأماكن التي إرتادها في طفولته و صباه وفي منفاه بعد خلاصهِ من الطغاة والمجرمين وهو هاربا بجلده الى بقاع الأرض الواسعة إبتداءا من الأهوار وإيران بالقرب من بحر قزوين , ثم الى سوريا وجبل قاسيون ثم رحلته ومستقره ألأخير بين ثلوج مالمو في السويد ، التي إحتضنته بصقيعها القارص كما نرى في نص ( قارة بيتي).......


 لقطتني السويد مرتعا بأصابع زاهية
إنّ في السويد إكسير الحياة ثمنه رأسي
إنها قارة قديمة غدت بيتي
لكنني جديد أبداً أشهق نورها في منتصف كلّ ليلة

لقد قال أحد الكتاب العراقيين أنّ (الوطن أم , والغربة هي زوجة الأب) , ولذلك حميد لن ينسى فضل السويد عليه وكيف أغاثته من غربته وهروبه من جحيم الطاغية صدام والبعث , حتى غدت السويد له وكأنها بيته , يتنفس ويشهق بهواءها ويترطب برذاذها ونداها وأكسيرها الذي يمنحه الدفق والنبض والديمومة والصحة والأمان وكل مايمت بصلة لحفظ الكرامة الإنسانية , أنه الإنسان الذي لاينكر جميل السويد , حيث نعرف هناك الكثيرون الذين جحدوا بما تفضلت عليهم السويد وغيرها من بلدان اللجوء لأسباب تتعلق بالثقافة التي تحملها هذه البلدان والتي تختلف عن ثقافاتنا إختلافا جذريا , لكنها ورغم كل ذلك تحترم الإنسان لإنسانيته وأما باقي التفاصيل المتعلقة بالعِرق والقيم والتقاليد المتجذرة في صلب الأنسان , فلا تدخل في حساباتها كما يتراءى في نفوس البعض الضعيفة من الجالية العربية للأسف .
تتلاطم أمواج الأحلام في يقظة ومنام الشاعر حميد وفي تفاصيل حياته الصغيرة والكبيرة التي لم تبرح في جسده حتى تظهر بهيئة تفريغ مايحتويه من شحنات الذاكرة , وهذا هو دأب الشاعر أبدا , لايستريح حتى يتم إزاحة مافي دواخله ويرميه كحبرٍ على الورق الصقيل أو شاشات الحاسوب ليتلقفها القارئ اللهفان والمصاب بنفس الداء , لنقرأ ماقاله الشاعر في نص(( أمواج الأحلام).. ..

فأشم عبق الرغيف من تنور بيتنا العتيق

أتلاشى في بخار شاي الإفطار
وتختفي ألوان الأرض في لبن الفردوس
وإهاب يد أمي
وزقزقة عصافير الفناء

الناستولوجيا والذاكرة هما من يؤسسان كيان الإنسان , وكل مواصفاته الماضية التي تنغرز في جسمه الحاضر ودواخله وسيرته الذاتية . لايمكن لنا أنْ نقرأ مبدع ما , دون أنْ نتخذ ميزة معينة من ميزات الماضي التي عاصرت الشاعر وخصوصا إذا كانت من المهمات التي تشكل شخصية المبدع . هذه الذاكرة وكأنها الجذور التي تعطي للأنسان المبدع متانته ورصانته , وتحافظ عليه من الريح العاتية مثلما يحصل للأشجار الباسقة. حميد كشكولي له جذوره القابعة في أعماقه السحيقة , تلك الجذور التي تجعل منه أنْ يشرب من المياه العميقة التي إشتد بها عوده ونما وكبر , تلك الجذور التي تتعلق برائحة منزله الأول وكيف كانت الجلسات هناك التي تضم الأحبة والأهل والأم ومايأكله من صنع يدها الحنون , ولون الشاي , الذي يتناوله تحت السماء الصافية والفناءآت التي تحمل بين سموتها العصافير وزقزقاتها التي لاتزال ترن في أذنيه .

الأحلام هي صدى الواقع سواء أنْ كان ماضيا أو حاضرا , وهو صدى التفكير والتأمل في مايحدث مستقبلا , كل هذه رسختُ في أوداجه , ولايعرف ماهي الوجهة التالية في حياته والى أين سيكون المستقر أوالمفر كما نرى في نص( الى أين .... الى أين) ....

في ضفة الخراب
أصوات تلتف بقدميه
........
يصرخُ صوتُّ:
الى أين ؟ حميد؟
الى أين ؟ ثم يقترب
ويهز قائلاً:
الى أين ذاهب أنت؟
حميد لايجيب

يسيران معاً
 
يقول يورغن فيلبروك القصصي الألماني (لاأعرف كيف أحدد مكاني في إطار هذا النسيج النغمي فهو نوع من الملاحة الميتافيزيقية ). حميد يتأرجح بين خطه الضائع في هذا الكون ، نتيجة مايراه من التراجيدية العالمية التي تهز الكون بأجمعه , والخراب الذي يحل في معظم سكان الفسيحة . العالم اليوم في حالة من الحرب والضياع , إبتداءا من الربيع العربي الى مايحصل من حرب بين السنة والشيعة , الى الحرب الضيقة على فرنسا وبعض الدول الغربية , بالمختصر هو هذا الدمارالبشري, حيث يجد الإنسان نفسه في حالة من الخسارات المذهلة , حالة المصير المجهول للأنسان الكوني , الحالة التي تجعل من حميد الشاعر قلقا , مأزوماً ، متسائلاً  :الى أين ؟ كما في البيت الشهير للشاعر اللبناني الكبير إيليا أبو ماضي , ولكنها معكوسة من أين؟ حيث يقول ( جئتُ لاأعلمُ من أين لكني أتيت/ ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت) , هي حوارية مع نفس حميد المستقلّة بذاتها , التي تتأرجح بين الضياع والهجرة والإغتراب والبعد عن كل ماهو متأصل بالأنساغ العراقية , مع أوجاع الصوت القادم من المتاهات التي تعصف بالبلد والتي تصرخ في جوفه وتشكل له إرهاصات يومية لايمكن التنصل عنها , فتصبح ظلاَ لحميد يسيرُ معه أبد الدهر , حتى يقول ....


ولكن أين حميد؟
فليس ثمة شئ سوى النشيج في الظلام

لايوجد شئ في هذا الإغتراب غير عبرات ونشيج , وفي تعبيرٍ رمزي يشير الى أنّ الظلام هو الآخر يأنّ من قلة تناوب الضوء مع الحلكة القاتلة , حيث أنّ من الطبيعي تعاقب الليل والنهار كي نحصل على الديمومة المعتادة لعيش الحياة بماهي وبكل تعلاّتها . هذه الديمومة قد إستحالت الى عطرٍ وأزاهير للقلب كما في نص( في ساقية الجنيات) ...

أني سأموت واقفا كشجرة أناهيتا
عفوا , عفوا
إنني لم أمت
بل أجولُ في رياض العشق
أبحث عن زهرة القلب

التي حين أملأ راحتي من عطورها
لكنني أنثرها لعصافير حمرين
تسمو نجمة في سماء دجلة
وصمتا يبعثُ بالطوفان

هذه المحصلة الشعرية الجميلة هي جيفارية خالصة( إذا أردت أنْ تموت فمت كالأشجار وقوفاً... جيفارا) , ربما هناك فرق بين أشجار غابات بوليفيا التي مات فيها جيفارا , وبين أشجار غابات جبال حمرين , لكنّ  هناك الكثيرون من المناضلين ممن سطروا أجمل الملاحم البطولية في تلك الغابات العراقية . وبين الموت والتحدي هناك الحنين الذي هو مايشدد المناضل حميد كشكولي الى دجلة الخير وأم البساتين(شربنا ماء دجلة خير ماء/ وزرنا أشرف الشجر النخيلا ...ابو العلاء المعري), هناك ضجة المخلوق التي تنطلق بين الآونة والأخرى عبر الصمت المطبق وكأنه طوفانا يهدد كل شئ , هناك الذكرى التي تشكل معه حزمة الألم كما نرى في نص( مطر الألم والحنين) ...

لن تغادر قلاع صباك
ليست ثمة ألعاب مع الكبار
لاجدوى من حكمك العظيمة
أحجارك هي الأجمل في بحر الهيجان

يقولون أنّ الذاكرة هي أفضل خادم للعقل , إذاً هناك قلاع للطفولة وهذه القلاع محصنة بأسوار الذكريات التي لايمكن أنْ يكون ألإنسانُ مخاتلا عن حقيقتها ووجودها , أسوار هائلة كما سور الصين العظيم الذي شيده ( سيهونج ) والذي ضم في داخله البشر الصيني بكثافته الهائلة مع ذكرياته وكل ثقافاته . علاوة على ذلك هناك الإنتماء الفكري والسياسي الذي يميز المبدع حميد وسط تقاليد ثقيلة لا يمكن التجاوز عليها الاّ بصعوبة بالغة , ولكي نعرف حميد وإنتماءه علينا أنْ نقرأ السطور أدناه من نص( سيذبجون القمر في الفجر) بمناسبة ذكرى الشاعر الأسباني العظيم لوركا ......

سوف ندعوالشرفة مفتوحة أيها القمر
من شرفتك سوف نرى رفرفة الطير من قفص الأوهام
تتدلى من جناحيها ظلال عذاب برومثيوس في أطيان دجلة
وصخور كارادوخ

الحرب الأسبانية هي الحدث الذي سال من أجله أكبر قدر من الحبر في القرن العشرين وقد جمعتْ حولها ومنذ بدايتها عدداً ضخما من أهم الكتاب في العالم . من منا لم يتذكر تلك الحقبة الزمنية الوارفة في السبعينيات وأيام الجدل المثير والحديث عن ضحايا الطغاة ، ومنهم أعدام الشاعر الأسباني( فردريكوغارثيا لوركا) الشاعر الذي أعدمته السلطة الفرانكوية أيام الحرب الأهلية  1936, التي شارك فيها الكثيرون من الصحفيين العالميين أمثال الراوائي المعروف همنغواي وزوجته الصحفية الشهيرة (مارتا كيلهورن) وقد مثلت حياتهما هناك في فيلم رائع للغاية من إنتاج عام 2012. السلطة الحاكمة كانت تتصور بأنها وبأعدام لوركا ستكسِرالحركة الثورية , لكن الأحداث أثبتت عكس ذلك , وإنّ الأغاني والأناشيد والكلمة هي الباقية بينما إنتهت مجنزراتهم الى الأبد , وهاهي الأشعار تخلّد الشاعر لوركا منذ ذلك الوقت وحتى اليوم , وهاهو حميد كشكولي في عام 2007يوصف لنا ذلك الفجر الذي ذعرت فيه الطيور من دوي الرصاص الذي أنهى حياة أعظم شاعر في ذلك الوقت , ثم يستمر الشاعر في نفس النص...

يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع في الجــــزء الثانـــــــــــــــــي
هــاتف بشبـوش/عراق/دنمارك