المحرر موضوع: المواطن الإنسان وتحولاته في مظاهرات العراق ولبنان  (زيارة 937 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31440
    • مشاهدة الملف الشخصي
المواطن الإنسان وتحولاته في مظاهرات العراق ولبنان
الإنسان العراقي واللبناني يختار اليوم العودة إلى التاريخ ليس صافياً تماماً، لكنه يعلن تمرّده على ما لم يجد فيه أفقاً متحضراً يليق به.
العرب إبراهيم الجبين [نُشر في 30/08/2015، ]


جموع ما بعد الربيع العربي تهتف 'طلعت ريحتكم' و'إيران بره بره'

يتطلب الأمر، دراسة متأنية، للغة اللافتات التي رفعها العراقيون واللبنانيون في مظاهراتهم الأخيرة، والتي انطلقت في بغداد والبصرة وغيرها، احتجاجاً على انقطاع الكهرباء، أو غيابها في موجة الحرّ التي تضرب المنطقة والعالم، حتى وصلت إلى شعارات حادة وصريحة تقول” بغداد حرة حرة، إيران برّه برّه” أو “ممنوع دخول الإيرانيين” تلك اللافتة ذات الرمزية العالية، لا سيما وأنها وضعت في كربلاء، المدينة الشيعية ذات القداسة الكبرى.
في لبنان أيضاً، صبر المواطنون على أزمة عابرة، كان يمكن أن تكون كذلك، لارتباطها بمسألة نزح النفايات، وطمرها، وبدأت المشكلة بخلافات حول المكان الملائم للطمر، ثم حول المناقصات وارتفاع تكاليف نقل طن النفايات، الذي وصل إلى قرابة الألفي دولار، ناهيك عن الغياب التام للتفكير في معالجة تلك النفايات، وبقيت الأزمة حكومية إدارية، حتى تفاقم الأمر وأخذ اللبنانيون يعيشون بين تلال النفايات في مدينة من أجمل مدن العالم (بيروت)، ولمّا لم يجر التوصل إلى اتفاق، في انسجام مع جميع المسائل الخلافية في لبنان، وعلى رأسها منصب رئيس الجمهورية، اندفع الناس إلى الشارع، في حملة خاطبت المسؤولين والطبقة السياسية اللبنانية التقليدية، حملت العنوان “طلعت ريحتكم”.

ما الذي تغير
في العراق أو لبنان، كانت زاوية النظر إلى الجموع البشرية، ترى حشداً من “العوام”، يمكن قيادتهم، بهذه الصورة أو تلك، وبهذا الشعور الطائفي أو العرقي أو ذاك، وفي كثير من الأحيان، لم تكن تلك العبارة “يمكن قيادتهم”، كافية، بل إن الأمر وصل في بلدان المشرق العربي إلى أنه “تتوجب قيادة الجموع بالقوة”، والحديث عن مرحلة ما بعد الربيع العربي.

ما الذي تغيّر؟ تغير الكثير في الواقع، فالربيع العربي، الذي تميّز بانفلات الجموع من السيطرة، لم يوصل إلا إلى سيول من الدماء، ولكنه لم يكن فكرة مدبّرة، أو خطّة محكمة، بقدر ما كانت عفويته الأولى، والتي قادها الشباب، من جيل وذهنية الذين خرجوا في العراق ولبنان هذه الأيام، قبل أن تنقضّ عليهم التيارات الإسلامية، والعسكر والنخب السياسية التقليدية المهترئة، ذلك الذي سمّي ربيعاً، ذات يوم، لم يفقد طاقته بعد، وبدأ يدرك أن الشعارات التي سهّلت “سرقة الثورات” و”أسلمة الحراك المدني”، لم تكن كافية، وأنّ عين السياسة، بعد انقطاع طويل عنها، تكمن بالفعل في الشعارات المطلبية، لأنها هي معيار الأداء، وهي ما يحرج الأنظمة ويضعها ظهرها إلى الحائط، أمام مساءلة لا يمكن عندها اللف والدوران.

ولو سأل الشعب في سوريا بشار الأسد، على سبيل المثال، عن الكهرباء والمياه والفساد وفرص العمل، لما وجد إجابات يمكنه التهرب بها، مثلما يفعل حين يتم الحديث عن السياسة وشعاراتها النظرية، مثل المطالبة بالحريات والديمقراطية، حينها سيطرح مؤيدوه السؤال ذاته على أنفسهم وعليه، وإن كانوا متورطين في منظومة الفساد التي يحميها الأمن.

لن تكون تحولات الإنسان العراقي، عابرة، فقد تم تجذيرها طويلاً، بالعوامل الإيجابية والسلبية، بعضها يغذي الهوية الأصيلة، وبعضها الآخر يستفز تلك الهوية ويعمل على إهانتها على طول الخط

الذهنية العربية القديمة
قاوم نظام ما بعد احتلال العراق، طويلاً، وهو يعزل المواطنين عن الشأن العام، والمطالب الحياتية الأساسية، بتحويلهم إلى خزّان بشري للتطرف، الشيعي والسني معاً، وكان كلما ضغط أكثر على المناطق الغربية من العراق، حيث العرب السنة، توالدت أجيال من المتطرفين والجهاديين، ليقوم بتفريخ المقابل الموضوعي لهؤلاء في شرق العراق وجنوبه ووسطه، حيث الشيعة العرب، وحيث الدعم الإيراني الكبير، للمشروع الفتنوي التقسيمي الذي يضمن لإيران تحقيق حلمها الإمبراطوري.

وكانت داعش التي أعطى نوري المالكي أوامره لقادة جيشه بالانسحاب من أمامها أثناء تقدم ثلاثمئة مقاتل منها لاحتلال الموصل، هي الحقل الجديد لملء الفراغ الذي بدا يتشكل مع تفتّح وعي الناس، وانتهاء صلاحيات المطالب المذهبية والطائفية، الناتجة عن زوال الحكم الاستبدادي، ليتم الزج بالآلاف فيها، كمحرقة سنية متطرفة، ترادفها المحرقة الشيعية الجديدة التي سمّيت “الحشد الشعبي” المتوّج بفتاوى المرجعيات، والمدعوم عسكرياً وأمنياً من إيران والولايات المتحدة.

لكن من بين احتدام هذا المشهد، بقيت فئة لم تعد تنطلي عليها كل تلك الحيل والأحاجي، فالمطلب الآن ليس القصاص للحسين من يزيد، ولا لإرجاع الخلافة إلى البيت الهاشمي، بل إن المطلب اليوم وبصوت عالٍ هو “الكهرباء والماء والخبز والخدمات” في بلد يعدّ من أغنى بلدان العالم، من حيث الموارد النفطية والمائية والبشرية.

تلك الفئة التي خرجت في المظاهرات، تحمل قوارير الماء الملوث في بلاد الرافدين، دجلة والفرات، “ارحلوا يا سرّاق”، ليخرج المالكي بكل وسيلة تمكّن من حشدها لحماية ذاته من المساءلة، عشرات من مؤيديه لم يكن بين أيديهم سوى شعار “لا لعودة حزب البعث”، وهي اللغة ذاتها التي تنتمي إلى الذهنية العربية القديمة، التي لم تعد تخيف أحداً ولا تطمئن أحداً.

الجامعيون، والطبقة المثقفة التكنوقراطية، من خريجي أبرز المراكز البحثية والعلمية العراقية، وأولئك الذين درسوا خارج العراق، في جامعات العالم، خلال سنوات طويلة مضت، وجدوا أنفسهم على هامش الحياة العامة، ولم يحصدوا ثمار إسقاط نظام صدام حسين بالاحتلال الأميركي المباشر، ولا بالهيمنة الإيرانية، فلم تقنعهم مشاريع الطوائف، ولا ملوك الطوائف، ولم ينخرطوا في الفساد، ولكنهم استيقظوا على عراق صنّف البلد الأول في العالم من حيث الفساد والنهب، ومن أواخر بلدان العالم من حيث توفر الخدمات والحياة الكريمة.

الطبقة الوسطى في العهد القديم
تلك الطبقة التي شغلت الوظائف الحكومية في عهد صدام حسين، من معلمي المدارس إلى المهندسين والمدراء والأطباء والفنيين وموظفي البلديات والشؤون الخدمية، والتي تم “اجتثاثها” باسم “اجتثاث البعث” ولم تكن متورطة في القرارات السياسية بقدر ما كانت خاضعة مثل بقية المجتمع، إلى التنميط السياسي، الذي فرضه النظام الشمولي، كما فعل ويفعل أيّ نظام شمولي آخر في كل مكان، وجدت نفسها خارج المهن والوظائف، وقيل إن الانتقام وصل إلى الجيل الثاني من أبناء موظفي الدولة، الذين أعالوا أسرهم من جهة، ومن جهة أخرى، قاموا بتشغيل ماكينات الدولة، التي لا يمكن أن تعمل بأيدي ثائرين على الحكم فقط، فالثوري، لا يملك خبرات سوى في العمل المعارض أو الميداني المناهض، وليس بالضرورة أن يكون متقناً لمهن شرائح ضرورية في المجتمع.

يضاف إلى هؤلاء شهود المرحلة ممن تغيّر تفكيرهم بفعل معاينة نتائج المرحلة الماضية، التي شابها الطابع الثأري، والمذهبي، والطائفي والرجعي، كما يجب أن يقال، إذ ما هو المشروع الذي حمله المالكي للعراق الجديد، سوى إنتاج دولة دينية جديدة ولو لم تعتمر العمامة؟ وليس أدل على ذلك من كلام المالكي ذاته وهو يصرخ من إيران متهماً المتظاهرين بأنهم “لا دينيون”.

اللبناني، ابن الفكر المترف والمعتق بالخيال، عميق المعارف والخبرات، يجد ذاته أمام حرب طاحنة، أنهكت الإنسان وصرفته إلى البعيد عما كانت تسير إليه بلاده الصغيرة الكبيرة، وأصلها حزب الله في فرضه حربه في سوريا، على اللبنانيين جميعاً، لتشهد البلاد اختناقا وتدهورا في الحريات وبعثا للخوف والرعب في نفوس المواطنين
لن تكون تحولات الإنسان العراقي، عابرة، فقد تم تجذيرها طويلاً، بالعوامل الإيجابية والسلبية، بعضها يغذي الهوية الأصيلة، وبعضها الآخر يستفز تلك الهوية ويعمل على إهانتها على طول الخط، أما الطرف الذي يعاني الصدمة من ذلك، فهو المرجعيات ذاتها، ومن خلفها إيران، وشركاء العملية السياسية التي تقوم على كلمة من المرجعية من هنا، وكلمة أخرى من إيران من هناك، هؤلاء يعيشون ذعرهم من فقدان السيطرة على الجموع البشرية، وعلى الإنسان العراقي العائد.

لبنان ونفايات الماضي
في لبنان، عاش أكثر بلاد المشرق تفتحاً ونماء، وتطوراً ذهنياً، أسوأ مراحل تاريخه انحطاطاً، منذ أن تمّ تخريب “سويسرا الشرق” و”واحة الديمقراطية” بالغزو السوري الذي نفّذه حافظ الأسد وجيشه، بالتنسيق مع الولايات المتحدة وإسرائيل، للتخلص من المقاومة الوطنية اللبنانية والفلسطينية، ولتدمير الازدهار الثقافي والإنساني الذي أخذ لبنان يمضي فيه بلا رجعة، على يد رجالات الفكر والتنوير والسياسة، من كمال جنبلاط إلى جورج حاوي وغسان تويني ومهدي عامل وحسين مروة وغيرهم العشرات والمئات من صناع الفكر الحر المتمدن، الذي كان يشكّل خطراً على مشاريع الهيمنة في الشرق، خاصة بعد زوال وهم الناصرية التي استثمرت في القومية العربية من أجل المزيد من التحكم في الشعوب، وكان مبكراً إدراك اللبنانيين لضرورة خلق مشاريع فكرية جديدة، تقوم على الفكرة العربية ذاتها، ولكنها بالطبع، ستواجه مقاومة عنيفة، من الأنظمة العربية المنتفعة من هذا التراث، والأنظمة المتربصة بالمنطقة مثل نظام الملالي في طهران من جهة وإسرائيل من جهة أخرى.

ووجد اللبناني، ابن الفكر المترف والمعتّق بالخيال، عميق المعارف والخبرات، ذاته أمام حرب طاحنة، أنهكت الإنسان وصرفته إلى البعيد عمّا كانت تسير إليه بلاده الصغيرة الكبيرة، لتظهر أمامه الدولة الأمنية التي عاشت طويلاً في ظل ما سمي بـ”الوصاية السورية” والتي شهدت تدهور الحريات وبعث الخوف والرعب في نفوس اللبنانيين، فلاذوا بالحياة السياحية، والهجرات، أما المثقفون فتحولوا إلى منتجي ثقافة صحفية وكتب، بغض النظر عن تأثيرها ومداها، ليصبح مدى التلقي محصوراً بالدائرة التي ستكتب عن ذلك الكتاب، أو التي ستشاهد ذلك الفيلم، أو تسمع تلك القطعة الموسيقية.

لكن هذا لن يدوم طويلا، فلم تكتف المشاريع التجهيلية بضغط الإنسان إلى حدود قصوى، بل أخذت تستثمر فيه، وتصنّع منه أداتها اللازمة لتنفيذ أجنداتها، ونشأ وتطوّر حزب الله، الذراع الإيرانية في لبنان، وبات، باسم المقاومة التي برّرت وجوده، ومنحته ما سمّيت بالشرعية الثورية، كياناً خارج الدولة، بسلاحه وقراراته الاستراتيجية التي كان أحدثها المشاركة في حرب الأسد ضد الشعب السوري، في خروج عن مذكرة بعبدا التي وقّعها وانقلب عليها، والتي ألزمت الفرقاء اللبنانيين بالحياد تجاه المسألة السورية.

حرب حزب الله في سوريا، والدراما المرافقة لها، وتداعياتها والجنازات التي تخرج يومياً حاملة جثث قتلى الحزب، من المواطنين اللبنانيين، كشفت مشروع حزب الله، مدنياً ومجتمعياً، وصار واضحاً أنه ليس حاضناً ملائماً للإنسان اللبناني، الشيعي على وجه الخصوص، للانخراط فيه، فما هو الأفق الذي سيقدمه حزبٌ ينفّذ التعليمات الإيرانية بغض النظر عن مصالح المجتمع اللبناني؟

تعطيل الحياة السياسية في لبنان، وغياب التوافق على الرئيس، والاختناق الذي وصلت إليه الأمور في ما بين الاتجاهات اللبنانية، والعجز عن اتخاذ أيّ قرار مهما كان صغيراً أو كبيراً، خدمياً أو سياسياً بناء على التفاهم الوطني، دفع الشباب اللبناني إلى الخروج، ليس احتجاجاً على تلال النفايات وحسب، بل على كل النفايات السياسية والفكرية التي بات التخلص منها ضرورة ملحّة.

لم تكتف المشاريع التجهيلية بضغط الإنسان إلى حدود قصوى، بل أخذت تستثمر فيه، وتصنّع منه أداتها اللازمة لتنفيذ أجنداتها

وعي الضرورة
يعود المبدأ القائل بأن “الحرية هي وعي الضرورة” ليظهر من جديد، في سلوك متظاهري بيروت، الذين جاؤوا من مختلف المناطق اللبنانية، للضغط على الحكومة، لمعالجة ملف النفايات، وليس إلى ما هو أبعد، فاللافتات والهتافات التي صدحت بـ”الشعب يريد إسقاط النظام” لم تكن بالضرورة، تعبيراً عن مطالب حملة “طلعت ريحتكم” بقدر ما كان غرضها تنفيذ الخيار المحجوب حتى الآن، والذي عبّر عنه بعض كتاب حزب الله في لبنان، حين طالبوا قبل شهرين فقط، بانقلاب يحسم الأمور، أي بطيّ صفحة اتفاق الطائف، ولن يكون هذا الانقلاب سوى بتوافق ما بين حزب الله بقيادة حسن نصرالله، والتيار الوطني الحر بقيادة الجنرال ميشال عون، اللذين لم يعد اتفاق الطائف ملائماً لهما.

وجاء تحذير الزعيم الماروني سمير جعجع، من إسقاط الحكومة، والذهاب إلى فراغ دستوري، يسقط الدولة، في وقته المناسب، وأخذت تتردد كلماته بين المتحدثين إلى الإعلام من المتظاهرين، ممّن حوّلوا التظاهرات من مطالبة لإزالة النفايات إلى مطالبة لانتخاب رئيس الجمهورية، حينها ستصبح الحكومة مستقيلة آلياً، وستجرى انتخابات نيابية لاحقاً، وهو ما سيلبي المطالب الخدمية التي هي في حقيقتها حلّ للمطالب السياسية.

كان الارتباك الذي عالج به وزير الداخلية المشنوق، محاولات المتظاهرين التقدم إلى سراي الحكومة، ارتباكاً مبرراً في واقع الأمر، لأن السماح باحتلال السراي سيعني سقوط آخر مؤسسة مدنية متماسكة في لبنان (الحكومة) وسيبقى حينها الجيش وحده، من يمثل الشرعية، وهنا سيدخل لبنان في سيناريو مصر، وربما رأى العالم العماد جان قهوجي على الشاشات وهو يقرأ البيان رقم واحد، لكن الثبات أمام تلك الموجة، التي رأى اللبنانيون كيف أن جهات معينة قررت التغلغل فيها، وحرفها عن مسارها، كان أفضل الخيارات.

تلك الأطراف ذاتها، التي قاطعت جلسات الحكومة، والتي تتربص بانحلال الدولة اللبنانية، والتي تريد إرجاع الإنسان اللبناني إلى صورة العائد في تابوت أصفر، وليس من الغريب أن يكون أولئك المتربصون حزب الله ومن والاه.

يختار الإنسان العراقي واللبناني اليوم، العودة إلى التاريخ، ليس صافياً تماماً لكنه يعلن تمرّده على ما لم يجد فيه أفقاً متحضراً يليق به، فالعالم الذي يتحرك نحو مرحلة ما بعد الديمقراطية، ماثل أمام العراقيين واللبنانيين، الذين لن يختاروا بالطبع النكوص إلى دولة الفساد والاستبداد والتخلف ولن تتمكن إيران ووكلاؤها من احتواء هذا التحرك الخدمي، لأنه سيتطوّر عبر مراحل قادمة، بعد أن ذاق المواطنون طعم تحقيق مطالبهم وسيراقبون كيف ستنفذ الحكومات ما ألزمت نفسها به.