المحرر موضوع: السُّخْريَّة في مَتَاهَاتِ مُزْهِر بِنْ مَدْلُول  (زيارة 823 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل يوسف أبو الفوز

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 680
    • مشاهدة الملف الشخصي
السُّخْريَّة في مَتَاهَاتِ مُزْهِر بِنْ مَدْلُول
يوسف أبو الفوز
الحديث عن الكتب، فيه متعة، بغض النظر عن كونك تحب هذا الكتاب أم لا تحبه، فكيف اذا كنت منحازا للكتاب أساسا؟ والأنحياز لكتاب " متاهات أبو المعيد "، للكاتب والصحفي مزهر بن مدلول، الصادر عن "دار الرواد المزدهرة" في بغداد خريف 2015 ،  بـ 185 صفحة من القطع المتوسط وبغلاف جميل وموحي من تصميم شاكر عبد جابر، يأتي ليس لكون الكاتب صديقي ورفيقي في النضال، في ايام حركة الانصار الشيوعيين  العراقيين، وزميلي في العمل في "طريق الشعب"، بل لأن اسلوبه السهل الممتنع، والمترع بالصدق والمحمل بالسخرية المُرّة يشدك لصفحات وتفاصيل الكتاب، المستوحاة من تجربته الذاتية في ظل ظروف اجتماعية وسياسية معقدة عاشها العراق في العقود الاخيرة من القرن الماضي.
ويبدو عندي أن مزهر بن مدلول لا يلاقي صعوبة ما عند الكتابة، فهو يكتب بسهولة وشفافية ، ويغرف من مياه نهر الحياة من حوله متى يشاء ، تدفعه لذلك طبيعة الحياة التي عاشها في واقع العراق الكارثي المحمل بالحزن والهموم، والذي تكثر فيه المفارقات التي تندرج تحت عنوان "شر البلية ما يضحك "، والتي يجيد قصها وروايتها، عن نفسه وعن الناس من حوله ، فيأتينا أسلوبه مشبعا بكوميديا سوداء، أو ما يسميه البعض " الضحك من خلال الدموع " !
في مقدمة الكتاب، وفي اول سطورها، يشير مزهر ابو مدلول الى ( بعد ظهور كتابي الاول"الدليل،تجربة ومعاناة نصحني بعض الاصدقاء ان يكون مشروعي القادم  مشروعا روائيا ) ــ ص 7 ــ ، وليس سراً، أني كنت ضمن هذا "البعض"، بل وربما من الاوائل. فبعد صدور كتاب "الدليل تجربة ومعاناة " للكاتب في عام 2014 ، وجدت كقاريء ان مزهر يملك اسلوبا في الكتابة نحن بحاجة له، وتحديدا القاريء العراقي، فكانت النصيحة لكتابة رواية بالاستفادة من هذا الكم الهائل من التجارب المختلفة في أماكن جغرافية عديدة، والنماذج المتنوعة من الناس التي مرت خلال شريط حياته، والتي تصلح لتكون شخصيات روائية، خصوصا وان اسلوبه في القص الذي ظهر به في كتابه الاول يشجع على ذلك، لكن مزهر كما يبدو أختار اسهل الطرق وقدم لنا في متاهاته صفحات من سيرته الذاتية بأسلوب حمل الكثير من صنعة الكتابة القصصية.
عنوان الكتاب " متاهات أبو المعيد" ـ  العنوان وحده يجبرني للأبتسام وحتى القهقهة ! ــ يقودنا الى حجم الاسئلة الكبيرة والثقيلة التي ينوء بها الكاتب، وأن لجوءه الى اسلوب السيرة هنا، ربما جاء من الحسنات، أذ وجدنا ان الكاتب يسلط  الضوء على مساحات معينة من حياته، وحياة العراقيين بصدق عال وموجع، بعيدا عن رتوشات العمل الروائي، التي تدفع اليها شروط صنعة العمل الادبي، التي تحتاج الخيال، وايضا بعيدا عن الوقوع في فخ ان يقدم الكاتب نفسه كسوبرمان وبطلا فذا، على غرار ما صرنا نقرأ للبعض ممن كتبوا سيرهم الذاتية روائيا، والذين يحاولون ان يكتبوا تأريخا مزيفا لانفسهم بهذا الشكل أو ذاك. فهذا الطفل الذي ولد في قرية نائية ( بين قطعان الغنم ولدتني أمي ) ــ ص 9 ــ ، من قرى الناصرية ، واذ ينتقل للمدينة لاجل الدراسة في مدارسها يلاحقه لقب "ابو المعيد"، الذي يقال عادة للقادم من القرية للنيل منه، وصار مزهر يسمع ذلك حتى داخل بيته : ( ان اخي "رهيف" الذي كان يقابلني ويقاسمني "بادية التشريب " ، نظر في وجهي ساخرا وقال لي " أمشي ابو المعيد" ! فغرت فاها ... "حتى انت يا بترويس" !!)  ــ ص 26 ـ 27 ــ .  ومزهر في كتابه حَوّل هذا اللقب بطريقة ساحرة وساخرة من لقب للحط من قيمة المنادى به الى لقب للزهّو به ، فهو يروي لنا بسلاسة كيف جاء الفنان "حسين نعمة" الى مدرستهم باحثا عن اصوات جميلة بين الطلبة ليشكل منها جوقة لتؤدي معه اغنيته الشهيرة "يا نجمة" : (وعندما جاء دوري ودخلت الامتحان وكنت اتوقع ان اؤدي شيء من الأبوذية لداخل حسن او ناصر حكيم او اخرين لكنه قال لي : غني المقام العراقي وابدأ بـ "آمان آمان".. لم اسمع بها في حياتي. ضحكت وتلعثمت وتاه صوتي ولما وضعت كفي على خدي استعدادا للغناء، نسيت المفردة، وبدلا من ان أقول "آمان آمان" قلت : انااااام .. اناااام !. فضحك حسين نعمة، وقال : "أمشي ابو المعيد"!) ــ ص 31 ــ .
هل يمكن ان تمسك نفسك من الضحك  من "أبو المعيد" هذا ؟!
مزهر بن مدلول في صفحات كتابه لا يسخر من نفسه، بقدر ما يسخر من واقع مر، متخلف عاشه مع اهله وابناء شعبه منذ " قالوا بلى"! والا كيف نصف واقعة ان يخرج المذيع في التلفزيون في المقهى ويقول"بيان اول"، فيتطافر الناس هاربين، بمشهد يصفه مزهر بكاريكاتيرية، ظانين ان انقلابا جديدا وقع، وصاحب المقهى عبثا يصرخ بهم .. ( ولكم مسلسل مو انقلاب  .. يمعودين فلوس الجايات ! ) ــ ص 40 ــ ، أو حين كان مطاردا في بغداد بدون مال او سكن واراد العودة الى مدينته الناصرية، وبعد ان دار طويلا، لجأ لاقحام نفسه بدور مساعد السائق "السكن" في السيارة المتوجهة الى الناصرية من " كراج النهضة " ، في مشهد يثير الدموع قبل الضحكات وهو يحاول ان يجبر السائق ليتذكره، ولم يشفع له اسم والده، لكن نفع معه ادعاء قرابته لصاحبي دكانين في الناصرية يبيعان المواد الغذائية وجل زبائنهم " من السواق واهل الريف الذين يترددون على كراج الشطرة " ــ ص 107 ــ .
ولجأ الكاتب لاستخدام الكلمات المحكية، ونثرها تقريبا في اغلب صفحات الكتاب، لكنها لم تأت مقحمة على النص والحوارات، بل جاءت لتعطي النص نكهة البيئة التي يحكي عنها الكتاب، والمستوى الاجتماعي والثقافي للشخصيات ، مثلما مر بنا في بعض من المقتطفات التي اوردناها .
 والكاتب في متاهاته ، ينحاز بشكل واضح للفقراء والمسحوقين والمناضلين لاجل حقوقهم وسعادتهم ، وابرز الدور العدواني  والتخريبي لمنظمات حزب البعث في المجتمع العراقي، ولم يستطع الا ان يسخر منهم ومن مظاهراتهم ، فيحكي لنا كيف اندس هو وصاحب له في  تظاهرة.. ( خرج المعلمون البعثيون في تظاهرة للتأييد والتصفيق) ــ  ص 43 ــ ، وكيف لتخريبها راحا يهتفان داخل المظاهرة بهتافات مغايرة اثارت غضب البعثيين.  ولم تكن السخرية عند مزهر اسلوبا للحط من الاخرين بقدر ما كان لانتقاد وتبيان معارضته لاسلوبهم في الحياة، من هنا نجده سخر من "ارستقراطية" والده الذي تزوج من سبع نساء (كان يسرف في تبذير أمواله بطريقة غبية من اجل ان يكتسب الشهرة التي يتمتع بها خيار القوم ) ــ ص 57 ــ ... (وفي هذا العرس ايضا ، نحرت المئات من الخراف، وكان أبي واقفا يضع على رأسه ريشة بيضاء ! متفاخرا بما قدمه من ولائم كبيرة ، لا يستطيع تقديمها الا من كان وزيرا في الحكومة!، وبهذه الطريقة، ولهثا وراء الشهرة ، بدد ابي ثروته من دون ان يشعر بالندم!) ــ ص 58 ــ .
الكتاب حوى الكثير من المواقف الطريفة والتفاصيل المعاشة ، حكيت بأسلوب بارع ، ومشوق، تدفع للايمان بأن للكاتب مزهر بن مدلول قدرة على انتاج عمل روائي يحتاجه القراء بأسلوبه المفعم بالسخرية المرّة .
وحوى الكتاب قسما حمل عنوان (نصوص جبلية) شغلت الصفحات 139 ـ 182 ، حوى نصوصا تحدثت عن بعض من سنوات تجربته في كردستان ، الا اني وجدت ان هذه النصوص تختلف في اسلوبها عن القسم الاول من الكتاب ، وكأنها كتاب ثان ، اذ ربما بحكم نوعية التجربة واجواءها النضالية ، دفعت الكاتب لتناولها بشكل اكثر جدية، فخفت فيها روح السخرية، وصارت تميل للتأمل أكثر. وعلى العموم ، فهو كتاب جدير بالقراءة ، بمحتواه وأسلوبه.
ويذكر أن مزهر بن مدلول مواليد الناصرية عام 1955، عاش فيها ودرس في مدارسها، ثم اضطرته الظروف السياسية في العام 1979 الى ان يغادر العراق ليتشرد في الصحراء ويعيش في الجبال. التحق بقوات الانصار الشيوعيين وبقي هناك حتى عام 1990، ثم اقام بعد ذلك في دولة الدنمارك .
صدر للكاتب عام 2013 كتابه الاول بعنوان ( الدليل.. تجربة ومعاناة ) ، وهو ايضا كتاب من السيرة ، وتحت اليد ثمة مشاريع كتب أخرى .