المحرر موضوع: حانة سمرقند  (زيارة 1391 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل نصرت مردان

  • عضو
  • *
  • مشاركة: 24
    • مشاهدة الملف الشخصي
حانة سمرقند
« في: 13:06 05/04/2015 »

حانة سمرقند


 نصرت مردان


كانت الأزقة تبدو وكأنها تضخ بشرا، رجالا ونساءا إلى الشارع .
كان الشارع الذي يمشي فيه يبدو وكأنه المكان الشرعي للسيارات التي تطلق آلة التنبيه بدون مناسبة .. ما الذي يفعله كل هؤلاء في آن واحد ؟
ثمة كلب شريد ينبح في وجه الجميع الناس والسيارات، وكل ما يتحرك في هذا الشارع المهمل. نظر إليه حمار يحمل على ظهره الخضروات ، بعينيه الواسعتين ،وسمعه يقول له :
ـ ها .. هل أنت ذاهب إلى الحانة ؟ 

استغرب أن يسمع حمارا يتكلم ..
كان فعلا في طريقه إلى الحانة ، حانة (سمرقند).
في البدء استهوته اسم الحانة ، التي كانت تبدو وكأنها دكان عادي تم تحويله إلى حانة في موسم ازدهار الحانات في فترة السبعينيات.
كانت حانة عادية باستثناء اسمها.. لا تسع إلا لست موائد، وبار صغير رصت على رفوفه المشروبات المختلفة. أما زجاجات البيرة فكانت موضوعة في إناء كبير مليء بقطع الثلج.
لم يكن في الحانة إلا نادل مصري واحد، شاب اسمر،طويل القامة، يتبادل الحديث مع بعض الزبائن الذين يبدو أنه يعرفهم ، أو أنهم من زبائن الحانة المتواضعة التي تواجه مبنى (اوروزدي باك) في أربيل.
كانت بارات أربيل تفتح أبوابها في الساعة التاسعة صباحا، على العكس من جميع البارات في العراق التي تفتح في الساعة الحادية عشرة . وقد علق أحد أصدقائه الخبثاء على ذلك بقوله :
ـ إنها والله لمكرمة من السيد الرئيس لمدينتنا ..
ود أن يطلب صحنا من السلطة ، لكنه سرعان ما تخلى عن رغبته بعد أن رأى النادل يغرف بكفه من السلطة الموضوعة في صينية كبيرة فوق الثلاجة ، ويضع في كل طبق كفين منها .
أحس بالتقزز وهو يرى كف النادل تخوض في الصينية التي فيها تل من سلطة الخيار والطماطة والخس.
كان النادلون اعتادوا في ساعة  على عدم السماح لزبائنهم الذين اعتادوا خلق مشاكل داخل البار.
يتذكر انه كان في طريقه إلى الحانة صباحا ، وصادف أن رأى مطربا محليا معروفا يمنعه النادل من الدخول ، وكان على معرفة به ، وحينما قال الرجل ان المطرب ضيفه ، قال النادل وهو يفسح لهما المجال للدخول ،وكأنه بذلك يؤدي خدمة كبيرة للمطرب :
ـ ادخل .. علشان خاطر الراجل الطيب ده .. ده يجي عندنا يشرب زي أمير ، ويروح زي باشا !
تصور للحظة لو نزل على الحانة جنكيز خان حانقا ، شاهرا سيفه وهو يصرخ :
ـ من أعطى لكم السماح لتطلقوا اسم عاصمتي على هذه الحانة الحقيرة ؟!
ابتسم ، ولم يخض غمار خيال مستحيل الحدوث. 
كان سبق له أن شاهده مرة في حانة أخرى تقع مقابل (نقليات أربيل).
أكثر ما كان يجلب انتباه المرء إليه ، شعره الطويل ، المصبوغ بالأصفر الفاقع ، وكان هو يبدو غريبا عن واقع وروح المدينة. في تلك المرة ، كان على مائدة وسط رجال يبدو عليهم أنهم اعتادوا على لعب دور الكومبارس في الحياة ، لكن عيونهم كانت تلمع لمعانا غريبا وهم يحيطون  به، ينظرون إليه بعيون فيها الكثير من لمعان الشهوة، وكأنهم ينظرون إلى حسناء كل مواصفاتها في الجمال عشرة على عشرة .
لكنه هذه المرة رآه بساق واحدة ، وإلى جانبه عكاز، يجلس مع شاب تبدو عليه النشوة وهما يتهامسان. . مالبث الشاب أن خرج من الحانة ثم عاد ومعه رجل يحمل مسدسا ، وأخذ صاحب المسدس يهدد الأشقر المخنث بالقتل إذا لم يخرج من الحانة ويرافقهما .
استغاث بالحاضرين وهو يعدل عكازته كي لا يقع على الأرض ، حل صمم مفاجيء على الزبائن ، فلم يسمعوه . 
أخرجاه من الحانة بالصفعات وبضربات من أخمص المسدس ، وقاده صوب سيارة كانت في الانتظار أمام مدخل الحانة ، حانة سمرقند.
أحس بالشفقة تجاهه وهو يقول للنادل :
ـ لماذا لم تستدع الشرطة ؟
نظر إليه  النادل باستنكار واستخفاف :
ـ وهل مثل هذا المخنث يستحق ذلك ؟

كانت الغيوم عازمة على الهجرة ،وعلى أن تترك للسماء زرقتها ،وأن ترفع خيمتها من فوق البيوت والشوارع ، لتستعيد حيويتها ،وتنزاح عنها الكآبة ، والانقباض من نفوس البشر، والذي يرتفع رايته كلما تلبدت السماء بغيوم داكنة السواد ، تنبيء بالأمطار والرعود.
خرج من الحانة منقبض الروح ، ووجد نفسه في سوق شيخ الله ، يحيط به زحام خانق من كل جهة ، كانوا يتاجرون بالدينار العراقي ، يبادلون الدينار المستنسخ المستعمل في كل أنحاء العراق بعد حرب الخليج بالدينار طبعة سويسرا ، ومن أجل الطعن بالدينار المستنسخ أسموه بالمزيف كان لهم شروطهم، مثقلين كاهل الورقة النقدية الحكومية بشهادات مزورة. ووضع الجميع في دكاكينهم جهازا فسفوريا لكشف النقص في تلك الأوراق .
حيث يفتي الحاج رسول بعينيه الكليلتين في النهاية  بمصير الدينار :
ـ داركا ديار نييه ! ( الشجرة ويقصد بها النخلة غير واضحة)
أو :
ـ خطتكا ديار نييه ! ( الخط المظلل في الوسط غير واضح)
وبعد ذلك يتم قبول الدينار بثمن أقل من قيمته النقدية .
وفي ساحة ( شيخ الله) ضباع بشرية تمتليء جيوب سراويلهم برزم من الأوراق النقدية فيشترون ورقة العشرة دنانير بسبعة دنانير .
وعلى بعد أمتار من هؤلاء ضباع من نوع آخر ، وأمامهم أكياس مليئة بالدنانير السويسرية ، وصفائح مليئة بالعملة المعدنية، وهم يقبلون الدينار الموجود في جيوب الآخرين بدون فحص أو تمحيص رافعين عقيرتهم بالنداء :
ـ بينج به شه ش ..خمسة بستة
ـ ده به يازدا .. العشرة بأحد عشر .
ثم ينطلقون صوب كركوك والموصل لشراء أمتعة وبضائع بتلك الدنانير المغضوبة عليها في أربيل.
والغريب أن كل ذلك كان يجري أمام بنك الرافدين تماما .