تطوير الخطاب الديني بين الممكن والمستحيل
بطرس نباتي
طرح الاستاذ الباحث هشام حتاته وهو كاتب وباحث مصرى فى تاريخ الاديان والاسلام السياسى ، فى حوار مفتوح في موقع الحوار المتمدن وكان عنوانه ( تطوير الخطاب الدينى واشكاليات علوم القرآن وقواعد الفقه).
وقد ارتايت ان ادخل معه في حوار جدي وكانت لي عدة مداخلات اجاب عليها مشكورا اقدم هنا المداخلة الاولى لأهميتها ، وبودي الاطلاع على مداخلات مطالعي موقع عنكاوا الاعزاء . في حوار الانف الذكر استهل استاذ حتاتة الحوار بجملة من اراء حوت مجمل وجهة نظره حول الاديان وخاصة ما يتعلق بالدين الاسلامي وجدت ان ما يطرحه يتوافق في بعض جوانبه مع ما ذهب اليه مؤخرا الرئيس الامريكي اوباما بتصريحه حول الوسطية في الاسلام ووجوب التعامل مع المؤمنين بها ومن أجل ذلك كان أوباما قد وضع في حساباته مسالة دعم الاخوان المسلمين في مصر ( إبان حكم مورسي ) كممثلين لهذه الوسطية الاسلامية ، رغم أن تاريخ الاخوان في مصر مثلا منذ تأسيها على يد حسن البنا في عام 1928كحركة اسلامية ، يدل أن الاخوان انتهجوا كما غيرهم من التيارات المتشددة في ممارستهم للعنف ، ولكن كان الرهان على السيد مورسي بأنه هو الذي سيقود التيار الوسطي في الفكر الاسلامي ويعمل على تخلي جماعة الاخوان من فكرهم التقليدي المتشدد ، كما نستشف مما طرحته بأنه يقسم الاسلام إلى ثلاثة أتجاهات :
1- اسلام تقليدي سلفي 2- اسلام وسطي 3- اسلام متشدد تكفيري ، وإذا ما اراد العالم المتمدن ان يساعد العالم الاسلامي عليه تعزيز المؤمنين بالوسطية ويعمل على تطوير وإسناد مواقفهم كي يلعبوا دورهم في تطوير مجتمعاتهم نحو الافضل .
كي نناقش ظاهرة التدين علينا ان نعود الى المراحل الاولى للتكوين البشري ، المصادر التي بين ايدينا تنقسم الى قسمين ، القسم الاول منها تجزم بان البشر وجد على الارض نتيجة عملية ولادة من رجل وامراة في التوراة ( آدم وحواء ) وفي قصة الخليقة البابلية ( أب سو وتيامسو) وانهما خلقا من قبل قوة خالقة اوجدت الارض والكون ثم الانسان والنظرية الثانية هي نظرية الدارونية وهي نظرية النشوء والتطور والتي تم تطويرها بنظريات اخرى ، وهي الاخرى شأنها شأن النظريات الاخرى تعرضت إلى اعتراضات شتى ، واول من بحث في مسالة الخلق لم يكونوا فلاسفة أو منظرين أو علماء وإنما عبروا عن نظرتهم للكون والخلق وماهية الوجود بواسطة الاساطير حيث كانت تمثل الشكل البدائي او لما قبل الفلسفة ، والاسطورة سواء تم تفسيرها كنص ادبي او كمفهوم تربوي وديني فهي تعبر عن التفكير الجمعي للبشر في تفسير الظواهر التي عجز عن تفسيرها العقل البشري في غياب النظرة العلمية لتفسير تلك الظواهر.
بعد ظهور التفكير الفلسفي على يد الفلاسفة اليونان الاوائل بدءا من ابيقراط اناكساغورس ( الذي ركز فلسفته على معارضة فلسفة ديموقريطس الذي امن بان الضرورة هي التي دفعت بتلاحم الذرات لتكون الكون واستند اناكساغورس على استحالة تنظم أو خلق الكون بطريق الصدفة فلابد إذن من وجود عقل رشيد يحرك المادة. ومنذ ذلك الحين والفلاسفة الاخرين امثال افلاطون وسقراط وارسطو مرورا بفلاسفة المثالية التي كان في طليعتها فلاسفة المسيحية من امثال اوغسطين ومار توما الاكويني وجوستنيان وغيرهم ، وقد تبنى هذه النظرية في خلق الكون والانسان ايضا فيما بعدهم من فلاسفة ومنظري هذا الاتجاه ، أما الفكر المادي جاء ليطور الاراء الفلسفية في الخلق و ليتجه صوب ما يدعى بالالحادية على يد فيورباخ كومودو كانوف وميشايل سكريف في القرون الوسطى للمسيحية وجورج سميث وجون كالفن في 1549 ثم ليظهر منظروا الفكر الوجودي في الفلسفة في مؤلفات كيكغارد و سارتر وغارودي وغيرهم .
لم اشأ هنا اعطاء مجال اوسع لشرح كل هذه الاراء والنظريات الفلسفية وإنما اكتفيت بإعطاء نبذة عنها للوصول إلى الفكر الديني الذي وجد سموه بما اسميتهم الاديان الثلاثة الابراهمية على خلفية الفكر البدائي الاسطوري وليس بالاستناد على الفكر الفلسفي ( لكون الفلسفة سواء المادية منها أو المثالية استندت في تنظيرها اما على الاسطورة أو على الفكر الديني في بناء نظرياتها) لكون الاسطورة التي تناولت مسألة الخلق سبقت فلسفة الوجود والخلق وكذلك سبقت الاديان ، بل أن قسما منها يمكن أعتباره نوع من انواع التدين ، النظريات الفلسفية سواء المادية او المثالية وهذه الاديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلامية نشأت وهي تحمل بذرة الفكر القديم مع قيامها بتنظيم الخلق والوجود بشكل متطور تارة يقترب من الاسطورة ويكاد يستنسخها وتارة اخرى يبتعد عنها وخاصة فيما يتعلق بمسالة الاخلاق وتنظيم المجتمع وفق شرائع ونواميس معظمها استمدت مادتها من القانون الطبيعي وبعضها أتكأ بشكل او بآخر على شرائع ما قبلها وخاصة ما قدمته شريعة حمورابي من قانون متقدم على عصره ،ولا زال قيد الدراسة والبحث رغم السنين الطويلة ، شرائع التي جاءت بها الاديان سبقت القوانين الوضعية ولكنها اصبح ملائمتها مع العصر او مع الحداثة كما تفضلت في مداخلتك صعبة للغاية لكون هذه الشرائع تستند على النص ولقدسية النصوص الدينية لكونها في التوراة والانجيل موحية لكتابها من الروح القدس ،وفي الدين الاسلامي كونها نصوص منزلة بكتاب الله المبين وفق هذه الايات ( تلك آيات الكتاب المبين)(سورة يوسف )(قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين)(المائدة آية - 15)(ولقد أنزلنا إليكم آيات بينات)(النور آية - 34)(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون)(النحل آية - 4.)
والقصد من المبين اي لا لبس فيه وليس بحاجة الى تفسير او تبيين لأنه مبين بذاته مرسل من قبل الله لا يجوز الاجتهاد فيه او تطوير اياته ، أو تثبيت بعضها، أو إلغاء بعضها الاخر .
اما تقسيم الفترات لظهور الاسلام (كما وردت في مداخلتك )، حسب تقسيم نزول القران المكية والهجرة الى المدينة والانتصار (دخوله مكة )، ووجود ايات ضمن هذه الفترات تتعارض بعضها مع البعض الاخر فمثلا هذه الاية ( عندما كان في المدينة ) ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين ) (الانعام68) فهي تحث على عدم المجابهة بل المهادنة ، ويجد الدارس تباينا واضحا بين هذه الفترة وفترة الهجرة الى المدينة التي تتسم بتالف وانسجام مع اليهود والنصارى والصابئة مثل قوله ( وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهم مّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهم قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرونَ )، بينما نجد في فترة الانتصار ودخول مكة ايات غير الايات التي ألفناها من الفترتين السابقتين حيث يكون اكثر تشددا واكثر عنفا في تعامله مع معتنقي الديانات الاخرى او مع المشركين .
الاجتهادات التي سعى فقهاء المسلمين تضمينها لتفسير هذا التباين في الزمان والمكان في تلك الايات اوجدوا ما يسمى الناسخ والممسوخ كما تفضلت ، ليبرروا ما قد يجده بعض الدارسين في القران من تناقض في بعض الايات ، إلا أن الناسخ والمنسوخ الذي فسرت بموجبه بعض الايات ، لآ يلغي موقفا بكامله فهو لا يلغي مثلا مهادنة تقبل ما تجيء به الاديان الاخرى والناسخ والمنسوخ ، لم يلغي يوما الحدود في الاسلام هذه بقيت ثابتة رغم وجود ما يدل على أن الاسلام يتماشى مع روح العصر والبيئة التي يختارها بغية نشر افكاره ، اليوم مثلا في ظل القوانين الوضعية هل من الممكن القبول بقطع اليد حتى الساعد هل يصلح الرجم والقتل من والذبح وغيرها والانكى من ذلك وجود علماء الدين في هذا العصر يبررون ما وجد اصلا ضمن بيئة معينة وفي زمن غير زماننا .
برأي سواء وجدت نصوص تدعوا إلى الغلو أو المهادنة ، الدين الاسلامي شانه شأن أي دين آخر أو أي عقيدة أخرى يدعوا بانه هو النهج الثابت والقويم وغيره في ضلال وهذه النقطة الجوهرية التي لا يمكن للأديان او للعقائد تجاوزها .
من الطبيعي ان تؤمن العقائد مسألة الاخرة والجنة لأتباعها بالشكل التي تؤمن به وتحثهم في حياتهم على الالتزام بالشرائع التي ينص عليها دينهم او عقيدتهم ، وهذا ما أتبعته المسيحية ايضا واليهودية وغيرها من الاديان ، ولكن ما هو غير الطبيعي او غير المبرر أن يلغي أتباع دين بقية الاديان وبالقوة باعتبارهم كفرة محاربتهم يعتبر فرض عين على كل تابع لذلك الدين .
هناك من يناظر بان المسيحية ايضا في فترة من فترات اتبعت العنف مع غير المسيحيين ضد من اسمتهم حينها باعداء الديانة المسيحية وهذا الامر واقعي ولا يمكن انكاره ، وهوا ما اطلقه مؤخرا الرئيس الامريكي اوباما بمقارنته المسيحية والاسلام من حيث العنف ، ولكن ما لم يذكره اوباما او غيره من المنظرين في هذا الشأن ، أن ملوك واباطرة المسيحية هم الذين قادوا العداء ضد غير المسيحيين ( بمباركة بعض رجال الدين ) بدون ان يكون هناك نصوص في الانجيل تدعوا او تبرر قتل او ابادة الغير المسيحي بينما في الاسلام جميع هذه الاعمال عند اقترافها من قبل فئة هناك ما يبررها بعشرات النصوص سواء من القران او من الاحاديث والسنة ، هذا السند يتخذه جماعة المتشددين كي يحاربوا اتباع الديانات الاخرى او من ليس لهم الايمان باي دين ، لكن للأسف نجد من بين فقهاء الاسلام من ينكر مسالة المآلمة والمهادنة مع الاديان الاخرى او مع الكفار ،الظاهرة في بعض الايات مثلا قوله ( لكم دينكم ولي ديني ) او في سورة يونس انتم بريئون مما أعمل وانا بريء مما تعملون) أو كما جاءت في سورة الكهف (وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَ فهم يقولون العكس اي ان النبي يبريء نفسه من الشرك ولا يهادن بينما سورة الكهف تدعوا صراحة على ان الكفر والايمان حسب مشيئة الانسان والله هو الذي يجازي وهو الذي يهلك وما دام الله قد اعطى للبشر حرية الاختيار بين الشرك والايمان فليس للبشر ان يحاسب اذن .
لم يعمد الفقهاء المسلمين فقط في تفسير ما جاء في القرآن الكريم من آيات تدعوا إلى المهادنة وتقبل فكر الاخر أو ترك الاخر للمحاسبة من قبل الخالق ، وإنما بعضهم للأسف راح في الغلو أكثر من ذلك بحيث أدى به إلى عدم تصديق مسألة العهود التي قطعها النبي محمد على اتباعه كعهد نجران والعهد الذي اعطاه للفراعنة، وأيلة وجرباء وأذرح ورغم أن ابن الجوزي وابن القيم يذكر هذا العهد لأهالي نجران في كتابه ( زاد المعاد) ومسألة لقاء النبي محمد بوفد من آل نجران وحواره مع الوفد ليومين متتاليين ، وأختلافهم حول طبيعة ( عيسى ) وبالتالي توصله لعهد اعطاه لهم مذكورة بتفاصيلها في (سيرة النبي )لأبن هشام وأبن نفيس أيضا وهي من السير المعتمدة .
نستنتج مما سبق بأن تطوير الخطاب الديني يأتي بصعوبة لحدود الاستحالة لكونه يستند او مسند بخطاب ونصوص مقدسة ومنزلة ، ولا يمكن لأي أجتهاد أن يغير أو حتى يفسرها لتلائم ما يملي عليه فكره او معتقده ، ووجدنا بأن الفقهاء المسلمين عندما تعرضوا لهذه النصوص تعرضوا لها وفق القاعدة الشرعية ( العبرة لكل زمان ومكان) أي صلاحية النص لكل زمان وملائمته مع الواقع مهما جاءت به الحداثة لآ يهم لأن النص سوف يحتويها او يرتقي فوق منزلتها ، ولكن رغم ذلك ، هناك عدة عوامل ربما في تفعيلها ربما سوف تؤدي إلى خلق نوع من خطاب التقارب والالفة بين معتنقي الاديان والعقائد جميعها :
1- لظاهرة التدين اهميتها بالنسبة للبشر وخاصة في مجال سعيها الى التقويم والخُلُق ولكن ترك الحرية للأنسان بين الالتزام بها وممارستها بموجب الشرائع واجب على جميع المجتمعات مهما بلغت من الحداثة توفيره للبشر جميعا بدون استثناء ، على ان الحرية الدينية في المجتمعات المتطورة تقف عند حدود عندما تشكل خطرا على حرية الغير حتى وان لم يكن مؤمنا .
2- الحرية في اعتناق عقيدة يجب ان لا تلغي العقائد الاخرى مهما تكن طبيعتها ولا يمكن محاسبة الانسان على ما يعتقد به إلا حينما يكون معتقده سببا في إذاء الاخر المختلف عنه فكرا او عقيدة .
3- رغم ان الشريعة المستندة على الاديان وجدت ضمن زمان ومكان معينين وفي مجتمعات تقبلتها لفترة من الزمن إلا ان فرضها بالقوة على جميع المجتمعات تحت ذريعة بانها هي الاصلح لهو جهل باصول الشريعة اولا وثانيا بطبيعة تطور المجتمعات وانتقالها من مرحلة الى اخرى وفق قوانين التطور ، وعند فرض مثل هذا الامر بالقوة سينتج اليوم رد فعل من قبل تلك المجتمعات التي لا ترغب بشريعة او ولاية تفرض عليها غصبا ، لأن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومواز له في الاتجاه.
4- المجتمعات التي ترضى بملأ ارادتها في اختيار شريعة ما ، على حكامها فرض تلك الشريعة وتطبيقاتها في محيطها الاقليمي ولا تسعى لتصديرها الى الغير لأن مسألة الهيمنة والحلم بدولة كبرى او امبراطوريات قد اندثر في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي .
5- تنظيم العلاقات بين الافراد على اساس دستوري وسن قوانين وضعية تعالج جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية واحترام حقوق وحريات الافراد مهما كان عددهم من القلة او الكثر .
6- تقع على عاتق فقهاء في الاديان الثلاثة الدعوة إلى التسامح والتقارب بين الاديان ومعالجة ما علق بها من التعصب وأتصور لو استطاع علماء الازهر تبني هذه الخطوة بإسناد ودعم من المجامع العلمية الدينية في الشرق للمسيحيين واليهود بدون تدخل الفقهاء من هذه الاديان في دول الغرب ، هذه الخطوة لو تمت ستكون من أفضل السبل في تفعيل الحوارات التاريخية وخاصة بين الاسلام والمسيحية وستأتي بالخير على شعوب المنطقة في إشاعة السلم الاهلي وثقافة تقبل الاخر وغيرها من المفاهيم المعاصرة التي يجب ان تسود في هذه المجتمعات .
7- أن يسعى علماء الدين في كل دولة من دول الشرق إلى تكوين هيئات علمية مشتركة لمعالجة بعض الاختلافات التي تنشأ نتيجة تباين التفسيرات في تطبيق العقائد وعلى النصوص بحيث تعمل هذه اللجان لتقريب ما هو مشترك بين اتباع هذه الديانات لصالح توثيق العلاقات بين اتباعها .