مار دنخا التفاني والنجاح
تيري بطرس
منذ نهاية السنة الماضية عانى قداسة مار دنخا الرابع، نتيجة المرض والجهد المبذول، واليوم سلم الراية، راية العمل والجهد لمن يخلفه في هذا الموقع المهم والذي يعتبر استمرارا لموقع ما بطرس ومار توما وما ادي ومار ماري وما شمعون البرصباعي.
لا احد ينكر التركة الثقيلة التي استلمها قداسته، ففي عام 1976 حينما اختير لادارة الكنيسة بعد مقتل مار ايشاي شمعون، كان وضع الكنيس يرثى لها، فلا قساوسة اكفاء ولا اساقفة مهيئين ولا مطارنة يملؤون مراكزهم. كانت الكنيسة تدار بهمة ثلاثة او اربعة اساقفة، لا يربطهم رابط. وكنيسة لا تعيش العصر ولا اي عصر، بل كانت استمرارا بهمة تاريخها ورعاية الله. فبطركها منفي منذ امد طويل، وتنخرها الانقسامات التي لا اول لها ولا تالي، والعشائرية كادت ان تذهب بها.
كان مار دنخا ورفيق دربه المرحوم مار نرسي من رعيل الاساقفة الذين فتحوا اعينهم على العمل القومي العصري، فكانوا جزء من الته الجبارة لضخ الهمم والشعور بالمسؤولية والعمل والاندفاع، ورغم ان قداسته كان يكرر ان العمل السياسي هو للسياسيين، الا انه دعم وساند وبشر برسالة امتنا الواحدة، التي يجب ان تتحد وان تتقدم، لانه لم يجد اي تناقض بين واجبه الديني وانقاذ شعبه وتراثه وضمان استمرارية رسالة المسيح بيد ومع هذا الشعب.
كان الغضب ياكل منا ونحن نرى حال كنيستنا، ولا يد لنا في تطويرها، اننا كنا متلهفين لذلك، وكنا نعتقد ان التطوير هو وصفة جاهزة، فبمجرد ان نفكر فيها سيمكن تطبيقها، كنا شبانا تحركنا العواطف النارية والرغبات المتسرعة، لاننا اعتقدنا باننا زائلون لا محال.
قبل انعقاد المجلس السنهاديقي لاختيار البديل عن قداسة مار ايشاي شمعون، اتذكر ان الاخ نمرود بيتو سئلني عن من باعتقادي سيكون البطريرك الجديد، فقلت له سيكون مار دنخا لانه ليس لنا بديل اخر، فالاخر مار نرسي محر وقة اوراقه مع الحكومة العراقية لانه متهم بالتعامل مع الكتائب، وهكذا كان، لم يكن تنباء بل لانه كان حقا الخيار الوحيد المتاح والذي اثبت نجاحه، والذي كان يمكن ان يتواصل مع الكنيسة في العراق.
اليوم كنيسة المشرق لها بدائل وخيارات ونترك ذلك للمجلس السنهاديقي، لانه الافضل من الذي يختار، ولن نحدد اي مواصفات وشروط او مطالب فكلهم في نفس الميزان، لانهم ابناء نفس العائلة، كنيسة المشرق. واليوم كهنة واساقفة ومطارنة الكنيسة باتوا يحملون شهادات عليا وقدرة عالية على التواصل ومخاطبة ابناء الكنيسة وابناء الشعب والاخرين، فكل منهم مؤهل لادارة الكنيسة لان لكل منهم موقعه الاداري والديني.
كان اول لقائي بقداسته بعد ان رسم بطريركا وكان لقاءنا غير وديا، فكنا نحن محمولين بالكم الهائل من المعاناة والمخاوف والرغبة السريعة في تغيير الواقع، لقد تعرضنا لتدمير القرى وتهجيرها وتعرضنا للتضييق في عملنا الشبابي، الا اننا تمكنا ان نتواصل وان نحصل على دعمه على استمرار لجان الشباب، ولكن بتنازلات معينة، وفي المرة الثانية شأت الصدف ان ياتي قداسته قبل بدء الحرب العراقية الايرانية، وكنا نلتقى ان لم اكن شخصيا دائما ولكن بوجود اخوة اخرين بشكل يومي، بحجة حراسته وصارات حوارات كثيرة ونقاشات. اتذكر ان صحيفة الثورة العراقية ارادت اجراء لقاء صحفي معه، ولان الاوضاع كانت سيئة مع جمهورية ايران الاسلامية، ولانه ادرك المخزى من المقابلة لانه جرت مع اخرين، فرفض اجراء لقاء ورفض ايضا التصريح باي شئ يشم منه تهجم على جمهورية ايران الاسلامية، فخرج قرار يطلب بمغادرته الاراضي العراقية وخلال اربعة وعشرون ساعة، كنا حوله، وحاولنا ان نعرف ردة فعله، فقال يجب ان اخرج لانني ايراني الجنسية ولكن سابقى مدى اكبر وبقى ايام اضافية كتحدي للسلطة، وكان موقفا جعلنا نشعر بالفخر حقا، لانه واخيرا هناك من تحدى السلطة التي كانت قبل اشهر تحاول ان تفرض تدريس تفسير القران لابناءنا الطلبة. هذه الفرض الذي رفضناه بالتمرد ورفع الصوت وعدم الذهاب الى المدارس، والذي كان لموقف المرحوم مار بولص شيخو ايضا دورا مساعدا في الغائه.
لم يقبل قداسته تجيير الكنيسة لاي عمل خارج اطار مؤسساتها، حاول البعض استغلالها او الضغط عليها لكي تمنحهم صك العمل القومي الوحيد، لم يتمكنوا، لان الكنيسة وقداسته نظروا لكل ابناءها ولكل الاشوريين نظرة واحدة في العمل القومي. وهكذا وجراء قصر نظر البعض حاولوا التهجم على قداسته وعلى الكنيسة ومطارنتها واساقفتها، الا ان الكنيسة لم تستسلم، وصارت في الخط المرسوم، لم تترك مبادئ الايمان المسيحي، ولا العمل القومي الصالح والخير للجميع.
لقد التقيت قداسته مرارا وفي مناطق مختلفة، اتذكر لقاءنا في طهران عام 1989، تحدثنا عن العمل القومي، والكفاح المسلح، ودور الكنيسة، حيث قال لي ان الكنيسة لن تتدخل في عملكم السياسي، ولكننا اشوريين كلنا نتعاطف ونشارك في تقوية وجودنا وكل من موقعه، كنت عازما على ترك طهران والخروج بعد ان تيقنت ان لا مفر امامي فاما البقاء هناك او الخروج، فقلت له انني انوي الخروج، الى اي منطقة يمكنني، فقال لي بما يعني انه يعذرني على الخطوة، ادرك انكم احرقتم جسوركم مع النظام ولا مفر لكم الان وليس في مقدروكم العودة.
لقد تمكن قداسته ان يعيد الدماء الى الكنيسة، ليس من خلال كوكبة من الشباب من تبوا مناصب عليا فيها، وليس من خلال كسر السياميذا بيوبالا، وليس من خلال النشاط الثقافي والادبي الذي عم ابرشيات الكنيسة، بل ايضا من خلال العلاقات التي اقامها مع الكنائس الشقيقة مثل كنيسة المشرق التقويم القديم والكنيسة الكلدانية والكنيسة السريانية الارثوذكسية، وبقية الكنائس الشقيقة. اقام علاقات ودية وندية مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومع الكنيسة الارثوذكسية الروسية. واهم عقابات واجهها في مهمته في فتح صفحة ناصعة بين كل الكنائس كان الموقف المؤسف للكنيسة القبطية.
نعم حدثت نكسات وانتكاسات، ولكن يسجل لقداسته طيبة قلب متناهية، وايمان مطلق بان الجميع صالحين، ورغبة حقيقية في مسامحة الجميع، ولكن مع الاسف لم يكن الكثيرين على مستوى هذه الروحية الطيبة.
ماذا نقول لرجل حياته كانت انجازات مستمرة، هل نقول يرحمك الله، ام نقول لقد عملت ووفيت وستبقى ذكراك خالدة في عقول وقلوب ابناء وبنات امتك بمختلف كنائسها، فلمثلك كتب الخلود، ونم قرير العين، وليكن من يخلفك بهمتك ووعيك ويبنى ما بنيت ويعمر ما نويت. والف رحمة على روحك الطاهرة كه سي.