المحرر موضوع: دستور وعقول وأقلام  (زيارة 484 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1287
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
دستور وعقول وأقلام
« في: 22:16 06/11/2015 »
دستور وعقول وأقلام
عبد الحسين شعبان
مرّت قبل أيام قليلة الذكرى العاشرة للاستفتاء على الدستور العراقي الدائم (15 أكتوبر/تشرين الأول/2005)، وهو ثاني دستور دائم يحكم البلاد منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وقد أجريت على أساسه ثلاثة انتخابات: الأولى في 15ديسمبر/كانون الأول عام 2005 والثانية في عام 2010 والثالثة في عام 2014.
وكان الدستور الدائم الأول هو الذي سُنّ في عام 1925 بعد أن نُصّب الأمير فيصل الأول، ملكاً على العراق، في مملكة دستورية في 21 أغسطس/آب عام 1921. واستمر دستور عام 1925 حتى ثورة 14 يوليو/تموز عام 1958، أي أن مدة نفاذه امتدّت 33 عاماً، وأجريت عليه ثلاثة تعديلات، في عام 1926 وعام 1943 وعام 1958 (تمهيداً لدخول العراق الاتحاد الهاشمي).
حاولت بريطانيا في بداية الأمر حكم العراق مباشرة بعد أن استكملت احتلاله في مطلع عام 1918، حيث كانت احتلت البصرة في عام 1914، وعندما واجهت ممانعة شديدة من العراقيين قرّرت الحصول على صك لانتدابها على العراق من عصبة الأمم في عام 1920، لكن العراقيين أعلنوا الثورة في 30 يونيو/حزيران عام 1920 والمعروفة باسم «ثورة العشرين»، بعد شهرين من قرار مؤتمر سان ريمو منح صك الانتداب لبريطانيا، فسارعت بريطانيا لاحتواء الموقف بعد قمعها للثورة والتنكيل بقياداتها، حيث توجّت الأمير فيصل الأول ملكاً على العراق، وشكّلت لجنة لوضع دستور للمملكة العراقية، وكانت هذه اللجنة بتكليف من وزارة المستعمرات البريطانية مؤلفة من المستر يونيك والسير بونهام إدوارد (مستشار وزارة العدلية العراقية) والمندوب السامي البريطاني في العراق السير بريس كوكس، وبمشاركة من ناجي السويدي وساسون حسقيل. وبعد ذلك تألفت لجنة برئاسة عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء الذي «انتحر» في عام 1929، وناجي السويدي ورؤوف الجادرجي.
أما الدستور الحالي، فهو الدستور الذي أقرّ باستفتاء شعبي، بعد انتهاء صلاحية قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي أبرم في 8 مارس/آذار 2004. وقانون إدارة الدولة والدستور الدائم وُضِعا في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق، وكان نوح فيلدمان، القانوني الأمريكي المؤيد ل«إسرائيل»، هو الذي كتب المسوّدة الأولى لقانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية، ثم تأسست لجنة عراقية موسّعة لقراءته والاتفاق على نصوصه، وبإقرار من مجلس الحكم الانتقالي، ومصادقة بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 مايو/أيار 2003 - 28 يونيو/حزيران 2004).
إن قانون إدارة الدولة والدستور الدائم، وهما وثيقتان قانونيتان أساسيتان وتسميان حسب الفقه الدستوري «القانون الأساس» الذي هو أبو القوانين وله العلوية على بقية القوانين التي ينبغي أن تصدر بموجبه وبالتوافق معه، نقول إن هاتين الوثيقتين صيغتا في ظل وجود قوات أمريكية في العراق زادت على 150 ألف عسكري، وفي ظرف كانت الدولة العراقية معوّمة وسيادتها مجروحة ومستقبلها مرتهن بيد الاحتلال، وكان الشعب العراقي لا يزال يئن من تأثيرات الحصار والحروب والاستبداد.
وإذا كان نوح فيلدمان وضع المسوّدة الأولى للدستور فإن بيتر غالبرايت الدبلوماسي الأمريكي ساهم في وضع مواد ذات طبيعة إشكالية، وكانت بمثابة ألغام يمكن أن تنفجر في أي لحظة. وقد حمل الدستور تناقضاً واختلافاً وتعارضاً وتشكيكاً، منذ يوم ولادته وحتى الآن من جانب الفرقاء السياسيين، ولا يزال مصدر الإشكالية الأول في العملية السياسية الجارية، خصوصاً تبعاتها الخطرة على صعيد وحدة الدولة العراقية، سواء بنظام المحاصصة الطائفية - الإثنية أو العنف والإرهاب، اللذين ضربا البلاد من أقصاها إلى أقصاها، فضلاً عن الفساد المالي والإداري الذي أصبح مؤسسة قائمة بذاتها، واستفحل لدرجة مريعة حتى غدا مثل غول خطر يهدّد بابتلاع الدولة بعد أن تفكّكت أسس وحدتها الوطنية وفقدت هيبتها.
إن مرور عشر سنوات على الاستفتاء على الدستور مناسبة للتذكير بأن قراراً سياسياً قد اتّخذ لتعديل الدستور عقب الانتخابات الأولى لإرضاء القوى المتحفّظة للمشاركة في الانتخابات، ومن ثم اتّخذ قرار برلماني للغاية نفسها، طبقاً لوعود كانت ما يسمّى القوى السياسية «الشيعية» والقوى الكردية قد قطعتها، لما يسمّى بالقوى السنية بتعديل الدستور بعد الانتخابات، وبكفالة أمريكية حاولت إقناعها، لكي يمرّ الدستور في المحافظات المتحفظة.
وبالفعل تشكّلت لجنة برلمانية لإعداد التعديلات في عام 2006، وكان يُفترض أن تنجز عملها خلال أربعة أشهر حسب المادة 142 من الدستور، ولكن ذلك لم يتحقّق. ومن الجدير بالذكر أن المادة 142، إضافة إلى المادة 126 المختصتان بالتعديل جاءتا ملغمتين حين أعطي حق النقض (الفيتو) لثلاث محافظات برفض أي تعديل، حتى إن وافق البرلمان عليه، بل أكثر من ذلك حتى لو جرى الاستفتاء عليه، ولكن اعتراض ثلاث محافظات عليه سيبطل مفعول ذلك.
ومثل هذا الأمر يجعل من الدستور العراقي من أكثر الدساتير جموداً، وإن مجرد أي حديث عن تعديل لا يرضي طرفاً من الأطراف، سيلتجئ إلى حشد الجهود وشحن الطوائف لمنع إمراره في 3 محافظات، وعندها يمكن أن تتعطّل أي إمكانية للتعديل والتغيير، ويبدو أن واضعي النص، قصدوا ذلك لإبقاء الوضع على ما هو عليه خوفاً من احتمال إجراء تعديلات من شأنها «المساس» بما سمّي بالكيانات التي ورد ذكرها 8 مرّات في الدستور، وضاعت فكرة المواطنة في ثناياها، وأصبح العراق كوحدة سياسية وقانونية موحدة لا ينظر إليه إلا من خلال كيانات كردية وشيعية وسنّية وهكذا.
لتعديل الدساتير ذاكرة أيضاً، فالدستور الأول كما أشرنا عدّل ثلاث مرّات، أما دستور 27 يوليو/تموز عام 1958 الذي صاغه الفقيه الدستوري حسين جميل، فلم يتم تعديله وكذلك دستور ما بعد انقلاب 8 فبراير/شباط 1963 الصادر في 4 إبريل/نيسان 1963 فلم يتم تعديله، وعدّل دستور عام 1964 مرّة واحدة، ولم يعدّل دستور سبتمبر/أيلول عام 1968 الذي ظلّ نافذاً لحين صدور دستور دستور 16 يوليو/تموز عام 1970، وقد تم تعديل هذا الأخير 30 مرّة، وقد استمر نافذاً نحو 33 عاماً، لحين احتلال العراق.
وعند صدور قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية عدّل لمرّة واحدة فقط في عام 2005 بهدف تمديد مدة كتابة الدستور التي وضع جدولتها والعملية السياسية ككل الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وبهذه المتوالية 15 أغسطس/آب (إنجاز كتابة الدستور) و15 أكتوبر/تشرين الأول (الاستفتاء عليه) و15 ديسمبر /كانون الأول 2005 (الانتخابات).
وإذا كانت التعديلات ضرورية أحياناً بحكم ما كان يصلح للأمس فقد لا يصلح لليوم وللغد، الأمر الذي يستوجب تعديله، ليتواءم مع التطورات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الجارية في المجتمع، فإن مثل هذه التعديلات ضرورية في الحالة العراقية، للتخلّص من آثار ما بعد الاحتلال وتبعاته القانونية، وقد أظهرت حركة الاحتجاج المستمرة منذ أسابيع في العراق، الحاجة إلى إرادة سياسية وتوافق سياسي جديد لإعادة هيبة الدولة وترسيخ مرجعيتها التي ينبغي أن تكون فوق جميع المرجعيات، سواء كانت دينية أو طائفية أو إثنية أو عشائرية أو جهوية.
إن العمل على تحسين الخدمات وعلى جناح السرعة، سواء كانت الكهرباء والماء والصحة والتعليم أو غيرها، إضافة إلى محاسبة الفاسدين ووضع حد لظواهر الفساد والعنف والإرهاب مسائل ملحّة وعاجلة، ولكن الأزمة أعمق من ذلك بكثير وهي تتعلق بهندسة العملية السياسية المغلوطة من أساسها والتي قامت على التقاسم الوظيفي الطائفي والإثني ونظام المحاصصة، ومن دون إصلاح دستوري وسياسي جذري لا يمكن الخروج من شرنقة الأزمة التي تزداد اشتداداً.
إن مسار العملية السياسية التي ابتدأت من عام 2003 ولحد الآن وصل إلى طريق مسدود، الأمر الذي يستوجب إعادة نظر في المسار وبالدستور، فعسى أن يكتب الدستور هذه المرّة بأقلام عراقية وعقول عراقية وهي متوفرة ومبدعة، خصوصاً إذا تمكّن المعنيون هذه المرة من تجاوز فترات الاحتلال البغيض، وكذلك فترات الاستبداد الكريه، في مسعى لإعادة الاعتبار للمواطن والمواطنة والمساواة والشراكة الحقيقية العابرة للطوائف والمذهبيات والانتماءات الضيقة، مع مراعاة حقوق جميع الهوّيات الفرعية.