المحرر موضوع: المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى /ح 3 النظام لاحقني بشكل استثنائي إثر صدور كتاب النزاع العراقي- الإيراني  (زيارة 782 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1287
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى /ح 3
النظام لاحقني بشكل استثنائي إثر صدور كتاب النزاع العراقي- الإيراني

وتلك كانت مفردات لمحاضرة لي في الكويت، وأخرى في الجامعة اليسوعية في بيروت بتحريض من الصديقين جهاد الزين وحامد حمود العجلان، وهو الأمر طالما بقيت أبحث عنه في العديد من الحوارات واللقاءات والكتابات والاستفهامات مع عدد من الشخصيات الفكرية والثقافية، لا فيما يتعلق بالنجف، بل بالتاريخ والأحداث والسرديات والذكريات والمذكرات، خصوصاً من يمتلك قدرة في قراءة نقدية للماضي، بكل ما له وكل ما عليه.
وإذا كان هذا الاستهلال يخصّ عامر عبدالله ارتباطاً بحوارات ومدارات ومفهومات سبق للكاتب أن عرض بعضاً منها، وهو إذْ يتابع استكمال بعضها، فلأن بعض ما لديه لم ينفض الغبار عنه بعد، خصوصاً حوارات في موضوعات شائكة وتقييمات لأشخاص ومواقف وأحداث، وذلك ضمن منهج اتبعه الكاتب مع شخصيات وازنة ومبدعين نافذين، ويحتفظ ببعض قصاصات جمعها في أوقات مختلفة وبلقاءات منقطعة ومتّصلة مع عامر عبدالله وعنه، عن مدينة عانة والعانيين عموماً، وعلاقتهم بمدينة راوة، فضلاً عن دعابات وطرائف، كان مخزون عامر عبدالله غنيّاً بها ويعرضها بمنهج سسيوثقافي فيه الكثير من النقد الذاتي، مثلما هي علاقة البيبسي كولا بالحداثة مثلاً، أو ماركس بأكلة البامية وهكذا.
في المثقف وفقه الأزمة، أعود إلى ما كتبته في كتاب عامر عبدالله " النار ومرارة الأمل" وما رافقه من ردود فعل إيجابية أو سلبية، إذْ يمكننا التمييز بين ثلاثة أنواع من الذاكرة:
الأولى- الذاكرة الانفعالية، وهي شكل من أشكال الإرادوية التي يتم إسقاطها على الواقع، سواءً لتصفية حسابات أو لتبرير مواقف أو صرف النظر عن أخرى أو تحميل مسؤولية إلى جهة وتبرئة النفس عن أخطاء وممارسات أو غير ذلك، وهدف هذه الذاكرة ليس الاستذكار أو التذكّر أو إعادة قراءة الحدث التاريخي انطلاقاً من تكوّنه والعناصر الجديدة التي ظهرت عليه والوقائع المضافة التي أعقبته، والمؤثرة في تقييمه بالطبع، لاسيّما خلاصاته التاريخية، أي أخذه بسياقه التاريخي وربطه مع غيره من الأحداث، مستفاداً من العبر والدروس التي أفرزتها التجربة التاريخية، وعكس ذلك فإن الانفعالية ستؤدي إلى التقولب، خصوصاً إذا حُدّدت الوظيفة مسبقاً خارج سياق الوقائع التاريخية أو حين تتم قراءتها بطريقة مبتسرة وانتقائية والتي ستؤدي إلى الإخلال بتفاصيلها، ولعلّ بعض هذه القراءات، هي محاولة لنقض كل ما عداها لدرجة لا يمكنها أن ترى التطورات التي حدثت والوقائع الجديدة التي يمكنها تغيير مسار الوجهة الأولى، التي غالباً ما أنتجت تخندقاً سياسياً وعصبوية آيديولوجية، ترى في نفسها أفضلية على الآخر وتزعم امتلاك الحقيقة.
الثانية- الذاكرة الحسيّة، وهي القدرة على تذكّر واستذكار الأحوال والأهوال أحياناً على نحو خام، أي من خلال مفردات ووقائع وتفاصيل عند حدوث الفعل التاريخي، ولكن قراءته تأتي بعد حين، بما تُرك وما استقر في الذاكرة، باعتباره واقعاً لا جدال فيها، خصوصاً إذا ما استمرّ الوعي يشحن الانحياز المسبق، وعدم الرغبة في رؤية ما استجد وما أضيف إلى الواقعة التاريخية، بحيث يؤثر على مسارها. وبكل الأحوال فإن المادة الخام يمكن تكييفها أو إعادة عجنها حسب قراءة المؤرخ أو الشاهد أو المشارك، وفقاً لتوجهاته ودرجة وعيه ومقدرته على ملامسة الحقيقة.
الثالثة- الذاكرة المنظّمة، وهذه الذاكرة لا تقتصر على المادة الخام وإنْ كانت هذه ضرورية ولا يمكن الحديث عن ذاكرة دون هذه المادة الأولية، ولا على الرأي المسبق بالطبع، الذي يتناول الحدث بطريقة انفعالية، بالاصطفاف والتمترس، بزعم الأفضليات أو ادعاء امتلاك الحقيقة، وإنما تقوم على تذكّر واستخلاص المعاني التي تنتظم الذكريات في إطارها، وهذا الناظم يقوم على المادة الخام (المادة الأولية التي تتألف منها الوقائع) وصولاً إلى الدلالة، خصوصاً بفعل التحقّق، وذلك بإضفاء التفسيرات والتأويلات على النص أو الحدث أو الواقع المعيش، ونحن نتحدّث عن تاريخ مضى، وبذلك يمتزج الفكري بالتاريخي، والاجتماعي بالنفسي، والقراءة المجرّدة، بإعادة ترتيب الصور والأحداث، على نحو عضوي بتوليف عناصره، من خلال إعادة قراءة الحدث في سياقه التاريخي.
بهذه الصورة حاولت أن أقدّم عامر عبدالله من خلال محاولاته لقراءة ما حدث على نحو يؤشر وبخطوط ملوّنة إلى الواقع من خلال قراءة جديدة، وسعيت أن يشارك فيها جمهور القرّاء أيضاً، من خلال نقد ذاتي لعدد من التوجهات التقليدية السائدة والمستقرّة، أو التي تلقى المسؤولية فيها على الأعداء، وهم يتحمّلون قسطهم الكبير والوافر في ذلك، لكن عبر مراجعة لأخطائنا ونواقصنا وبعض مواقفنا وممارساتنا، على نحو يتّسم بالأريحية وعدم المغالاة. وسبق للكاتب أن قال لأكثر من مرّة إن إخفاء النواقص والعيوب والتغطية على المثالب والثغرات، هو مجافاة للحقيقة وإساءة كبيرة لتاريخنا المضيء والمليء بالعناصر الناصعة والمشرقة.
إن فعل التذكّر يشكل عنصراً أساسياً في استعادة بعض الوقائع التاريخية، مضافاً إليه فعل النقد والمراجعة، من خلال مسار تاريخي كان عامر عبدالله فيه هو صانع الحدث والمشارك فيه والشاهد عليه وذلك بإخضاعه لفحص وتدقيق ومناقشة ورؤية مختلفة أحياناً، لكن ذلك لم يكن يرضي أصحاب الذاكرة الانفعالية بشكل خاص، خصوصاً وأن الكاتب حاول استرجاع الحدث والتعرّف على تفاصيله وكأنه يحدث اليوم، من خلال ما وقع فعلاً مقارنة بأكثر من مصدر أحياناً، والأمر يحتاج إلى تمحيص وتقليب من زوايا مختلفة، إضافة إلى ما اكتسبه الإنسان من معارف جديدة، وما أضيف إليه وما كتب عنه وما ظهرت من حقائق بخصوصه، وهي محاولة درج عليها منذ ثلاثة عقود، وفي ذلك اتفق واختلف مع صانع الحدث وشاهده ومع آخرين.
المعرفة مرتبطة بالزمن الحاضر، حتى وإن كنّا نتحدث عن التاريخ، فهناك عناصر مكوّنة لها، منها درجة التعلّم والاكتساب، إضافة إلى التكوين والتخزين والاسترجاع والاستجماع والاستيعاب والإحاطة والاستنهاض والمقارنة والمقاربة، وذلك في إطار مصهر أكاديمي ومحاولة الابتعاد عن العواطف والهوى المسبق قدر ما يستطيع، ولا شكّ إن في كل ذلك تجري أحياناً عمليات انتقاء واختيار حسب القدرة على الانتباه ودرجة التأثير ومدى التشكّل في نسيج الوعي، وهو ما يحدّده علماء النفس من علاقة بين الذاكرة المادية والذاكرة الروحية، وما تبقى من الأولى في الدماغ من معلومات، ناهيكم عن طريق استحضارها، في حين أن الثانية تختلف أحياناً مع العادة التي تأتي من خلال التكرار والإعادة وعنصر الاستخدام.

القسم الثاني
المثقف والموقف من الآخر

1-   كتاب وملاحقة: الصراع على الوطنية
حين صدر كتابي " النزاع العراقي- الإيراني" في بيروت العام 1981 هاجت المخابرات العراقية للبحث عنّي سواءً لتصفيتي ومحاولة إيذائي على أقل تقدير، وكنت قبل ذلك قد كتبت مقالتين بذات المضمون في صحيفة تشرين السورية بعد عدّة أسابيع من اندلاع الحرب ( العام 1980). وعلى طريقتها المعروفة إنْ لم تستطع الوصول إلى هدفها، فتحاول المخابرات الانتقام من الأهل والعائلة والضغط عليهم بجميع الوسائل عسى أن تفلح في إضعاف خصمها، ولجأت إلى اقتحام منزلي ومنزل شقيقتي سميرة، الملاصق له في منطقة العطيفية – شارع المحامين، واحتجزت من في المنزلين، ومكثت فيهما لمدّة خمسة أيام، مع الوالد عزيز جابر شعبان الذي كان قد تعرّض إلى حادث سيّارة مدبّر قبل فترة قصيرة من هذا التاريخ، وبقي طريح الفراش حتى وفاته في مطلع العام 1985 ، والوالدة نجاة حمّود شعبان التي تحمّلت القسط الأكبر من الأذى وبقية أفراد العائلة.
وعلى مدى خمسة أيام جمعوا مكتبتي وجميع مقتنياتي الشخصية بما فيها شهاداتي الدراسية وصوري ورسائلي وأطروحاتي وثلاث مخطوطات كنت أعدّها للطبع، ونقلوها إلى المخابرات، حيث اقتادوا أفراد العائلة جميعهم إليها، واستبقيوا هناك، وأرسلت والدتي إلى بيروت للقاء بي، وتلك قصة أخرى سبق لي أن رويت جوانب منها بما يسمح فيه المجال، سواء في حواراتي مع د. حميد عبدالله لتلفزيون الاتجاه (خمس حلقات) أو لصحيفة الناس لمحاوري الإعلامي والكاتب توفيق التميمي الذي نشر منها 24 حلقة، ثم جمعها مع إضافات أخرى لتصدر في كتاب بعنوان "المثقف في وعيه الشقي".
وكان عامر عبدالله قد سألني لماذا تعتقد إن المخابرات العراقية استهدفتك بالذات، بعد أن عرف بإرسال والدتي إلى بيروت بهدف الضغط عليّ: ألأنك ممثل الحزب في العلاقات في الشام أم لنشاطك المعروف أم بسبب كتاب " النزاع العراقي- الإيراني"؟ وهنا لفت نظري إلى مسألة مهمة وحسّاسة لم أكن أعطيها الأهمية الكافية، خصوصاً وإن القوى والمواقف التي تعارض النظام كانت كثيرة ولها منشوراتها، لكن على ما يبدو أن موضوع الكتاب كان له وقعٌ آخر.
كان عامر عبدالله قد استحسن مادّة الكتاب وتوجّهه، وطالبني بتوسيعه، وكتبت لاحقاً عدّة دراسات بخصوص الحرب والنفط، والحرب والقضية الكردية، والحرب والصراع العربي- الإسرائيلي، وبانوراما الحرب، والحرب والحسم العسكري، وأسرى الحرب في القانون الدولي، وحرب المدن، وسيناريوهات الحرب، وحرب الناقلات، وعشرات المقالات غيرها في العديد من الصحف والمجلاّت الفلسطينية والسورية واللبنانية، كما ألقيت محاضرات في إطار رابطة الكتاب والصحفيين والفنانين الديمقراطيين العراقيين وفي مواقع فلسطينية للجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وجبهة النضال الشعبي، وبعد ذلك في مواقع قوات الأنصار في كردستان، في منطقة بشتاشان وأشقولكا وغيرها.
بارزان التكريتي
قلت لعامر عبدالله ما قاله مدير المخابرات العراقية برزان التكريتي في حينها كما عرّفت به والدتي حين خاطبها " السيد العام" كما كانوا يطلقون عليه " والمدير الكبير" كما أسمته: بأن الكتاب موجود على طاولة السيد الرئيس منذ شهر (المقصود صدام حسين)، وقد أطلعها على نسخة منه في الدُرج، وقالت إن لونه وردي، وقرأت اسمي عليه. وتنبّهتُ وأنا أطلب نسخاً من الناشر الرفيق "فخري كريم" (دار الطريق الجديد) إلى نفاذه بسرعة من مكتبات بيروت، وحرصت على بعض النسخ المتبقية التي أرسلت إلى منظمة سوريا وبعضها جلبته من اليمن عند زيارتي لها، وهي لا تتعدّى بضعة نسخ، فاحتفظت ببعضها.
واتّضح أن السفارة العراقية في بيروت في حينها قامت بشراء كمّية كبيرة من النسخ وأرسلتها إلى بغداد بطلب من الأخيرة، كما يبدو، وحينها أدركت سبب الاستهداف الحقيقي، فلم يكن النشاط المعارض ضد النظام وحده، فهناك كثيرون، بل أكثر مني "خطراً" على النظام، وأنا لست سوى كاتب أعزل لا يملك سوى سلاح النقد، وهو لا يعيره النظام أي اهتمام، فكما هو معروف كان نظاماً دموياً لا يضع أية اعتبارات لما تخشاه الكثير من الأنظمة عادة، إزاء سمعتها وتورّطها بأعمال إرهاب وبطش، فما الذي يدفعه لمثل ردّ الفعل هذا إزاء صدور كتاب، لم يقرأه سوى مئات في أحسن الأحوال، في وقتها؟.
ولكن للنظام حسبما يبدو حسابات أخرى تتعلق بالصراع الفكري والسياسي، وهنا أدركت على نحو أكبر وبشكل مباشر دور الكلمة، خصوصاً عندما تكون مؤثرة، فهي مثل المدفعية الثقيلة، فإذا أحسنت استخدامها في الميدان على نحو صحيح، فإن مفعولها سيكون ماضياً، والعكس صحيح أيضاً، وتلك بعض جوانب المعركة الآيديولوجية والدعائية، الأمر الذي كان يقتضي متابعته من جانب النظام، وهو ما دعاه لاستهداف صاحب الكتاب، علماً بأن الكثير من الأدبيات والمطبوعات كانت تهاجم النظام وتلعنه صباح مساء، سواءً من جانب الإسلاميين أو الشيوعيين أو الحركة الكردية أو البعثيين الموالين لسوريا أو غيرهم، لكن ذلك شيء، والحجج القانونية التي تعكّز عليها في شن الحرب، والتي قام الكتاب بتعريتها ودحضها شيء آخر.
المختلف في الكتاب الموسوم " النزاع العراقي- الإيراني: ملاحظات وآراء في ضوء القانون الدولي" إنه يدافع بلغة واضحة ولا غموض فيها عن حقوق العراق الوطنية التاريخية في الماء واليابسة، ويندّد بالاتفاقيات غير المتكافئة والمجحفة، ولاسيّما اتفاقية الجزائر الموقعة في 6 آذار (مارس) العام 1975 بين صدام حسين وشاه إيران، التي كانت إدارة الحزب الشيوعي قد أيّدتها للأسف الشديد في حينها بحرارة، ويستعرض الأطماع الإيرانية المعتّقة ، ويشدّد على تصحيح العلاقات العراقية – الإيرانية على أسس جديدة قوامها مصلحة الشعبين والبلدين والمشتركات الإنسانية واعتبار الحرب لا تخدم سوى الامبريالية والصهيونية.