المحرر موضوع: ماذا تعلّم العراقيون من دروس الحياة؟ -الجزء الأول-  (زيارة 762 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل لويس إقليمس

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 425
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
ماذا تعلّم العراقيون من دروس الحياة؟

-   الجزء الأول-

لويس إقليمس

ما أكثر الدروس التي مرّ بها العراقيون منذ نشأة الدولة العراقية الحديثة ولغاية الساعة. فالحياة خبرة، والعبرة في مّن يعتبر ويتعلّم استنباط دروسٍ وعبر في مراحلِها المتنوعة والمتعددة والمختلفة بحسب الزمان والمكان والأوضاع ونوعية البشر، وكذا بحسب ما يحيط بالأرض، ماءً وسماءً وهواءً وما في باطنها وحواليها وعليها، ندًّا أو ضدًّا.
 قد يسرح الفكرُ بعيدًا، ليُعيد إلى الأذهان حالةَ المحاربين الأشدّاء في غابر الأزمان، عندما كانت حضارة وادي الرافدين تنطق بما لمْ تكن غيرُها قادرة على فعلِه، أو في الأقلّ ليسَ مثلَها وعلى امتداد قدراتِها. فكانت حياتُها عامرة بأهلِها الذين كان لهم قصبُ السبق في منح العالم شيئًا مميزًا عن غيرهم من شعوب الأرض. لكنها تلكَ كانت فترة وانتهتْ. فالحضارات تسودُ إلى مدى، ثمّ تشيخُ فتموتُ وتبادُ كما حياةُ البشر. إلاّ أن الحياة علمتنا أنَّ الشعوبَ الحيّة تتجدّد وتتواصل وتتفاعل، ولا تنكفئُ على الماضي التليد وتظلُّ تتغنّى به نفاقًا على غير واقعِها المعاش. فخيرُ الشعوب ما تجدّدتْ ثقافاتُها وتطورتْ مواهبُها وأفلحتْ قرائحُها بالجديد من أجل خير البلدان والإنسان والبشرية، تمجيدًا للّه خالق الكون. كما أنَّ الأصيلةَ فيها، هي التي بثقافاتِها المتنورة تنيرُ العالم وتجدّدُ وجهَ الأرض بدعوة الخالق لإرسالِ روحِه إليها فتُخلقُ من جديدٍ، تمامًا كالطفل الوليد الذي يُخلقُ بريئًا ساكنًا في بطن أمِّه. الأمُّ، هذه الأرض الخصبة التي وهبَها الله خيرَ هدية لبني البشر، ليكثروا وينموا ويتعارفوا، لا أن يتقاتلوا ويتصارعوا ويتذابحوا بسبب "الأنا" القاتلة. وما ألعنَها من مفردة!
في المراحل التي مرَّ بها العراقيون، ولغاية الغزو الأميركي اللعين في 2003، ظهرَ نسيجُهم البسيط الهزيل الهشّ من دون رتوش، لدى آخرِ اختبار لهم مع قدوم الألفيّة الثالثة من حياة الشعوب. فقد اختارتهم قوةُ القطب الواحد دونَ غيرِهم لذات الأسباب والمزايا التي مارسَها الاستعمار البريطانيّ في المنطقة في سابق الأيام. فصارَ العراقُ مختبَرًا لوطء عتبةٍ جديدة مختلفة للتعامل مع الشعوب المستضعفة، "الساذجة"، بل "البائسة"، بسبب فقدان المناعة الضرورية لأبنائِه وعدم تعلّمهم من دروس الماضية القاسية بضرورة إدامة حياةٍ إنسانية متوازنة وعادلة تكفل لجميع المواطنين ما يحقُّ لهم، وما يستحقونه من أمانٍ واستقرار ومساواة وعدالة ورفاه وخير وحرية غير زائفة، كغيرِهم من الشعوب المتحضّرة. لكنّ تجربة الغزو الأمريكي لبلادهم، أضاعَتهم وأفقدَتهم قدرتَهم على التوازن وكيفية التعامل مع هذا القادم الجديد، الغريب في الفكر والمنهج والتطبيق والغاية. والسببُ الأساس في هذا الضياع، تتابعُ الأنظمة الدكتاتورية والشمولية في حكم العراق بعدَ أن كان النظامُ الملكيّ سائرًا في طريق سويّةٍ للتأسيس لدولة مدنية متحضّرة ترقى إلى شعوب وأمم العالم المتقدّم.
 أضاعونا جميعُهم، فضيّعَهم اللهُ بالتالي، ونالوا ما استحقوا من وبال الدنيا والآخرة ومن نقمة شعوبِهم بعدهم!

تناشز الشخصية وتناقضٌ في الأهداف

لم يخطئ علماءُ الاجتماع والسلوكيون المعاصرون في تحليل شخصية الفرد العراقي، بل المجتمع العراقي برمّتِه، حين ذهبوا إلى ما ذهبوا إليه من حصول اختلالٍ في المعادلة الثقافية والفكرية والاجتماعية والعقائدية لدى مواطنيه، ومن ازدواجية في الشخصية، في التعامل مع أسرار الحياة وشروطِها وفعّالياتِها. وهذا ما تعوّدنا ملاحظتَه في كلّ طارئٍ أو تطوّر محلّي أو إقليميّ أو دوليّ. فالأخلاقيات السلوكية تهتزّ لديه، ويفقدُ فطرةَ التكافل المجتمعي والتحابّ الإنسانيّ، وينسى تقديسَ ما خلقه الباري لمنفعة البشر وترقيتِهم وسموّهم، متجاوزًا كلَّ هذا وذاكَ إلى عتبة أخرى سوداء مليئة بالأشواك ولا تمتّ بصلة لطبع العراقيّ الأصيل، ولا للغة الإنسان السويّ. فشاهدناهُ يتغير ويتلوّنُ ما أن يغادر بيتَ الله، مسجدًا كان أم معبدًا أم محفلاً ليضعَ قواه متقمّصًا شخصية سوقيّة ومادّية ونفعية مختلفة تمامًا. مثل هذه الازدواجية في الشخصية، في البيت والمصنع والمجتمع، هي خسارةٌ إنسانية، حينَ الانحيازُ جانبًا، إلى "الأنا" البغيضة الأمّارة بالسوء والطامعة بالمال والجاه والسلطة وشهوة المحارم ومآثم الشرّ بكلّ أنواعِها. فهذا النوع من البشر، بتصرّفِه المقيت هذا، لا يقيمُ وزنًا للخطيئة التي تعوّدَ اقترافَها في وضح النهار، وكأنَّ اللهَ الخالق لا يراهُ أو يغضُّ الطرفَ عنه، لمجرّد أدائِه فروض الصلاة في أوقاتِها وأزمانِها وما يترتب على ذلك من تبجّح أمام الناس بإكمال غيرِها من الفروض الوجاهية حبًّا بالظهور أمامَ الناس. فهؤلاء، كما وصفهم كتابُ العهد الجديد، أشبهُ "بالقبور المكلّسة"، ظاهرُها ذهبٌ وفضة ومرجان، وباطنُها حقدٌ وتكفيرٌ وطغيان.
هكذا إذن، تحوّلتْ حياةُ الفرد الاجتماعية والأسرية وكذا الفردية للعراقيّ، إلى سلعةٍ على أساس تجارة الربح والخسارة وانتهاز الفرص والإغراق في الفساد، والتي بلغت مأربًا في التناقض والتناشز، حتى في مجال الدّين والعقيدة والمذهب، ما انسحبَ لسيادة الظلم والفساد في مفاصل الحياة العامة ومؤسسات الدولة، وانتشار شتّى أوجه القهر والتهميش بسبب الاختلاف في هذا أو ذاك من أوجه الحياة.
فهلِ الشعوبُ باستحضار حضارتِها، هي قادرة على تغيير المسار المعوجّ في حياتِها، تخييرًا أو تسييرًا؟
 قد يكون القاسم المشترك الذي يجمع كلّ أبناء العراق حول اسم الوطن والذي يتحدث عنه الحريصون الصادقون، يكمن في مفردة "المواطنة" التي تجمع العراقيين حول الوطن، تمامًا كما تجتمع الفراخ تحت أجنحة الدجاجة للدفء والحماية من كلّ مكروه خارجيّ
. فما زلنا نسمعُ تكرارَ هذه المفردة التي تكادُ وحدها تثلجُ الصدور وتفتحُ الأذهانَ والعقول أمام خطرٍ داهمَنا جميعًا، حين انفرطَ العقدُ الاجتماعي المتراصّ للنسيج العراقيّ التقليديّ المتآلف. وقد يكون جزءٌ من أسباب هذا التحوّل السلبيّ، بسبب نوعيّة الزعامات القادمة الجديدة بعد التغيير الدراماتيكي في 2003، وتركِهم الحبلَ على الغارب، لمجاميع باحثة عن اللصوصية والسحت الحرام، من دون حسابٍ ولا جواب. فهؤلاء لم يأتوا بمشروعٍ واضحٍ للبناء والتنمية والتغيير نحو الأفضل. كما أنهم، كما بدا، لم يقيموا وزنًا لمفردة المواطنة التي تجاهلوها ولمْ تكنْ ضمن الأوليات حين النزوع لتغيير النظام البائد. بل كلُّ همّ الحاقدين على النظام الشموليّ السابق، بمن فيهم الغربُ "الماديّ"، كان يهدف لتغيير ذلك النظام والسطو على ثروات البلاد وارتهانُها لفترة ما شاء قدَرُ الأحقاد، ليسَ إلاّ!
وبالرغم من اعترافِنا وقبولِنا بالتناشز، سمةً قاتلةً للفرد العراقيّ خاصة، والعربي المسلم عامةً، في الحياة المعاصرة، إلاّ أنها لمْ تكن بهذا السوء وهذا القَدر من العفونة التي زكمت الأنوف وطعنت الألباب وفطرت النفوس وفتحت الجروح. فما زالَت النخب الطيبة وذوو النوايا الحسنة من محبّي الوطن، يحلمون ويأملون ويحثّون على مفردة المواطنة والولاء للوطن والعودة للطيبة العراقية الفريدة المتأسِّسة في مهج وضمائرِ العراقيين جميعًا وبالانتماء لأرضهم الطيبة وحضارتِهم العريقة، وليسَ بالارتماء في أحضان الغريب القادم ودول الجوار الطامعة. فالعراق لا يمكن أن يكون تابعًا لهذه أو تلك من دول الجوار، ولا خانعًا لغيرها من دول العالم الطامعة في خيراتِه وقدراتِه وكفاءاتِه. فالوطنُ الذي مدّ على الأفقِ جناحَه، لا يمكنُ إلاّ أن يرتضي مجدَ الحضارات وشاحًا له ولأبنائِه، مهما طال الزمن وتاه الملأ وكابرَ وتكبَّرَ الأعداء!


بين تاريخ وتاريخ

كما قلنا، في بداية المقال، ألمراحلُ التي مرّ بها العراق مختلفة ومتعددة الأوجه سياسيًّا واجتماعيًّا وقوميًا وطائفيًا، نظرًا لاختلاف التنوّع الاثني والدينيّ والمذهبيّ فيه. وإنّهُ بسبب هذه الميزة الرائدة في نسيجِه الاجتماعي المتنوّع القائم منذ القدم، فقد أضحت عاملاً مضافًا لتوجيه الأنظار نحوَه والسعي لتعطيلِ مفعولِه في وسط المجتمع العراقيّ. ومثل هذا التنوّع بكلّ أشكالِه في العراق، والذي يقلّ نظيرُه في مجتمعات أخرى بالمنطقة، إلاّ في لبنان وسوريا على نطاق واسع، وهي الغارقة أيضًا هي الأخرى في أتّون حربٍ طائفية وعنفٍ مستديم، يأتي من جملة الأسباب التي دفعتْ دولاً وزعامات لتفتيت عضدِه خوفًا من تشكيلِه قوةً مضافةً بوجه الأطماع الخارجية القادمة من خلف الأسوار.
إنّهُ وبسبب هذا التنوّع الخلاّق، لا يمكن اختزالُ المجتمع العراقي ولا سيادتُه أو سياستُه بفكر واحد أو أيديولوجية معينة أو دين أو مذهب أو طائفة بعينِها. ففي العهد الملكي الأول، سعى الملك فيصل الأول إلى تشكيل "شعب مهذَّب مدرَّب متعلِّم"، بسبب التناقض القائم آنذاك بين روح البداوة والصحراء مع بدء حالة الاستقرار المدنيّ المتحضّر عند تشكيل دولة العراق الجديد، على أساسٍ وطنيّ، يكون فيه الولاء للوطن. لكنّ رياحَ الدكتاتوريات لاحقًا، كانت قد بدأت تنشرُ هباءَها الأغبر في المنطقة، فأصابت العراق بريحٍ سوداء، حتى تمَّ اغتيال الروح المدنية المتمثلة بالملكية المسالمة التي كانت تسعى للبناء والتنمية وتقوية أواصر الألفة بين طبقات المجتمع عامة من دون تمييز، حيث سيادة مبدأ المواطنة والاحترام والرفاه لجميع فئات الشعب.
في الحقبة الملكية، كان المسلم السنّي والشيعيّ على السواء، وكذا اليهوديّ والمسيحيّ والصابئيّ وما سواهم من ملل ونحل وطوائف، كانت هذه جميعًا تشكّل أساسَ بناء الدولة وأعمدتَها، وإن اختلفت عن بعضِها في الدين أو المذهب أو القومية أو الطائفة. ذلك أنَّ المواطنة كانت هي المعيار القائم، فيما الكفاءة والإخلاص في العمل كانت الفيصلَ في إدارة الدولة على أسس حضارية ووفق رؤى تنموية ومدنية تسايرُ الحدث. فاقتصادُ البلد وماليّتُه مثلاً، كانت أمانةً في عهدة اليهود والمسيحيين في غالب الأحيان، وعلى مرّ الوزارات المتعاقبة، تمامًا كما كانت عليه الحال على عهد الخلافة الراشدية ومن بعدها الأموية والعباسية، حرصًا من ساسة البلد على حسن إدارتِها وأمانتِها، وبسبب رهانِهم على عدم ضياعِها والتلاعب بها في حالة إيداعِها بين أيادي أتباعِهم من دينِهم وطائفتِهم. وهذه حقيقة تاريخية وواقعية لا غبارَ عليها!
بعدها، اختلفت الحالة مع اغتيال الملكية في البلاد. فصارَ الصراعُ على اقتصاد البلاد والسيطرة على ثرواتِه ديدنَ الطامعين في أوساط الساسة الجدد وأتباعِهم ومّن والاهُم، باختلاف الهدف والغاية والرؤية في إدارة شؤون البلاد عن سابقيهم. وما تزالُ عليه لغاية الساعة بعد الغزو الأمريكي في 2003 وقدوم الحاكم المدني "بريمر" سيّء الصيت، الذي حلّ مؤسسات الدولة العراقية وأفرغَها من محتواها وكوادرِها وكفاءاتِها، بما فيها الأجهزة الأمنية في الشرطة والجيش. فصار العراقُ في عهدِه ومن بعدِه، أرضًا مشاعًا لكلّ مَن هبَّ ودبَّ من ذوي المصالح الفئوية الضيقة والطائفية التي أسَّسَ لها، بإشارتِه على الساسة الجدد باتباع سياسة المحاصصة الطائفية والتوافق النفعيّ الذي دمّرَ البلادَ وأفسدَ العبادَ وأسّسَ لنظامٍ طائفيّ بامتياز، تسيَّدَ مشهدَه المثلّث الشيعي-السنّي-الكرديّ، دون سواهم من أتباع أبناء الأقليات الأخرى الأصيلة في المجتمع العراقي والمشهود لها بالغيرة والمواطنة والولاء والجدارة.
تلكم كانت بداية الانهيار المؤسساتي للدولة العراقية، والذي تمثلَ في جزءٍ منه باستبعاد أبناء الأقليات من مواقع في السلطة وتهميشِ دورِهم في إدارة البلاد وتقليص قبولِهم في التوظيف في أجهزة الدولة، بحيث خلت من أمثالِهم دوائرُ عديدة بسبب سياسة المحاصصة وتحويل وزارات ومؤسسات إلى إقطاعات طائفية وحزبية ودينية ومذهبية. فالمنافسة بين السعاة الجدد للسيطرة على المواقع الاقتصادية والسياسية للدولة الجديدة الفاقدة للسمة المؤسساتية لغاية اليوم بالرغم من مرور أكثر من 12 عامًا على التغيير، لمْ تحمل في صدور وضمائر الحاكمين الجدد ذلك الهاجسَ الوطنيّ الذي تعهّدوه للشعب بحمايةَ أموالِ البلد وثرواتِه ومصالحِه، بقدر ما يقوم فعلُهم الحاضر على استنباط وسائل وابتكار أبواب وإيجاد نوافذ في الموازنات السنوية المتعاقبة لهدر المال العام وسرقة قوت هذا الشعب البائس من دون سؤالٍ وحساب، ذلك لأنّ الكلَّ مثل الكلّ، في الغاية والنية والإرادة!
وهناكَ أحاديثُ عن إنفاق أكثر من ألف مليار دولار في جوانب صرف مجهولة أو في مشاريع وهمية وأخرى غير مكتملة، وتحويل مبالغِ الى حسابات خارجية بأسماء وشركات وهمية، فيما الشعب يعاني من البؤس والإرهاب ومن شظف العيش والتهجير وحجز حسابات لأفراد في مصارف أهلية تعرّضت للصوصية لا مثيلَ لها أدت إلى إفلاسِها وعدم مقدرتِها على الإيفاء بالتزاماتِها تجاهَ عملائِها. وبتنا اليوم، نخشى من قتامة قادم الأيام بسبب وجود إشارات بتحوّل العراق الى بلدِ خاوي السيولة النقدية وتفاقم المشاكل بين حكومة المركز والإقليم الذي أصبحَ يتحكّمُ بمقدّرات البلد الاقتصادية والسياسية على السواء، بدعمٍ من الغرب المنافق.
ولعلَّ من أسباب تفشّي ظاهرة سرقة المال العام وعقارات الدولة المستباحة واتساعِها وتواصل تراجع اقتصاد البلاد وقربِها من هاوية الإفلاس، بالرغم من تجاوز الواردات لأكثر من مائة مليار دولار في السنة منذ السقوط، يكمن في فشل سياسة المحاصصة التي أتى بها الحاكم المدني "بريمر". ومن نتائجِها الخروج عن مبدأ المواطنة، وعدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وإقصاء ذوي الكفاءة والجدارة في الإدارة والعمل والتوظيف، لاسيّما من أبناء المكوّنات قليلة العدد المهمَّشة أصلاً منذ انتهاج هذه السياسة الفاشلة. ذلك أنَّ استبعادَ أمثالِ هذه الكفاءات والطاقات الوطنية الحريصة على المال العام يعني للطبقة الحاكمة إزالةَ العوائق أمامَها للعبث بما تهواهُ وفعلِ ما ترغبُ به من دون رقابة ولا عيون ساهرة ترصدُ الفسادَ وتراقبُ الأداءَ وتردعُ العابثين من مغبّة التلاعبِ بالمالِ العام، مال الشعب.
 ومن سوء نتائجِها أيضًا، تفتيت النسيج الاجتماعيّ وإثارة النعرات الطائفية وتواصل نزيف الهجرة الذي سيُفرغ البلاد من أهمّ ركنٍ في تنوّع هذا النسيج المتميّز والمعروف بالتعايش والتكاتف والتآخي. فالتنوّع الاثني والدينيّ والمذهبيّ للشعوب، هو الكفيل والرهان بتأمين الغنى الوطنيّ وتنوّع الأفكار واختلاف الرؤى وتبادل الخبرات لصالح التنمية الفضلى والخير العام لعموم الشعب والوطن، وليسَ التميّز بلون واحد وشكل واحد ورائحة واحدة. فالحديقة بلون الزهر الواحد مملّة ومضجرة ولا شكلَ لها، إلاّ حينما تتنوّع ورودُها وأزهارُها وتشكلُ بانوراما رائقة ورائعة تبهر كلَّ مَن يتطلعُ إليها ولا يشبعُ منها.
 هكذا كان العراقيون بالأمس ملتحفين بحبل الولاء للوطن والرجاء بكلّ يومٍ سعيد متجدّد. واليوم أمسى بلدُهم بلا طعم ولا شكلٍ ولا صورة، إلاّ من واقع العنف وسيادة الفوضى وغياب القانون وتسيّب المؤسسات وانفلات الميليشيات العاملة لصالح دولٍ إقليمية منتفعة من إبقاء الوضع الفوضويّ على حالِه بسبب غياب الحس الوطني وتسهيل استباحتِه من قبل مخابرات الدول المستفيدة من الوضع القائم، والساعية لتصفية حسابات إقليمية عبر أرض العراق واستغلالِ شعبِه البائس أدواتٍ طيّعة لهذه الأغراض الدنيئة. ومثلُهُ، ينطبق تمامًا على دولٍ وشعوبٍ أخرى في المنطقة رُسمَ لها كي تشهدَ تغييرًا في خارطتِها الجغرافية والديمغرافية، ضمن مشروع خارطة الشرق الأوسط الجديد!

يتبع-