المحرر موضوع: امرأة من بلدتي  (زيارة 1189 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل باسـل شامايا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 619
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
امرأة من بلدتي
« في: 21:29 30/11/2015 »
امرأة من بلدتي



باسل شامايا

 
القوش بلدة موغلة في التأريخ تجثو على سفح جبل أشم تعرضت لشتى الغزوات والاعتداءات والتهديدات بهدف النيل منها وسرقة ممتلكاتها ، و تعمدت معظم السلطات الرجعية المتعاقبة على اهمالها وتهميشها وثنيها عن مواقفها المتميزة لكنّ أبنائها الغيارى وقفوا وقفة رجل واحد للذود عنها ، لذلك تجاوزت كل الصعاب والاهوال وبقت شامخة كالجبل لا تهزها الرياح العاتية .فتحت ابوابها دوما لاستقبال المطاردين والمضطهدين والهاربين من بطش النظام الظالم ..لكنها لم تقبل يوما باعتداء احد ،  لقد حُفر اسمها في ذاكرة الزمن  بوقوفها الدائم الى جانب الحق ومساعدة المظلومين وبما انجبته من العلماء والفنانين والادباء والقادة ورجال الدين ، تغنى بها الشعراء والمغنون وأحبها حد العشق أبنائها وبناتها  الذين أرضعتهم الحب والوفاء والاخلاص ، وترعرع هذا الحب ونمى مع نموهم ليورثه الابناء عن الآباء والأجداد حتى يومنا هذا ، اشتهرت بسوقها الذي كان يغذي كل المناطق المحيطة بها حتى اوائل القرن الماضي ، عُرف شعبها الأبي بمواقفه الشجاعة وتحمله الويلات والنكبات التي توالت عليه على مر السنين ، وزُج خيرة أحبتها في غياهب زنزانات الجناة ناهيك عن نيل الكثير من شموعها ( ذكورا واناثا ) شرف الشهادة وقرابينا على مذبح الحرية والعدالة الاجتماعية ، وقد زخرت هذه البلدة الأبية بنساء مناضلات عرفن بشجاعة متميزة وتحد كبير للحكومات الرجعية العميلة .. واجهن الظروف القاسية والمصاعب الجمة والاستدعاءات المستمرة لمراكز الامن ودوائر المخابرات ، وقد تم توظيف احقر الوسائل من قبل تلك الاجهزة القمعية من اجل تحقيق اهدافهم الدنيئة ،. ومن بين هؤلاء النسوة القروية المكافحة / السيدة الفاضلة شكرية منصور صادق بنيامين هذه المرأة القوية والجريئة التي تعرضت للكثير من المضايقات والاستفزازات والحرب النفسية لكسر شوكتها وثنيها عن مواصلة دعمها ووفائها ووقوفها الدائم الى جانب شريك حياتها الذي عاش سنين طويلة مطاردا من قبل ازلام الحكومات العميلة وخصوصا السلطة الدكتاتورية التي جثمت على صدر العراق اكثر من ثلاثة عقود من الزمن .                           سطعت شمس ميلادها في بلدة القوش عام 1939 ، نشأت وسط عائلة فلاحية معروفة ،  ابويها منصور ومنّة وهي بِكرُ اخوتها واخواتها البالغ عددهم ستة بنين واربع بنات ، ترعرعت بين احضان هذه العائلة ، امتازت منذ صغرها بالغيرة الألقوشية ، كانت تقف الى جانب أبيها في زراعة الارض وفلاحتها وجمع غلتــــها اضافة الى مساعدة امها فـــــي اشغال
البيت ، كانت تمتاز بجمال قروي فريد وقبل اتمامها ربيعها الخامس عشر تقدمت عمتها                ( نني ) لخطبتها لأبنها المعلم والكاتب والاديب والسياسي سعيد ياقو شامايا المعروف بعلاقاته الطيبة مع اهالي المنطقة خصوصا مع النخبة المثقفة ، وفي عام 1954 احتفل اهاليهما بزفافهما المبارك فعمت الفرحة وغمرت العائلتين والاقرباء والاصدقاء وكانت ثمرة هذا الزواج أنهما رُزقا باربعة بنين وابنة واحدة ، الكبيرين ولدا في القوش والبقية في بغداد .. عاشت هذه الزوجة المتواضعة مسرورة وسعيدة مع اهل زوجها تربطها بالجميع علاقات حميمة مبنية على المحبة والتعاون والانسجام . غادرت القوش مع زوجها الى قرية سناط التابعة اداريا الى قضاء زاخو وذلك بعد صدور امر نقله مديرا للمدرسة هناك وفي عام 1961 انتقل الى  احدى مدارس بغداد فتألمت كثيرا على مغادرة  بلدتها وفراق اهلها ، تأقلمت هذه المرأة القروية المشبعة بمزايا الفلاحين وصفاتهم مع بيئتها الجديدة حتى تعودت على حياة المدينة وخلال فترة قصيرة تحولت الى زوجة ملتزمة ومنسجمة مع ما يعمله زوجها في المجالات الثقافية والسياسية التي كانت حينذاك تُشغل الشباب ، ودون ان يكون لها رصيدا ثقافيا وانما ايمانا منها وثقتها  بشريك حياتها، فكانت تساعده في صيانة مدوناته ورسائله الحزبية السرية دون ان تتذمر خصوصا بعد تعرضه الى عدة هزات سياسية شكلت خطرا على حياته بل كانت تعزز ثقته بموقفها عندما كانت تقول له : لا عليك يا سعيد فالامور اكيد ستنجلي قريبا .. اضافة الى وقوفها الى جانب زوجها في مد يد العون له في اموره الخاصة ، كانت تقوم بتربية الاطفال والاعتناء بحماتها وحماها اللذين انتقلا مع العائلة الى بغداد ، كما وتقوم بخدمة المجتمعين من رفاق زوجها الذين كانوا يعقدون اجتماعاتهم في الدار اضافة الى باقي افراد العائلة وبالضيوف
الذين كانوا يتهافتون الى الدار يوميا والاقرباء القادمين من القوش .. ولم تمض
الا سنة واحدة وربما اقل حتى فوجع الوطن والشعب بانقلاب شباط الاسود 1963 و كان لألقوش حصة الاسد في اعتقال شبابها وحتى كبار السن ومنهم  شريك حياتها الذي اعتقل ضمن السياسيين الذين القي القبض عليهم من قبل ازلام الحرس القومي الذين ارتكبوا ابشع الجرائم بحق الوطنيين والتقدميين الاحرار ، لقد أدمى خبر اعتقاله جراحها فسكبت دموعها التي كانت وسيلة لأطفاء لوعتها ، وبغيابه تحملت الويلات والمصاعب وواجهت هموم البيت والاطفال لوحدها وتدهور وضع العائلة الاقتصادي مما اضطرها لشراء ماكنة خياطة لتنجز طلبات بعض النساء في الخياطة داخل المنزل وبذلك تكون قريبة من اطفالها الصغار ويساعد عملها في اعالة العائلة وانتزاع لقمة العيش الحلال .. وجابهت بقوة وصلابة كل المعاناة والمعضلات التي مرت بعائلتها .. قاست من شظف العيش ما ضيق عليها الخناق ووقفت شامخة موصدة باب اليأس لتمنع عن بيتها رياح الرضوخ فحافظت على كرامة عيشها طوال الفترة التي كان زوجها داخل زنزانات الجناة . بعد اعتقال زوجها راحت تبحث عنه وهي تحمل بين احضانها طفلها الرضيع ( نائل ) الذي لم يكمل السنة ، وكان يرافقها في البحث والد زوجها المرحوم ( ياقو شامايا ) الذي كان قد تجاوز السبعين سنة من عمره ،  متحملان مضايقات وتعامل رجال الامن اللانساني ، كل ذلك من اجل معرفة مكانه والأطمئنان عليه .                    علمت بعد اعتقاله انهم أودعوه سجن ابو غريب فتوجهت برفقة حماها الى هناك على امل لقائه ، وعلى الرغم من تحملها عناء الطريق لم يسمحوا لها بالدخول لا بل  حتى بالسؤال عنه فاقفلت الى بيتها يغمرها الحزن والاسى على زوجها الذي لم تعلم اي شيء عنه . راحت تتنقل من سجن الى آخر وفي كل مرة تحمل معها شوقها الممزوج  بالأمل للقائه  لكن امنيتها لم تتحقق فتعود خائبة الى منزلها ، وهكذا تحملت اهانات وشتائم رجال الامن والشرطة اكثر من ثمانية اشهر دون ان تعرف له مكان ، حتى حالفها الحظ في ذات يوم حينما علمت انه نُقل الى سجن المركز العام الذي يقع بقرب وزارة الدفاع / الاعظمية ، فتجشمت عناء الطريق الى هناك  لكنّ الشرطة والحرس  لم يسمحوا لها ، ونتيجة محاولاتها وتوسلاتها واصرارها سمحوا لأبنها الأكبرغسان الذي كان يبلغ من العمر ست سنوات بالدخول لزيارة ابيه ، حينها فقط أطمأنت على سلامة زوجها  ، لكنه لم يهدا لها بال الا بعد ان  تلتقي به ، وفعلا تم ذلك في نهاية شهر ايلول حينما نُقل الى سجن الحلة . ومن المواقف الشجاعة التي باتت حديث رفاق زوجها الذين كانوا معه في السجن انها كانت بين فترة واخرى تقوم بزيارة زوجها وتأخذ معها بيانات وبعض الرسائل الحزبية وجريدة الحزب التي كان يستفاد منها داخل السجن فتخبؤها في حضينة طفلها الصغير وهكذا  تصل الى متناول ايادي زوجها ورفاقه .. وكذلك كلفت في ذات يوم بايصال عريضة الى الحاكم العسكري ، كان قد كتبها مجموعة من الشباب الشيوعيين وبالتنسيق مع بعض الوطنيين والتقدميين وحينما طُلب منها ذلك لم تمانع وبالفعل توجهت الى حيث مكتب الحاكم العسكري فردها رجال الامن بعنف لكنها عادت لتحاول ثانية وثالثة حتى تمكنت من لقائه وتسليم العريضة له . اكثر من عام حُرمت هذه العائلة من معيلها الوحيد  فعانت خلال فترة اعتقاله من الحرمان والفاقة حتى اشرقت شمس الفرح وابتسم لها القدر حينما اطلق سراحه بعد انقشاع غمامة الحرس القومي عن سماء الوطن ولكن كان قد صُدر قرار فصله من وظيفته من قبل السلطة الجائرة ، مع ذلك لمّت الأيام شمل العائلة وعادت البسمة الى شفاه الزوجة التي تحملت عبئها اكثر من سنة . بقي رب العائلة مفصولا عن وظيفته اكثر من سنة فعكس ذلك سلبا على وضع العائلة المعيشي لكنّ الوضع لم يدم طويلا لانه  ومن خلال معارفه وزملاءه راح يلقي محاضرات ودروس خصوصية لبعض الطلبة والطالبات لقاء اجور بسيطة تمكن من خلالها تمشية الوضع المعيشي حتى اكتملت الفرحة حينما عاد الى وظيفته بعد صدور قرار جمهوري باعادة المفصولين السياسيين الى وظائفهم . وجاءت فترة السبعينيات التي كانت مصدر فرح وخير للشعب العراقي عموما ، فابتسمت الايام لهذه العائلة خصوصا بعد انتقالهم الى البيت الجديد الذي شيدوه  بعرق الجبين في منطقة حي المعلمين / بغداد الجديدة . كانت شكرية تقوم فرحة بخدمة 15 فردا يعيشون في بيتهادون ان تتذمر او تشكو من تعب أو ارهاق ، تحافظ بالدرجة الاولى على اولادها كحفاظها على حدقات عيونها كي لا يكسو غبار الذل وجوههم .. اضافة الى انشغالها في امور البيت وتربية الاطفال ، كانت تُعقد في نفس الدار اجتماعات حزبية لزوجها وعلى مستوى قيادي واجتماعات لتنظيمات مهنية كاتحاد الشبيبة واتحاد الطلبة العام وبكل سرور ونكران الذات تقوم بتلبية احتياجتهم وكانت الابتسامة لا تفارق وجهها  . أنشغل عنها زوجها خلال هذا العقد من السنين منها في التدريس الخصوصي واخرى في التزاماته السياسية والتنظيمية  وقد اخذ  تاسيس نادي بابل الكلداني ذلك الصرح الاجتماعي والثقافي الكثير من وقته بحيث كان لا يعود الى البيت الا بعد الساعة العاشرة ليلا ،  فكانت تلك الالتزامات تؤثر نوعا ما سلبا على نفسيتها ومع ذلك كانت لا تشكو من اي شيء . لم يستمر الوضع على منواله في ظل الحكم الدكتاتوري بل شن النظام في  نهاية السبعينيات حملة شعواء على القوى الوطنية والديمقراطية وفي مقدمتهم قيادة وقواعد الحزب الشيوعي العراقي مما اضطر رب العائلة
على الاختفاء والابتعاد عن انظار السلطة الحاكمة ، فأخذ يتنقل من بيت الى آخر واحيانا يزور عائلته سرا وبعد ان تيقن ازلام النظام من خلال بحثهم ومتابعات مبلغيهم  ان سعيد لم يعد في بغداد عاد الى بيته سرا ودون علم حتى الاقرباء والاصدقاء ، مع ان تلك الخطوة كانت مجازفة بحياته لكنه كان متأكدا ان السلطة لا يخطر على بالها انه سيختبىء  في بيته ولمدة عشر سنوات . وأشتعل فتيل الحرب العراقية الايرانية في بداية الثمانينيات وزُج ثلاثة من ابنائها في تلك الحرب حيث كان رجال الامن يقومون في كل ثلاثاء بزيارة العائلة لاجراء تحقيقا مع الام ، يعرضون عليها خلال التحقيق بعض الاغراءات بغية اقناعها لزوجها كي يسلّم نفسه الى السلطة ، وقد تعددت اغراءاتهم واساليبهم القذرة التي اعتادوا عليها من اجل الوصول الى مآربهم ، ففي ذات يوم ومن خلال لقائها راح أحد الضباط الكبار وحوله اعوانه يهددها قائلا : ان زوجك مجرم خطير وعليك ان تطلبي طلاقه في الجريدة الرسمية وبذلك ستستفادين من الدولة باعانة قدرها ( 10000 دينار ) وفي حالة زواجك من رجل آخر ستُمنحين ( 5000 دينار ) أخرى ، فأجابتهم بهدوئها : يا ليتكم تعلموني عن احدى جرائمه التي ارتكبها ، هل قتل ام سرق ام ارتكب الفحشاء ام فعل شيء يستوجب عليّ طلب الطلاق .. فتعصب الضابط وقال بلهجته التهديدية : احذرك ايتها المرأة ان لم تبلغينا عن تحركات زوجك ومكانه سنلقي القبض عليك ، فقالت ببساطتها : ان كانت الحكومة بجيشها وشرطتها لا تعرف له مكان فكيف لي ان اعرف ، لقد غادرنا قبل سنين ولا نعرف عنه اي شيء ، فقال احد الضباط : خلي تولّي سيدي ماكو فايدة منها هاي هم شيوعية مثل زوجها ، واضاف الضابط (آني حذرتج وانت بكيفج ). ومن المواقف الصعبة التي حدثت خلال احدى زياراتهم للعائلة انه في ذات يوم رن جرس الدار وكان الوالد في الطابق الثاني من الدار فسأل ولده ثائر : من الطارق يا ولدي .؟ اجابه بامتعاظ : انهم هم كالعادة ( يقصد رجال الامن ) .. تصور الاب انهم لم يدخلوا فنزل من غرفته لقضاء حاجته ليتفاجأ بضابط الامن وجها لوجه فتجمد الدم في عروق الزوجة فتسمرت في مكانها ، اما ابنها ثائر فانه ارتعب من ذلك الموقف ، لكنّ لحية الاب وبياضها خدعت ذلك الضابط الغبي فحياه الضابط قائلا : شلونك حجي ..؟ اجابه سعيد دون ارتباك : اهلا وليدي تفضل جوّا ..! ودخل الضابط الى غرفة الاستقبال ، حينها جاء ثائر من المطبخ وبيده سكين فقال له والده : اياك يا بني ان تتهور ..؟ اجابه : يجب ان اتخلص منه لانه سيفضح امرك ويعتقلك .. ! هدّأ الوالد من روعه وقال : أعد السكين الى مكانه ولا
فالضابط لم يكشف أمري بل تصورني المرحوم أبي بسبب بياض شعري ولحيتي . هكذا امتص ذلك الكلام نقمة ثائر فعاد ادراجه الى المطبخ . راح الضابط يستجوب السيدة شكرية وهي في حالة ارتباك وقلق لكنها عادت الى هدوئها وثقتها بنفسها بعد ان كان الضابط يدلي بمواعظه ونصائحه لاقناعها بالعدول عن موقفها تجاه زوجها وكأن شيء لم يحدث ، فتنفست الصعداء لانها تيقنت بانّ الذي شاهده امامه ليس الا والده او شقيقه الاكبر ، وهناك المزيد من المواقف التي مرت بهذه الانسانة وتجاوزتها بالصبر وقوة التحمل لا استطيع التطرق اليها لانها لا تسع المساحة التي خصصتها لمقالتي فاترك ذلك للايام القادمة مسهبا بالتفاصيل .  وفي الاخير اقول السلام عليك ايتها الام الباسلة المضحية التي واجهت ضغوط الدكتاتورية بكل ثقة بالنفس ؟، سلام لك يا مصدر العفة والطهر والأباء ، لك مني كل المحبة والاحترام يا نبع حب وحنان لا ينقطعان .. طوبى لك سيدتي ولكل ام غرست في حنايا ثمارها حب الخير والطيبة والانتماء الوجداني الى الوطن .