الخطاب الكلداني ”العقلاني”
اسكندر بيقاشا ـ ستوكهولم
لا يحتاج المرء الى الكثير من الشرح والتفصيل لمعرفة الوضع الصعب الذي يعيشه المسيحيون في العراق والشرق الاوسط والمخاطر المحدقة بهم وبتواجدهم في في هذه المنطقة الملتهبة. كما لا يخفي على المهتم والمتابع لتطورات قضية (الكلدان, الاشوريين, السريان) في العراق ان موقعهم في العراق وفي المعادلة السياسية ضعيف جدا نتيجة لظروف موضوعية وذاتية. قد نستطيع ايجاد بعض الاعذار المتعلقة بالوضع العام في العراق لكننا لا يمكننا ايجاد الحجج والاعذار حول الحالة "المزرية" الذي تعيشه علاقاتنا السياسية والطائفية خاصة ونحن نعيش واقعا نستطيع وصفه بالمأساوي.
لا اجد نفسي معنيا مباشرة للتدخل في العلاقات بين الكنائس ورجالاتها لكنني اجد ان من واجبنا جميعا ان نحاول تغيير االعلاقات السلبية التي تسود بين قوى شعبنا القومية والسياسية عسى ان تنعكس على الشرائح الاخرى ايضا. واكثر العلاقات ايلاما هو الجروح المفتوحة نتيجة العلاقة المتوترة بين التيارين القوميين الاشوري والكلداني والتي تضعف الروح القومية لكلا الطرفين وتشتت الجهود المبذولة لاسناد مطالب شعبنا القومية والانسانية وتشرذم مجهود قوانا السياسية.
كان متوقعا من ابناء الكنيسة الكلدانية ان يلعبوا دورا كبيرا في عراق ما بعد صدام بعد ان تحرروا من سياسة التعريب والتبعيث التي اتبعها البعثيون لابناء شعبنا حيث تنكروا لخصوصيتهم القومية واعتبروا الذين يسكنون في المناطق الشمالية كردا والمناطق الوسطى والجنوبية عربا. لكن على ما يبدو فان التغيير كان سريعا على ابناء الكنيسة الكلدانية فظهرت على الساحة افكارا ومشاريعا لم تستطع ان تأخذ وقتها الكافي للنضوج.
وفي المقابل فقد ارادت بعض القوى القومية الاشورية التي كانت قد ترسخت فكرتها القومية من استغلال هذا التغيير لنشر فكرها القومي وايديولوجيتها السياسية. وقد حدث ذلك في احيان كثيرة بطريقة استفزازية وبفكر متعصب ليس من السهولة استساغته من قبل الآخرين. وكنت في مؤتمر بغداد 2003 قد حذرت المؤتمرين من هذا الفكر الالغائي واشرت حينها الى تجربة التيار القومي الاثوري في الطائفة السريانية حيث ادى "فرض" التسمية القومية "الآثورية" والغاء السريانية الى نهوض تيار قومي سرياني معادي للآشورية وناكرا للوحدة القومية مع الكلدان والآشوريين. وقد اكد مؤتمر بغداد في حينها على ان التسميات الكلدانية والاشورية والسريانية هي اسماء قومية "نعتز بها ونفتخر" كما وصفها البيان الختامي.غير ان الكثير من المؤتمرين نسوا ما كتبوه في البيان بعد فترة قصيرة مما ادى الى عودة الصراع الى المربع الاول.
ان اسوأ ما فعله التيار القومي الآشوري ”المتعصب” هو ان الكثيرين من الكلدان بدأوا يتخوفون على تسميتهم واخرون بدأوا يشكون في نوايا القوميين الآشوريين رغم محاولة بعض الاحزاب والمنظمات القومية تهدئة مخاوف الكلدان وادخال اسمهم في تسميات مركبة.
رد الفعل اختلف بين الكلدان حسب ثقافة الشخص القومية وتجربته الذاتية وانتماءاته الحزبية. لكن عموما كان رد الفعل عاطفيا اكثر مما هو عقلاني, هادئ او متوازن. وقد نشأت على اثر ذلك احزابا قومية كلدانية بعضها مدفوعا بالحرص على هويته والبعض الاخر مدعوما من قوى سياسية خارج عائلتنا القومية من اجل استغلاله. لكن العامل المشترك بين غالبيتها ,خاصة في بداية تأسيسها, هو موقف العداء من انتشار الافكار القومية الاشورية داخل ابناء الكنيسة الكلدانية وانكار الوحدة القومية بين الكلدان والاشوريين والسريان بالضبط مثلما حصل مع السريان في اوربا. وفي الوقت الذي وقفت الغالبية الشعبية وبعض النخب الكلدانية موقفا وسطيا معترفة اننا قومية شعب واحد فان هنالك مجموعة اخرى اندمجت في التيارات القومية الاشورية الذين تعترف بالتسمية الاشورية فقط. لكننا يجب ان لاننسى ان نسبة لا يستهان بها من الكلدان(كنسيا) لازالوا يؤمنون بانهم عربا او كردا او ليس لهم شعور قومي البتة.
اذن الخطاب القومي الكلداني ليس موحدا وليس واضحا ولا ثابتا ايضا. وهذا الغموض وعدم الوضوح ادى الى فشل القوميين المتشددين في الوصول الى اهدافهم كذلك فشل الوحدويون منهم في تبوأ المواقع التي يستحقونها في العمل القومي الموحد. كما ادى الصراع بين هذه المجموعات الى خلق جو مشحون داخل الكنيسة الكلدانية وصراع بين ابنائها. هذا ما يستدعي اعادة بناء الخطاب القومي الكلداني وتوسيعة كي يستوعب الاراء والافكار المنشرة بين ابنائه من دون خلق حروب او حساسيات مفرطة.
الخطاب القومي الكلداني يجب ان يتخطى مرحلة المراهقة الفكرية ويتخلص من عقدة الخوف من الاخرين خاصة وقد مر عليه اكثر من عشر سنين مليئة بالنقاشات والصراعات والمؤتمرات. وفي النهاية يصل الى حلول تضع حدا للصراع الدامي بين الكلدان انفسهم وبينهم والقوى الاشورية والسريانية وتضع اسسا للعمل القومي المشترك في الشرق الاوسط او منافي الهجرة. لذا ارى:
١ـ ان من المهم ترسيخ الشعور القومي بالهوية الكلدانية على ان لا تتعارض مع التاريخ والتراث والحقائق الاجتماعية. ان الحفاظ على هذا الشعور يساعد على حماية ابناء الكنيسة الكلدانية من الذوبان في الشعوب التي هاجرت اليها كما يحميها من محاولات التعريب والتكريد التي يتعرضون لها في الشرق.
٢ـ الاعتراف بان الكلدان والاشوريين والسريان امة وقومية واحدة متطابقة في الخصائص القومية. ان انهاء هذا الجدل البيزنطي الى الابد يجعلنا نركز على المخاطر الحقيقة التي يتعرض لها شعبنا في الشرق والغرب عوضا عن التهائنا بنقاشات وصراعات لن نجني منها الا الخيبة والندم.
٣ـ ظرورة الحفاظ على التسمية الكلدانية باعتبارها احدى التسميات القومية لشعبنا والوقوف امام محاولات بعض القوى المتشددة الغاء هذه التسمية القومية. فالتسمية الكلدانية هي تسمية رافدينية عريقة والكلدان قد اختلطوا مع القبائل الاشورية والارامية وكونوا مجتمعنا الحالي الذي لا يمكننا الفصل بين مكوناته.
٤ـ حرية الافراد في اختيار التسمية القومية التي يؤمنون بها بغض النظر عن الكنيسة التي ينتمون اليها باعتبارها تسميات مترادفة اطلقت على شعبنا في مراحل مختلفة من التاريخ الطويل لامتنا ولا فرق بينها لانها تمثل نفس المكونات ونفس الخصائص القومية. الاعتراف بهذه الحرية يجنبنا الكثير من الاشكاليات داخل الكنيسة والمجتمع.
٥ـ من المهم جدا ايقاف حملات التخوين والتجهيل والتجريح بين السياسيين وكتاب المقالات والتي تسود في كثير من الخطابات السياسية والمنتديات لانها تضر بشعبنا المسيحي في العراق وتقوض مطالبه القومية والدينية وتسئ الى سمعة شعبنا المعروف بطيبته وسمو اخلاقه وثقافته المميزة.
٦ـ واخيرا اهمية مواصلة الاتصالات والمشاورات بين ابناء الكنيسة الكلدانية للوصول الى مقترح يتبناه ابناءه لتسمية قومية موحدة تأخذ في ال واعتبار المبادئ المذكورة اعلاه. ومن ثم مناقشته مع التيارات القومية والسياسية المختلفة سريانية وأشورية الموجودة على الساحة للوصول الى حل يرضي معظم الاطراف ان لم نقل جميعها.
وهنا اريد ان اوضح بان قوة الكلدان كنيسة وتيار قومي مبني على هذه الاسس, هو قوة للآشوريين والسريان ايضا. فالاعتراف باننا امة واحدة يخلق قاعدة مشتركة يمكننا ان نبني عليها كل المشاريع القومية الاخرى سواء كانت داخل العراق ام خارجه. كما يخلق شعورا بالارتياح عند مجموعات كبيرة من ابناء شعبنا الذين ابتعدوا عن العمل القومي نتيجة خيبتهم ويأسهم من كثرة الصراعات والتناحرات والمهاترات في الساحة السياسية والقومية.
ومن المهم تذكير ابناء شعبنا جميعا ان مكون لوحده لن يستطيع ان يقاوم امواج التغيير الذي يحصل ثقافتنا وتقاليدنا وترثنا الديني في مجتمعاتنا الجديدة. وهذا الخطاب يعطي لنا ايضا فرصة للتقارب اكثر مع اخوتنا في القومية من الطوائف الاخرى وبناء معهم علاقات ايجابية مبنية على الاحترام المتبادل وعلى اسس الحرية والديمقراطية التي تعطي لكل فرد الحق في التعبير عن افكاره ومشاعره السياسية والقومية من دون تخوين او تجريم او تحريم.
اسكندر بيقاشا ـ ستوكهولم