ما رأيته بعيني في العراق هو دليلي الى جزء من الحقيقه
شوكت توساكــــل عام وأنتــم بخيـــرقــد يساور القارئ الكريم شعورا يُختزل فيه مقصد المقال بطمع كاتبه بنوط المغامر في زيارة العراق , إلا اني شخصيا لا اجد أية غرابه حين اكون واحدا من مئات لابل الاف زوار العراق اليوميين , فقد مرّ عاما (2014 و 2015 ) دون ان تسمح لي الظروف بالسفر الى العراق كما اعتدت في سابق الأعوام , الى ان وجدت نفسي قادرا على حزم حقيبتي في يوم 26 تشرين الثاني 2015 غيرمباليا لما تبثه وسائل الاعلام المضطرب حول تحذيرات الطيران ومفاجئات ايقاف الرحلات الجويه بسبب العمليات العسكريه الروسيه .
في سابق سفراتي ,تعودت الدخول الى زاخو بالسيارة قادما إما من مطار مدينة ماردين أو من ديار بكر , لكني في هذه المره إخترت الطيران مباشرة من اسطنبول الى عينكاوه ضمانا لسرعة وسلامة الوصول , وقد تم لي ما أردته و انقضت اسابيع سفرتي لأعود الى بيتي وأحكي المفيد مما سمعته و شاهدته دون مجاملة او مواربه .
في بلدة عينكاوه المكتظة إبتدأت رحلتي , وقد سبق و زرتها قبل عامين , كان الأمل يحذوني ان أحظى بما حققته صيحات حناجرالمتظاهرين ويافطاتهم من تغيير في واقع حال البلده التي عرفتهامنذ ستينات القرن المنصرم بهيجة بلحمة أهلها وبطلائع نخبها النضاليه المشهودة , يوم اكتسبت من البهاء والكرم ما كان يكفيها لترتيب علاقاتها الاجتماعيه وجمالية بناء بيوتها وشوارعها واجواء حياتها اليوميه الهادئه, بات يعم ّ اروقتها اليوم ما يحزن الغريب قبل المحب والقريب , حيث ينتاب زائرها (احكي عن نفسي) خليط منفعل من مشاعر وتساؤلات لا تلقى من المسؤول سوى الحيره والخيبه مقارنة بعفوية حكايات عامة الناس وصراحتها الغير المسيسه , فلو شئنا التحدث عن المبهج الجذاب في شوارعها وبناياتها فحقيقته هي التبهرج ليس الا حين يتعلق الشأن بالتوسع العمراني والتجاري (الفوضوي) الحاصل فيها, أما الكلام عن مشاكل البلدة الاساسيه فهي اكثر وأعمق من ان تـُختزل بظاهرة آلاف النازحين ومآسيهم, حيث قصدوها هاربين من بلداتهم ( قرقوش, برطله, كرمليش) بعد تسليمها للدواعش, نعم تسليمها بشهادة شهود عيان بينهم اصدقاء قدماء التقيتهم و الدمعة محتقنة في مآقيهم جراء مرارة ما حصل لهم وما تروجه وسائل الاعلام الموجهه ,الكل يقولها وبألم كما سبق وقلناها : لقد تم تسليم قرانا للدواعش ضمن صفقات أبرمت في ليلة أنقريــّه داعشيه , دون أن تثار طلقه عدا اطلاقات صديقه ارعبت الناس وحثتهم على ترك مساكنهم وحلالهم الى حيث المجهول , والاكثر إيلاما هو ان الحدث الداعشي الاجرامي كان متوقعا ..... .
بلدة شقلاوه التي عشتُ فيها خمس سنوات من عقد سبعينات القرن الماضي , تعيش اليوم وضعا مغايرا لأيامئذ السعيده ,يوم كانت عامره هانئه بأهلها , زرتها الآن بصحبة أحد ابنائها الاصلاء (الصديق بطرس شير) ,واذا بحي المسيحيين موشك ان يفرغ من اهله التاريخيين ,وإسم شقلاوه قد اصبح (شقلوجه) على ألسن البعض من باب التندر والفكاهه , حيث في البلدة قرابة الستة الاف عائله فلوجيه نازحه, اي بما يفوق تعداد سكانها الاصليين علاوة على مئات اخرى من العوائل القره قوشية والبرطليه والكرمليسيه النازحه , واقع شائك و مرير يتحدث دون رتوش عن مآسي شعب باتت سلواه محصورة بين سرد قصة صيرورته التاريخيه وبين غداته ألعوبة سهله وضحيه وديعه بأيادي الساسه الكبار وأجنداتهم اللاوطنيه.
أما بلدتي العزيزه ألقوش وأهلها الصامدين الصابرين , فحكايتها تبدأ عند سيطرة مدخلها لترى ملامح الثقل النفسي مجسدة بالألوان على يمينها ,وحين تلج داخل البلده ستقرأ في جباه الناس أسطرا غليظه وغامقه من صبر أيوب وعيونهم تناجي محدقة صوب نصب ابنها البار توما توماس , لو كان في هذه القلعة ما يميزها عن بقية أماكن تواجد ابناء شعبنا وعن شقيقاتها الخاليه من ساكنيها , فان شغل الباقين في القوش الشاغل هو الصمود ورغبة الحفاظ على هويتها وهيبتها أزاء عدم توقف ظاهرة الهجره التي باتت تبدو وكأنها قدرا حيكت خيوطه و أقرّته مخططات اخطبوطيه اتفقت على قلع هذا الشعب من جذوره,ألقوش هي الأخرى تحتضن بكل محبه وشهامه قرابة الــ 600 عائله من اهالينا النازحين التللسقفيين والباقوفيين والبطناويين ,جميعهم ملوّا الحديث عن السياسة و شعاراتها ويئسوا من كل شيئ الا من السعي الحثيث لتجاوز الأزمه وتسهيل الامور في ظرف تشتد فيه المحنه ويضيق فيه الخناق حيث لابد للأشداء ان يتصرفوا برويه وانسانيه.
في غرب القوش وهكذا في شرقها, شاهدت ُ شروقا ًعساه يشكل مبعث أمل في النفوس, أو هكذا أتمناه , صورتان مجسدتان على الأرض لصرحين يشدان الانتباه ويحتــّمان التوقف عندهما للتأمل عميقا في معانيهما وأبعادهما في وقت يعصف المنطقة برمتها ظرف قاهر قلما مرت به مدى قرن من الزمان. صرحان يرسمان لحاضر ومستقبل القوش سِفرا من دلالات التحدي المعهود في حب الحياة التي طالما حاول ويحاول البعض جاهدا ارباكها بقصد تعطيلها ودفنها .
الصرح الشرقي , متمثلا بتشييد بناية خاصه لجمعية القوش الثقافيه بسواعد وامكانيات ابناء شعبنا دون دعم حكومي يذكر ,زرت موقع البناء لوحدي فرأيت جدرانه قد تسلقت وتماسكت بسقوف كونكريتيه لتشكل هيبة اجتماعيه متينه وصفحة ثقافيه منيره تنتظر الدعم بقدر ما تمثله من رمزية المواظبه والعناد من اجل البقاء في قلعة الآباء والأجداد , ولو كان للتاريخ كلمته ,فهو بلا شك سيسجل في صفحاته تحديا ً ناصعا ًمثل هذا قل نظيره .
أما الصرح الغربي المفترشه مساحته بين القوش وبندوايا والمتمثل بمعسكرلتدريب ابناء شعبنا, فقد بوشر بإنشائه مؤخرا لتهيئة شباب متدربين قادرين على حماية قرانا وللمشاركه في استتباب وضعها بعد طرد جرذان الدواعش, الفكره باختصار وكما فهمتها من القائمين عليها, هي ليست غاية او هدف بل وسيله دفاعيه فرضتها تجارب شعبنا الماساويه المتكرره في بلد تحكمه ارادات متناقضه , اي انها بمثابة لازمه إضطراريه تحتاجها الشعوب المهدده بالانقراض,قد تبدو المباشره بانشائه متأخره , انما العائق المالي هو الاشد تأثيرا في تاخير انجازه. مع ذلك العمل مستمر فيه ( كما صرح العميد بهنام عبوش) كي يستوعب بعد اكتماله ما لايقل عن 1500 مقاتل يتلقون التدريبات اللازمه على ايدي اختصاصيين من ابناء شعبنا بموافقات رسميه وبتنسيق مع الجهات الاداريه والسياسيه المعنيه .
شخصيا اتذكر بأن شيئا من قبيل هذه الفكره كان قد طرح قبل أعوام امام المسؤولين في بغداد واربيل , لكن الصراعات المذهبيه والقوميه الكتلويه الكبيره منعت رجالاتها من قبول الفكره ظنا منهم بان دفاع الناس الآمنه عن انفسها سيعيق اجندات فرض الوصايات وتوسيع الكيانات , ذلك بالضبط ما جرى في المناطق المسماة بالمتنازع عليها سواء في قرقوش وبرطله وكرمليس أو في مناطق تلكيف والقوش وبقية البلدات .
الآن عسى ان يكون ( أولياء الأمر واصحاب القرار ) قد إهتدوا لقبول الفكره , أو قبلوها على مضض بعد معايشة حالة فشلهم ومشاهدة الكوارث التي خلفتها سياسات التهميش وتقصدّها في حرمان شعبنا من حقه في دعم السلطات له وضرورة تسليحه بما يؤهله للدفاع عن نفسه وعن قراه .
من الطبيعي ان تكون امكانات انشاء المعسكر محدوده ومتواضعه كونها محرومه من اي دعم رسمي من حكومة بغداد او اربيل ,الا ان جوهر الفكره فيه من الحيطه وتحمل المسؤوليه بما يجعل اقامته ضروره تتطلب دعمها ماديا ومعنويا كي لا تتكرر اكتواءات ابناء شعبنا بقدحات من كنا نحسبهم اصدقاء ,لكننا كنا مخطئين حين لم نعط السياسة بعدها الميكيافيللي ,والا هل يعقل أن نـُلدغ من عين الجحر اكثر من مرتين؟ أم ان الوقت قد حان لإعادة حساباتنا ومراجعة طرائق تفكيرنا طبقا لما هو موجود على الارض وتحقيقا لمصداقية المفاهيم التي يـُعمل عليها سياسيا .
إذن المراد من فكرة إنشاء هذا المعسكر التدريبي ليس اكثر من تهيئة الممكن من وسائل الدفاع عن النفس بجهود وخبرات ابناء شعبنا وباشراف ومتابعه من قبل الحركه الديمقراطيه الاشوريه وبمساهمات ودعم مؤازريها دون دعم حكومي بغدادي او اربيلي يذكر عدا استحصال موافقاتهم الرسميه ,اما المتطوعين, فهم خليط شبابي غيور من مختلف بلداتنا بغض النظر عن المسميات , ليس المهم ان يكون المتطوع منتميا الى زوعا, فغالبية المتطوعين مستقلين ,انما المهم ان يساهم المتطوع في فرض استتباب امن واستقراراهالينا في قراهم تفاديا لتكرار وقوع الكوارث .
أما العاصمه المنكوبة بغداد , فقد قضيت فيها خمسة ايام اعطتني فكره مختلفه عن تلك التي كانت معتمره في ذهني , قصدتها ليلا من مطار عينكاوه بصحبة ابن خالي مازن رزوقي عضو مجلس محافظة بغداد , وقد صادف ان كان في نفس طائرتنا الاستاذ يونادم كنه سكرتير الحركه الديمقراطيه الاشوريه , كان الاتفاق بحسب طلبي ان يصطحبني الاخ مازن الى مقر الحركه(زوعا) في بغداد كي امكث فيه طيلة فترة بقائي, الا ان مصادفة الاستاذ يونادم إقتضت وبحسب طلبه ان نقضي سويعات الليل المتبقيه بعد وصولنا في بيت السيد يونادم الكائن في المنطقة الخضراء ,لذا بعد نزولنا في مطار بغداد , أنطلقنا انا والاخ مازن بسيارته الشخصيه نقتفي مسار سيارة السيد يونادم ,بصراحه (ومع احترامي للاستاذ يونادم كنه) لم احس كما يجب بلذة وجودي في بغداد وأنا أدشن زيارتي بالذهاب الى المنطقه الخضراء التي كرهت إسمها اشد الكره مذ سمعت بقصورها المسـّوره بالقوالب الكونكريتيه والمطوقه بالحمايات خصيصة لسكن طواقم الحكومه والبرلمان في مكان معزول , بينما الناس تبحث عن مسكن ومأكل هنا او هناك, لكن رغبتي في مجالسة الاستاذ يونادم والحديث معه وضعتني في موقف الراضي .
ملاحظه:
حين يسمح الوقت , سأخصص مقاله اختصر فيها المهم والمفيد من الاحاديث التي كنت طرفا فيها
الوطن والشعب من وراء القصد.