المحرر موضوع: الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن  (زيارة 3112 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الإنشقاقات والنكبات التي عصفت بالأمة الكلدانية وكنيستها والمآسي التي حَلَّت بها عِبرَ الزمَن
الجزء الثامن والثلاثون
موقف البطريرك يوسف الثاني من السلطات المدنية
وعلاقاته بسائرالكنائس الأخرى
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                         
بسبب كثرة وشايات أعداء البطريرك يوسف الثاني ضِدَّه لدى السلطات العثمانية المشفوعة بالرشاوى، ولا سيما اتِّهاماتهم له بالعمالة للغرب المسيحي الذي يدين بنفس مُعتقدِه، دفعت بهذه السلطات الى النظر إليه بعين الريبة واعتباره عدوّاً، وبفضل امتلاكه لقسطٍ وافر من العِلم والحذق والفلسفة،كان يُفحِم مُجادليه من المُسلمين، فازدادوا كُرهاً له وراحوا يتربصونه للإيقاع به، ولكنَّ الله القديرلم يكن بغافل عَمّا يُدَبَّر له من مضايقات ومِحَن في الخفاء والعلنن ولذلك وضع كامل ثقته بالله.
يجدر بالإشارة بأن سلف يوسف الثاني البطريرك يوسف الأول كان قد حصل على فرمان من السلطان العثماني في 17/ك1/ 1680م يُخوِّله السلطة على دياربكر وماردين وما جاورهما مستقلاًّ عن بطريرك الموصل النسطوري، فاعترفعت بموجبه السلطات العثمانية به رئيساً روحياً على أبناء كنيسته الكلدانية مخوَّلاً بإدارة شؤونهم الروحية والمدنية، وإن كان للبطريرك النسطوري نفس الصلاحيات، ولكنَّ الدولة العثمانية لم تكن تعترف بانشطار الكلدان الى قسمَين كاثوليك ونساطرة، بل تعتبرهم امة واحدة غير منقسمة يُدير شؤونها بطريرك واحد فقط، ولذلك انتقلت الصلاحيات الممنوحة للبطريرك النسطوري الى البطريرك يوسف الأول الكلداني الكاثوليكي، فكان صدور هذا الفرمان ضربة مؤلمة للبطريرك النسطوري ودليلاً على انخفاض شأنه لدى الباب العالي آنذاك.
والظاهر أنَّ البطريرك يوسف الثاني استفاد من ذلك الفرمان السلطاني فاستغلَّ مفعولَه لصالحه، وإن كان هو شخصياً غير حاصل على فرمان مثيل له، إلا أنّ تصرُّفَه يدلُّ وكأنَّه حاصل على مرسوم خاص يُتيح له الإستفادة من فرمان سلفه، ولا سيما عندما تكون مكانة البطريرك النسطوري قد تدنَّت لدى الحكّام، وهذا الأمر كان ينعكس بالخير على أبناء كنيسته حيث ينعمون بالحرية والطمأنينة، وهذا ما أشار إليه الكاردينال تيسيران (خلاصة تاريخية للكنيسة الكلدانية ص 126). ولكنَّ خصومَه لم ينفكوا يوماً عن تأليب الحكّام المحليين عليه وعلى أبناء شعبه المتكثلكين، فلم يجر تحسُّن بينه وبيهم، لأنَّه لم يكن يألو جهداً في كسب أبناء شعبه النساطرة للتحوُّل الى المُعتقد الكاثوليكي القويم، بكُلِّ السُّبُل الممكنة فأثمرت جهوده وشاهد بنفسه جموع النساطرة التي كانت تنتمي الى الكثلكة. وعن ذلك يتحدَّث تيسيران في (المصدر السابق ص 128) بقوله: إزاء كُلِّ هذه المكاسب الباهرة، كان ثقيلاً على النساطرة أن يُغزوا في عُقردارهم ويُهاجَموا على مقربة من مقرِّهم البطريركي. فما كان منهم عندما تتحسَّن علاقاتُهم بالسلطات المحلية، ويكون بإمكانهم رشوة الحُكَام الضعاف النفوس، إلا الإيقاع بالبطريرك للإقتصاص منه ومن أبناء كنيسته.
ولم تكن علاقة البطريرك يوسف الثاني الكاثوليكي الكلداني بالكنيسة المونوفيزية اليعقوبية بأفضل من التي كانت مع الكنيسة النسطورية، فقد واجه هجوماً شرساً من قبل البطريركين المونوفيزيين "اغناطيوس جرجيس الثاني 1686-1709م" و "اغناطيوس اسحق الثاني1709-1722م" لمجرَّد أنَّ البطريرك يوسف الثاني كان فاتحاً أبواب كنائسه الكلدانية أمام العابرين من المونوفيزية الى الكاثوليكية لكي يؤدوا شعائرهم الدينية فيها، حيث لم يكن لهم آنذاك كنائس خاصة بهم. فكان هذا الإحتضان من قبل البطريرك الكلداني بمثابة تشجيع للمخدوعين بالبدعة المونوفيزية لنبذها واعتناق الكاثوليكية.
البطريرك يوسف الثاني آل معروف
والتطور الليتورجي
ذكر البطريرك يوسف الثاني في كتابه (المرآة الجليَّة) بأنَّ ولعَه وشغفَه بأدب اللغة الكلدانية لم يكن لهما حدود منذ باكورة صباه! إنكبَّ على تعلُّمِها في بلدته تلكيف فأتقنها وهو لم يُناهز الرابع عشر عاماً، وكان تمكُّنُه من ناصيتها لا يدعه يرضى عن عمل لا يليق بها، ويأسف لعمل الآخرين غير المُتقن، وقبل أن يُغادر تلكيف الى دياربكرأخذ على عاتقه تعليم وتدريس أبناء جلدته مدة من الزمن. ويُضيف البطريرك قائلاً بأنَّه تعلَّمَ اللغة العربية على يد البطريرك يوسف الأول وقد بلغ منها حدّاً أهَّله للدراسة في المدرسة الفقهية الإسلامية في دياربكر، وبها درس عِلم المنطق واللاهوت. وعن المدرسة الإسماعيلية الإسلامية يقول: لولا العناية الإلهية، لهبَطتُ حيّاً الى الجحيم نتيجة ما قرأته على الغرباء. وحتى بعد ارتقائه السدة البطريركية ومع كُلِّ أعبائها ومسؤولياتها الجسيمة، لم يرَ بداً من مواصلة دراسة اللغة العربية في المدرسة الإسماعيلية إذ بدونها لم يكن قادراً على التعمق في عِلمَي المنطق واللاهوت، حيث يقول: في تلك المدرسة تعلمتُ المنطق والعلوم الطبيعية وما بعد الطبيعة والفلسفة واللاهوت الذي يُعتبر خاتمة للعلوم كُلِّها. وكنت مضطراً إذ لم يكن للمسيحيين المشرقيين معهد أو مدرسة لدراسة تلك العلوم.
وفي دياربكر واصل مار يوسف الثاني دراسته للغة الكلدانية لزيادة تعمُّقه فيها، وكلَّما سنحت له الفرصة عكف على النقل من العربية الى الكلدانية مؤلفاً الصلوات وكاتباً الأشعار وناظماً المداريش. يقول عن البطريرك يوسف الأول معلِّمِه الكبير: إنَّ هذا الأب القديس... اهتمَّ بتدريسي اللغة العربية التي كنتُ بعيداً عنها وغريباً عليها للوهلة الأولى لعدم معرفتي بها وبآدابها، وما إن تعلَّمتُها حتى بدأت اقطف ثمارها... فمنها ترجمتُ هذا الكتاب المُسمَّى "المصباح المنير" الى اللغة الكلدانية (المصباح المنير/ المجامع المقدسة ط. الأب بيجان، باريس 1888م ص 5). وهذه الثمار جعلت مار يوسف الثاني آل معروف كما يقول صاحب كتاب (تاريخ نصارى العراق/ ر. ب. اسحق ط 2 ديترويت/ اميركا 1989م ص 142) <أن يُعَدَّ في مصاف علماء زمانه المرموقين مُحقِّقاً متمكِّناً، واعتبرَه أهلُ النظر جَهبَذاً! ليس لمعاصريه فحسب بل لإجيال لاحقة. أما المطران جاك اسحق فقد تحدَّث عنه في (مجلة بين النهرين لعام 2001/السيرة الذاتية لمار يوسف الثاني العدد113-116 ص 54) قائلاً: <إنَّ ما يسترعي الإنتباه في سيرة البطريرك يوسف الثاني آل معروف، هو ذكاؤه الوقّاد، ومُثابرتُه على التعمُّق في الدروس الكنسية، بالرغم من الظروف القاسية التي أحاكت بحَبريَتِه، مع أنَّه لم يتلقَّ العِلمَ في الجامعات الأوروبية أو الشرقية الشهيرة>.

وكانت اللغة الكلدانية قد انحسرت جداً بعد الإحتلال المغولي للعراق الذي بدأ ببغداد عام 1258م، إذ قَلَّ مُريدوها وهجرها المُغرَمون بها، فعانت من الركود حتى وصلت الى أدنى درجات الإنحطاط خلال القرن الرابع عشر، وفي القرن الخامس عشر ظهر مؤلفان شهيران هما: اسحق قرداحي الشبدني وسركيس بَروَحلي الأذربيجاني، نفخا فيها روح الحياة من جديد، ولكنَّ بعد هذين الأديبَين لم يظهر من الأدباء مَن يستحق الذكر، حتى برز في القرن السابع عشر جهبذٌ في هذه اللغة الكلدانية المباركة هو البطريرك يوسف الثاني آل معروف الذي ركَّز اهتمامَه على القضايا الليتورجية، حيث أجرى تغييرات إصلاحية واسعة في الكتُب الطقسية الكلدانية، وحذف الألفاظ والتعابيرالنسطورية التي تتعارض مع المعتقد الكاثوليكي، وحتى المقاطع التي تضمَّنت تلميحاً ولو بسيطاً الى الهرطقة النسطورية، منقِّحاً العديد من صلوات الأعياد، ومستحدثاً أعياداً وتذكاراتٍ إضافية على الموجود منها في الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية الوريثة الشرعية الوحيدة لكنيسة المشرق قبل تنسطُرِها، مقتبساً إياها من الطقس اللاتيني. انظرما كتبه بهذا الصدد الأب البير ابونا في (مجلة الإتحاد لعام 1985 بعددها 2-3 ص 37) وإن كان تحت عنوان خاطيءٍ وبتعمُّد "نظرة شاملة الى الأدب السرياني" في الوقت الذي يعلم جيداً بأنَّه أدب كلداني!.

ولكن هناك مَن وجَّهَ نقداً شديداً لإصلاحاته الليتورجية ولا سيَّما المتبجحون بالإختصاص الليتورجي آخذين عليه عدم توفقه في اختيار نصوصٍ أفضل وأجمل من النصوص التي أتى الى تغييرها في الطقس، وهذا برأيي بعيد عن الحقيقة، فهل بقاء اسم الهراطقة وتعليمُهم كان يُضيف جمالاً للنصوص؟ فقد أضاف يوسف الثاني خلال فترة بطريركيته على الطقس الكلداني ككُل، اكثر مِمّا اضافه إليه الآخرون مجتمعين منذ عهد منظمه الجاثاليق ايشوعيات الثالث الحِديابي 651-660م وحتى عهده هو! وهي فترة طويلة تُناهز العشرة قرون. قال البعض بأنَّ البطريرك يوسف الثاني آل معروف حذف الكثير من الأعياد والتذكارات من الطقس الكلداني دون أن يُشيروا إليها، وفي الحقيقة فإنَّه لم يحذف غير تذكار مار آبا الكبير مُبدِلاً إيّاه بتذكار مار اوجين الغريب عن الكلدان وكنيستهم، وأنا أعتبرُ هذا العمل خطأً فادحاً، إذ ابدل الحقيقة بالإسطورة. كما استبدل اسماء الملافنة اليونان المكرَّمين من الكنيسة النسطورية، بأسماء الذين تُكرِّمُهم الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية.

تسبَّبت الفئة النسطورية بصعوبات جمة للبطريرك يوسف الثاني مُعرِّضة إيّاه للكثير من المِحن والإضطهادات، حيث يقول الأنبا ش. جميل (كتاب العلاقات ص 212) كانت المُناوئة الشرسة التي أبدتها ضِدَّه الجماعة النسطورية من الشدة بحيث اضطرَّت البابا لتوجيه رسالةٍ الى المؤمنين الكلدان الكاثوليك في دياربكر بتاريخ التاسع من ك1 عام 1702 يدعوهم الى الصبر ويُشجعهم على الصمود في اوقات المِحَن والشدائد. فصبر البطريرك وصبر معه الشعب الكلداني المؤمن على ذلك الضيم القاسي. ويُضيف (المصدر ذاتُه ص 214) وشعر البطريرك بأنَّ وطأته باتت لا تُحتمَل ففكَّر عام 1708م باللجوء الى لبنان. إلا أنَّه قبل أن ينفذ فكرته كتب رسالة الى الحبرالأعظم يطلب فيها الإذن للقدوم الى روما وقضاء بقية حياته فيها. يقول الأنبا ش. جميل (كتاب العلاقات ص 216) أجابه البابا برسالة بتاريخ 21 أيار 1712م مذكِّراً إياه، بأنَّ الأحبارالمُقيمين في البلدان غير المسيحية، بإمكانهم تحقيق زيارتهم الى العتبات المقدسة كُلٌّ عن طريق وكيله في روما، أو أن يؤدونها بنفسهم... ولكنَّ يوسف الثاني لم يتَّسع له الوقت لزيارة روما، فقد عاجله وباء الطاعون المتفشي في البلاد آنذاك، فأدركه المنونُ في الثاني من حزيران عام 1712م وله من العمر ستة واربعون عاماً.

3 - البطريرك يوسف الثالث 1713-1757م
لقد ذكرنا فيما سبق بأن البطريرك يوسف الثاني، بعد وفاة مطران ماردين شمعون الآمدي، رسم لأبرشية ماردين مطراناً جديداً هو طيمثاوس ماروكين عام 1696م. كما رسم عام 1712م القس عبدالأحد بن كره بيت المقدسي مطراناً معاوناً له باسم باسيليوس على آمد، وما إن ازداد عدد الكلدان في بلدة عين تنور حتى نقله إليها، وكانت العادة قد جرت أن تكون النيابة البطريركية لمطران عين تنور. وقبل وفاة يوسف الثاني بيومين، أبلغ رغبته الى مطارنته واساقفته بانتخاب تلميذه المفضل لديه طيمثاوس ماروكين خلفاً له. ولبّى المطارنة والأساقفة رغبة الراحل يوسف الثاني فانتخبوا طيمثاوس للمنصب البطريركي باسم يوسف الثالث. وفي الإجتماع العام لمجمع انتشارالإيمان المنعقد في الثالث عشر من تشرين2 عام 1713م اتُّخذ قرار بتثبيته بطريركاً، وفي الثامن عشر من آذار 1714م صدر قرارُ التثبيت بلقب بطريرك بابل بخلاف سلفيه اللذين كانا يُلقبان ببطريرك الكلدان. ونقل المطران باسيليوس من عين تنور الى ابرشية ماردين، ورسم إبن القس بطرس مروكي نائباً له باسم المطران طيمثاوس. ولم يكن وضع يوسف الثالث بأفضل من سلفيه من حيث مضايقات الجماعات المُناوئة للكثلكة، ولا سيما بعد انضمام معظم نساطرة دياربكر الى الوحدة الإيمانية مع روما واستيلائهم على كبرى كنائس المدينة والتحاقهم بالكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. وغدا وضع البطريرك اكثرَتعرُّضاً للصعوبات وبخاصةٍ في عامَي 1721 و1725م إذ يقول الأنبا ش. جميل (كتاب العلاقات ص 339-341) بأن أنباء هذه الصعوبات بلغت الكرسي الرسولي، فكتب إليه الحبر الأعظم يؤاسيه ويشجعُه على تجاوز المِحَن.

كان وجود الآباء الرهبان الكبوشيين في دياربكر يُمثِّل دعماً مهماً للبطريرك وللشعب الكلداني، ففقدوه باضطرارهؤلاء المُرسَلين لمغادرة دياربكر، ولكنَّ العِوَض كان في تقدُّم الحركة الوحدوية وتوسُّعها في كسب النساطرة للإنتماء الى الكثلكة. ولم يتسنّى للبطريرك زيارة أبناء شعبه الكلداني في الموصل منذ عام 1722م، ولكنِّه كان يُرسل بعضاً من الكهنة لزيارتهم بين آونة وأخرى متنكِّرين. وفي عام 1728م كانت الحركة الإتحادية قد امتدَّ نفوذها وانفسح مجالُها كثيراً، والبطريرك يوسف الثالث قد حصل على فرمان سلطاني، فتوجَّه لزيارة الموصل رسمياً، وخلال فترة ستة أشهر تمكَّن من كسب نحو ثلاثة آلاف فردٍ أعلنوا انضمامَهم الى الوحدة مع روما، وبعد عودة البطريرك أبلِغَ بانضمام ثلاثة آلاف شخص آخر الى الأولين. فأحدث هذا الأمر صدمة كبري لدى النساطرة، وأقضَّ مضاجعهم معتبرينه غزواً لمعقلهم الذي لا يبعد كثيراً عن مقرِّ بطريركهم، إضافة الى نظرتهم إليه تهديداً واضحاً لزوال ما دعوه بامتهم النسطورية! فتوعَّدوا بالإنتقام من البطريرك الكلداني يوسف الثالث بأية وسيلة مهما كانت رذيلة.

وبقوة الرشاوى الكبيرة للسلطات العثمانية الجائرة تمكَّنوا من الحصول على فرمان لبطريركهم، وعن طريقه أزاحوا البطريرك الكلداني عن دياربكر واحتفظوا بكنيسته مدة من الزمن بعد استطاعتهم زَجَّه بالسجن، وكان تصرُّف السلطات قاسياً مع البطريرك باقتياده بين الموصل ودياربكر، وفي الآخر أبقوه  مُعتقلاً في الموصل لمدةٍ طويلة يُعاني من حَرِّ صيف عام 1729م. وفي هذه الأثناء كان وكيله في العاصمة العثمانية يسعى لدى الباب العالي لإيجاد وسيلة لإنهاء معاناة رئيسه، واستطاع الحصولَ على فرمان يقضي بالفصل بين الفئتين الغريمتين الكلدانية الكاثوليكية والكلدانية النسطورية، بحيث تكون بموجبه الموصل وحلب للنساطرة ودياربكر وماردين للكلدان، وبذلك ساد السلام بين المسيحيين في هتين المدينتين، ولكن بعد بذل أموال طائلة لقاء حصول كُلٍّ من الفريقين على فرمان لصالحه. ولم يكن الوضعُ سهلاً على الكلدان القاطنين في المنطقة النسطورية، بل عانوا منه جداً إذ لم يكن بوسعهم ارتياد كنائس النساطرة لأنهم يعتبرونها هرطوقية ومن ثمَّ يخشون توبيخ الضميرأولاً وثانياً كان من العسيرعليهم تنظيم شؤونهم الدينية، ويتحاشون التجمُّع والتكتُّل ليتجنَّبوا ما قد يُسببُه لهم المناوئون النساطرة من المشاكل.

إنَّ الصراع المذهبي الذي فرضه النساطرة على الكلدان الكاثوليك وبطريركهم يوسف الثالث، كان تآمُرياً عنيفا خالياً من الوازع الضميري والديني، تكبَّد البطريرك من جرّائه العذاب والضيقات، الى جانب تراكم الديون عليه بسبب اضطراره لتقديم مبالغ كبيرة من المال للسلطات العثمانية في سبيل حصوله على فرامين بصالحه. ففكَّر بعد خروجه من السجن بالسفر الى العاصمة العثمانية ظنّاً منه وعملاً بنصيحة وكيله الذي كان يؤمِّلُه بإمكانية استرداد جزءٍ من الأموال التي دفعها. فطلب من باسيليوس مطران ماردين وشمعون مطران سعرد الإهتمام بشؤون رعيته خلال غيابه، وتوجَّه الى العاصمة العثمانية فحلَّ فيها عام 1731م، إلا أنَّ ظنَّه لم يكن في محلِّه، فاضطرَّ بعد صرفه ستة أشهر بدون جدوى للسفر الى اوروبا وكانت محطته الأولى بولونيا آملاً الحصول منها على مبلغ لتسديد ديونه، إلا أن المبلغ لم يكن وافياً، فعرَّج الى روما ووصلها في 1/ ك1/ 1731م على الرغم من رفض طلبه من قبل مجمع انتشار الإيمان للقدوم إليها والإعتزال فيها بحسب ما أورده الأنبا ش. جميل في (كتاب العلاقات ص 341-343). وبالرغم من قيام مجمع انتشار الإيمان تزويد يوسف الثالث برسائل توصية الى المسؤولين في الدول الأوروبية، إلا أنَّ البطريرك في جولته الأوروبية لم يُفلح في الحصول إلا على مبلغ ضئيل من المال الذي كان بمسيس الحاجة إليه، فعاد بالخيبة الى العاصمة العثماننية، واضطرَّ للمكوث فيها تسعة أشهر لإستحالة مواصلته السفر الى مقرِّه في دياربكر بسبب الحرب الناشبة بين العثمانيين والفرس الصفويين، وأخيراً عاد الى روما ثانية في ربيع عام 1735م وبقي فيها حتى عام 1741م. وكانت طلبات مؤمني بلاد بين النهرين تصله باستمرار، سائلينه العودة إليهم، لأنَّ عددَهم كان بازديادٍ مطَّرِد، وراعيهم في غيبةٍ عنهم، ويقول الأنبا ش. جميل (كتاب العلاقات ص 413-933، 370) بأنَّ هذا الكلام صرَّح به البطريرك يوسف الثالث نفسُه في تقريرقدمه لمجمع انتشارالإيمان أثناء الأشهر الأخيرة من مكوثه في روما.

لا ريبَ بأنَّ غياب البطريرك الطويل عن أبناء رعيته كان له مردود سلبي عليهم، حيث فَتُرَ شعورُهم نحوه وإن قابلَه تزايُدٌ في عددِهم، وبدلاً من الإعتذار لهم واسترضائهم، حاول البطريرك إثارتهم وبثِّ الخلاف فيما بينهم، حين تجاهل رأيَ الإكليروس والمؤمنين وأراد الإنفراد بفرض خلفٍ له على تولّي السلطة البطريركية، حيث هَبَّ مسرعاً ورسم الشخص المدعو انطون مطراناً في ماردين في العشرين من تشرين2 عام 1754م، فانتفض الكلدان ضِدَّه وقدَّموا شكواهم الى روما، فكان أن أعلن مجمع انتشار الإيمان في 21 ايار 1756م بطلان انتخاب المطران انطون. ولكنَّ انطون هذا وافاه الأجلُ فجأةً في 11/ ك2/ 1757م، وبعد 12 يوماً لحقه الى اللحد البطريرك الشيخ يوسف الثالث والغريب أن موته كان فجائياً ايضاً. ولم يكن قد بقي للكلدان غير مطران واحد بالغٍ من العمر 95 عاماً هو مطران ماردين.

4 - البطريرك يوسف الرابع 1759-1781م
أربكت وفاة البطريرك يوسف الثالث المفاجئة وفي تلك الظروف الحرجة الكلدان، فكان عليهم التحرُّك السريع تاركين خلافاتهم جانباً وساعين الى إقامة رئاسة جديدة لهم. وبالفعل فقد اختيرالتلميذ في كلية انتشار الإيمان لعازر هندي ورسم بطريركاً باسم يوسف الرابع في الثامن من شباط لعام 1757م، وفي ذات الوقت رسم مطران لأبرشية سعرد. يقول الأنبا ش. جميل في (كتاب العلاقات ص 383-385) وبالرغم من إبلاغ مجمع انتشار الإيمان برسامة البطريرك في ايلول لذات العام، إلا أنَّ براءتَي التثبيت والباليوم لم يُرسلا الى البطريرك الجديد إلا في 24/آذار/1759م. وخلال تلك المدة قام نزاع على ممارسة السلطة على الكلدان في الموصل وبغداد بين البطريرع يوسف الرابع ومطران اللاتين في بغداد عمانوئيل، وبتدخل روما على الخط سُوِّيَ الخلاف بإعطائها الحقَّ لبطريرك الكلدان صاحبه الشرعي، وبإقرارها بامتداد سلطة بطاركة الكلدان الى جميع رعاياهم وفي كُلِّ مكان. ومهِمَّة المُرسَلين الغربيين لم تكن إلا في إطار مساعدة الرئاسة الكلدانية وأحبارها، ثمَّ الإنصراف الى الوعظ وتثقيف الجماهير المسيحية.
وبحسب قول الأب بطرس نصري في (ذخيرة الأذهان ج2 ص 354) بأنَّ البطريرك يوسف الرابع سافر الى القسطنطينية العاصمة العثمانيةعام 1763م ومكث فيها عاماً واحداً، ومنها سافر الى روما عام 1764م. وأمضى فيها عامَين، تمكَّن خلالهما طبع الكتاب الطقسي للقداس الكلداني "قداس الرُّسُل الليتورجي" والأناجيل والرسائل الطقسية، وفي الوقت الذي زاد إضافاتٍ لاتينية على ليتورجية الرُّسُل، رفع منها بعض صلواتٍ أصيلة، لم تَرُق للموارنة الذين أبدوا له المُساعدة في هذا العمل. وبعد رجوعِه الى الشرق استقال عام 1781م، وعهد أمر إدارة الشؤون البطريركية الى إبن شقيقه اوغسطين هندي وهو ما زال كاهناً. وقبلت روما استقالته عام 1783م وبقي فيها حتى أدركه الموت عام 1791م. ويُلخِّص بطرس نصري أسباب استقالته بما يلي: (ذخيرة الأذهان ج2 ص 375) الخلاف الناشب بينه وبين عمانوئيل مطران اللاتين. عجزه عن ترميم كنيسة مار فثيون في دياربكر بسبب الديون المتراكمة عليه وعدم موافقة السلطات العثمانية. قيام الكرسي الرسولي بمنح المطران يوحنا هرمزد من آل ابونا النيابة الرسولية على البطريركية البابلية.

الكاهن اوغسطين هندي
استمرَّ اوغسطين هندي بعد موت عَمِّه البطريرك يوسف الرابع المستقيل بإدارة شؤون بطريركية الكلدان في دياربكر بصفته كاهنا مُخوَّلاً، ثمَّ بصفته مطراناً منذ عام 1804م، وراح يلقِّب ذاتَه بطريركاً باسم يوسف الخامس، لكنَّ مجمع انتشار الإيمان لم يمنحه رسمياً هذا اللقب ولم يتعامل معه كبطريرك ابداً. والأسباب الموجبة لذلك نُلخصها بما يلي: إن الكرادلة الذين يتشكَّل منهم مجمع انتشارالإيمان ومنذ عهد البطريرك يوسف الأول الذي طلب من الكرسي الرسولي الإعتراف به بطريركاً، امتنعوا عن الموافقة على طلبه بحجة أنَّه من غيرالمُستحسَن إنشاء بطريركية جديدة ستعتبرها البطريركيتان النسطوريتان اللتان تتقاسمان السلطة على النساطرة في تركيا وايران منافسة لهما بل ربما عِدائية. ولكنَّ هذه الحجة لم تثبت روما على تبنيها، وإنما عادت ودرست مطلب يوسف الأول المُجدَّد عام 1781م، فرأت فيه، بأنَّ الضرورة تقضي بأن يُعطى للكاثوليك وجود لطقسهم الكلداني ونظامٌ خاصٌّ بهم، آخذةَ العبرة بأنَّ الفرامين الباهضة الثمن التي تُبيدلت بين الخصوم خلال قرن من الزمن كانت عاجزة عن إحقاق السلام بينهم. وكان وجود بطريرك كاثوليكي في دياربكر لا يُساعد على توفُّر فرصٍ لإنضمام أيٍّ من البطريركين الجالسَين أحدُهما في قوجانُس والآخر في دير الربّان هرمزد الى الوحدة مع روما.
فلم تشأ روما تكرار ذلك مع المطران اوغسطين هندي، ولا سيَّما أنها تلقَّت من كُلٍّ من البطريركَين النسطوريَين عام 1770 و1771م صورة ايمان وصفتها بالمُرضية كما يقول الأنبا ش. جميل (كتاب العلاقات ص 386-391). بيدَ أنَّ البطريرك ايليا الحادي عشر دنحا أدركه الموت عام 1778م فخلفه وراثياً إبنُ اخيه ايشوعياب ناطور كُرسيِّه باسم ايليا الثاني عشر، وما إن جلس على الكُرسي البطريركي حتى ابتعد عن مسألة الوحدة التي كان هو وعمُّه الراحل قد اتفقا عليها. لكنَّ إبنَ عَمِّه يوحنا هرمزد كان ذا تعلُّقٍ شديد بالمذهب الكاثوليكي، ويؤيده عددٌ كبيرٌ من مناصريه داخل ما اصطلحوا على تسميتها "الأمة النسطورية".
ولكنَّ روما سرعان ما شعرت بأنَّ النوايا الحقيقية ليوحنا هرمزد انطلت عليها واعتبرت ذاتها مخدوعة، سارعت عام 1817م بايفاد اوغسطين هندي الى كُلِّ مناطق بطريركية بابل الكلدانية بصفة قاصدٍ رسولي لها، وامتنعت كالسابق عن منحه لقب البطريرك الذي كان يتمنّاه بشوق. وكان الخلاف يتفاقم بين أنصار يوحنا هرمزد ميترابوليط الموصل ومؤيدي اوغسطين هندي ميترابوليط دياربكر وكلٌّ منهما يُطالب بلقب البطريرك دون جدوى، وظلَّ الصراع الشخصي قائماً بينهما دون أن يمُسَّ المُعتقد حتى وافى الأجلُ اوغسطين هندي في السادس من نيسان 1828م، ولم تَدُر بخلدِ خلفه على كُرسيِّ دياربكر الميترابوليطي فكرة المطالبة بلقب البطريرك. وفي الخامس من تموز لعام 1830م، مَنحت روما الميترابوليط يوحنا هرمزد لقب بطريرك بابل على الكلدان، والإقامة في الموصل. وبه ابتدأت سلسلة جديدة للبطاركة الكلدان الذين اتخذوا من الموصل مقراً لإقامتهم، وتواصلت هذه السلسلة دون انقطاع الى يومنا الحاضر، وحظوتها لدى ابناء كنيستها الكلدانية الكاثوليكية تتزايد باطراد ... والى الجزء التاسع والثلاثين قريباً.
الشماس د. كوركيس مردو
في 14/10/2015