المحرر موضوع: إدّعاء تركيا بكونها دولة أوربيّة  (زيارة 1152 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل يعقوب أفرام منصور

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 91
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
إدّعاء تركيا بكونها دولة أوربيّة

يعقوب أفرام منصور
أربيل
     في الثامن والعشرين من تشرين الثاني 2015 ، وغِبّ أيام قليلة من إسقاط الطائرة الحربية الروسية من  قِبل تركيا ضمن حدود  سوريا الجغرافية، أذاعت القنوات الفضائية الإعلامية إدّعاء الرئيس التركي أردوغان بكون تركيا دولة أوربية. هذا الإدّعاء قديم، إذ يعود صدوره إلى عقدين سابقين، وهو ذو علاقة برغبة شديدة من تركيا في الإنتماء ألى "الإتحاد الأوربي"، لكن آراء دول الإتحاد المذكور مُجمِعة على عدم تلبية رغبة تركيا لأسباب عديدة، أهمها تفاصيل ماضي تاريخ تركيا إبان القرنين 18 و19 والعقدين الأولين من القرن العشرين من عهد الإمبراطورية العثمانية، وليس هنا موضع إيرادها بشكلٍ وافٍ لإرتباطها ب "المسألة الشرقية" (أنظر  هذه المسألة في الموسوعة الميسّرة ص 1693 ). إذ المهم هنا هو دحض إدّعاء تركيا بلسان رئيسها أردوغان بكونها دولة أوربية.
    من المعلوم أن شبه  جزيرة الأناضول هي موطن الأتراك منذ البدء المستَهَل بسلطانها الأول  مع عشيرته التي منبتها (تركستان في أسيا)، وسلطانها الفاتح هذا هو عثمان ( 1281 ـ 1324)، وأن الأناضول كانت وما برحت معروفة تاريخيًا وجغرافيًا بإسم ( آسيا الصغرى)، وهذه التسمية وحدها تكفي لدحض الإدّعاء بكونها دولة أوربية.  والمعلوم أن السلاجقة في الأناضول، بعد انزياح السيادة البيزنطية عليها، أقطعوا أراضيَ في آسيا الصغرى ـ الأناضول لعثمان وعشيرته بفضل مساعدتهم للسلجوقيين في دحر البيزنطيين في موقعة فاصلة. لكن الإمبراطورية السلجوقية سرعان ما انهارت، فأعلن عثمان أستقلاله، وخلفه نجله (أورخان)، وتلاه سلاطين أل عثمان حتى العقدين الأولين من القرن العشرين.
      المهم في هذا الموضوع هو أن آسيا الصغرى ـ قبل أن يكون البيزنطيون والسلاجقة فيها ـ كانت مسكونة بأقوام متحضّرة؛ ففي أواخر القرن الخامس ق.م.  وأوائل القرن الرابع  ق.م. ذكر المؤرّخ الإغريقي (زينفون) في كتابه (الحملة الفارسيةـ أو ألأناباسس = الصعود) أن آسيا الصغرى ـ وقد اجتازها في أوائل القرن الرابع ق.م.ـ  كانت خلال القرنين المذكورين آنفًا وربما قبلهما بقرون أيضًا، مسكونة بأقوام عديدة متحضّرة، منها البيزيديون، الميسيّون، الإغريق، الفريجيون، اللاكونِيّون، الكبدوكِيّون، وهؤلاء أقوام آسيويةـ غير أوربية، ثم أستوطن أصقاعَها الجنوبية الأرمن وبقايا الآشوريين والكلدانيين والسريان والعرب قبل الفتح العربي ـ الإسلامي وبعده في عهود السيادات العربية ـ الإسلامية المتعاقبة، وحصل امتزاج بين العنصر التركي الأسيوي وعناصر تلك الأقوام ألآسيوية. وهؤلاء جميعًا أصحاب حضارات وثقافات ولغات خاصة متنوعة، ولما أستوطن الأتراك تلك البقاع وجاوروا أقوامها وتعايشوا وتمازجوا، إنتقلت إليهم سمات  وميزات وخصائص تلك الحضارات والثقافات والألسن، ولذا من المعروف والمقول أيضًا أن الأتراك لم يتركوا خلفهم "حضارة تركيّة" لأن حضارتهم كانت مستقاة من حضارات عديدة متباينة تحمل سماتها وخصائصها وهي ليست أوربية ولا غربية، ، وشأنهم في هذا المجال يماثل شأن الشعب العبراني اليهودي السامي الذي  حين توطّن  فلسطين ( جزءًا من أرض كنعان) كانت قبلهم أقوام عديدة متحضّرة من المؤابيين والكنعانيين والعمّونيين والآراميين والقبرصيين، ولهذا لا يعرف التاريخ حضارة عِبريّة أوعِبرانية، لآنهم في مجال التحضّر كانوا عالة على حضارات غيرهم المجاورين لهم ومخالطيهم، وكما لا يعرف التاريخ حضارة تركية الطابع والسمة أيضًا.
     وإذا كان الغازي مصطفى كمال باشا، مؤسّس تركيا الحديثة الجمهورية بعد أعوام من نهاية الحرب العالمية الأولى  (وهو من يهود دونمة سيلانيك اليونانية) قد أوعز ونفّذ نبذ الأبجدية العربية ليتبنّى الأبجدية اللاتينية، ونبذ (الفيس ـ الطربوش ) الشرقي ليتبنّى القبّعة الإفرنجية الأوربية، ونبذ الحجاب ليتبنّى السفور، ونبذ الخلافة ليتبنّى العَلمنة، فهذه البدائل لا تغيّر شيئًا من أصل وأرومة وخصائص الأتراك في هويتهم الشخصية ودمائهم وعقائدهم ( منذ أن كانوا في موطنهم الأصلي : تركستان الآسيوية) كما لا تُغيّر تسمية موضعهم الجغرافي الأخير والحالي ـ أسيا الصغرى ـ ومن العيب أن ينكر الإنسان أصل جنسية دولته الجغرافية القارّية ليدّعي انتماء دولته إلى كيان دولي مفرد أو مركّب، ومغاير جغرافيًا وعرقيًا ولسانيًا وعقيديًا وتاريخيًا وحضاريًا.
    عندما نشبت حرب القرم (1853 ـ 1856) كانت تركيا (الأمبراطورية العثمانية) تُنعت ب       "دولة الرجل المريض"، وقد أطلق هذا الوصف عليها قيصر روسيا (الأسكندر الثاني) ـ 1818 ـ1881، ولبثت هذه التسمية ملازمة كيان دولة الإمبراطورية العثمانية، وعاملاً من عوامل  "المسألة الشرقيّة"  حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ودوّنتها صفحات التاريخ المعاصر، فكيف يسوّغ الرئيس أردوغان لنفسه أن يدّعي بكون دولته " دولة أوربية"، كي يُجمّل كيان دولته في أعين الأوربيين وكي ينتمي إلى (الإتحاد الأوربي) الراهن؟! هل يستطيع الشعب التركي أن ينسلخ من كل عناصر مكوناته الجغرافية والتراثية والتاريخية واللسانية والأثنية في سبيل الإنتماء إلى المكوّن الغربي الأوربي المركّب "ألإتحاد الأوربي" ؟ وماذا مكسبه ومغنمه من هذا الإنتماء او الإنضواء الذي يرومه؟ وهل سيحظى مرامُه بالقبول، والغرب الأوربي يعرف ماضي تركيا الإمبراطورية العثمانية وحاضرها المتطّلع إلى سلطنة ثانية على الشرق الأوسط بعد تقسيمه المخطط له ليشتمل على ثمانين كيانًا هزيلاً( لصالح الصهيونية العالمية) ـ كما أمّله الغربيون ـ منذ عقدين ـ فجعل من دولته جسرًا عريضًا لتعبر عليه عصائب الإرهابيين نحو الأقطار العربية؟!