المحرر موضوع: حوار الحضارات أم صدامها؟ الغرب وتنميط الإسلام !! مقدمة كتاب عكاب سالم الطاهر  (زيارة 854 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1283
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
حوار الحضارات أم صدامها؟
الغرب وتنميط الإسلام !!
مقدمة كتاب عكاب سالم الطاهر

بقلم عبد الحسين شعبان *

   
كان كارل ماركس قد أرسل إلى فردريك إنجلز مخطوطة لقراءتها وكتابة ملاحظاته بخصوصها. وانتظر عدّة أسابيع، بل بضعة أشهر، ولم تصله الملاحظات، حتى وصلته رسالة من انجلز مع مغلّف. وعندما فتح المغلّف فوجئ ماركس بإن انجلز  أرسل له مخطوطة موازية ضمّنها ملاحظاته، لكن المفاجأة الأكبر والأهم، كانت حين فضّ مظروف الرسالة المرفقة، فوجدها من ثلاثة أسطر، يتصدّرها الاعتذار وهي تقول: آسف لم يكن لديّ الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة ومركّزة، فكتبت هذه المخطوطة وآمل أن تفي بالغرض.
دلالة هذا القول المتواضع، إن التكثيف والكتابة المركّزة تحتاج إلى وقت وجهد وصفاء ذهن، وهي نتاج خزين معرفي وثقافي، بحيث يستطيع فيه المرء أن يعبّر عن أعقد القضايا وأدق التفاصيل على نحو مفهوم وواضح وبأقل قدر ممكن من التعبير، وهو أمر يحتاج إلى قدرة وبراعة لا يمتلكها سوى مفكرين من أمثال ماركس وانجلز اللذين نحن بصددهما، وهكذا ترى الجملة أنيقة والكلمة رشيقة والمعنى عميق، سواء كان مجلداً موسوعياً أو مادة للصحافة، فالكتابة فن بقدر ما هي قراءة وعلم ومران وموهبة أيضاً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
•   الدكتور عبد الحسين شعبان – دكتوراه فلسفة (مرشح علوم)  في العلوم القانونية من أكاديمية العلوم التشيكوسلوفاكية، براغ، معهد الدولة والقانون. أكاديمي ومفكر، باحث في قضايا الإنسانيات والحقوق والأديان والفكر السياسي، أستاذ في القانون الدولي وفي فلسفة اللاعنف، له نحو 60 كتاباً في الفكر والقانون والسياسة والنقد والثقافة.
I
تمهيد
لم أكن بعد قد تعرّفت مباشرة على الصحافي والكاتب الاستاذ عكاب سالم الطاهر، ولكنني كنت أعرفه من خلال عدد من الصحف والمجلات العراقية، وكنت قد قرأت له على نحو متباعد وغير متّصل، حتى هاتفني من دمشق مع رجاء أخوي بطلب تقديم كتابه عن حوارات الحضارات، وهو موضوع طالما شغل اهتماماتي، ولاسيّما في البحث عن قضايا ذات صلة بالفكر السياسي والقانوني الدولي والعلاقات الدولية والإسلام والتسامح، انطلاقاً من المشتركات والمختلفات الإنسانية، وهو الأمر الذي أصبح "فرض عين وليس فرض كفاية"، كما كان في السابق، بل إنه اضطرار وليس اختياراً فحسب، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية الإجرامية، التي حصلت في الولايات المتحدة في العام 2001، والتي أدّت إلى تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك، واستهدفت  مقار رسمية في واشنطن وبنسلفانيا، راح ضحيتها نحو ثلاثة آلاف إنسان بريء.
وكان الصديق العزيز الاستاذ صلاح عمر العلي قد أخبرني برغبة الطاهر بكتابة المقدمة، ولهذا أبديت استعدادي على الفور، على الرغم من ازدحام جدول عملي، لكن ثمة ظروف خاصة وربما طارئة وأسباب فنيّة هي التي حالت دون اكتمال الفكرة التي اشتغل عليها الطاهر في حينها، حتى نضجت  في وقت  لاحق وهو ما أخبرني به خلال تكريمي من جانب وزارة الثقافة ممثلة بدار الشؤون الثقافية في بغداد برئاسة السيد الدكتور نوفل أبو رغيف، بطبع كتابين لي: الأول عن الشاعر الكبير الجواهري والموسوم " جدل الشعر والحياة" والثاني: عن سعد صالح، الشخصية الوطنية السياسية والأدبية والمعنون " الضوء والظل- الوسطية والفرصة الضائعة"، وفي خضم هذا الجو الاحتفالي، تقدّم الاستاذ الطاهر ليطلب الكلمة من اللجنة المسؤولة وليفيض بالتحدّث عني بما أستحقه ولا أستحقه.

II
ما حول الضفاف وصاحبها
كان هذا قبل أن أطلّع على كتاب عكاب سالم طاهر والذي حمل عنواناً مثيراً " على ضفاف الكتابة والحياة" مع عنوان فرعي " الاعتراف يأتي متأخراً"، وهو الكتاب المطبوع من جانب مكتبة الدار العربية للعلوم في بغداد، في العام 2014.
وفي هذا الكتاب اكتشفت عكاب سالم الطاهر، ليس إعلامياً وكاتباً فحسب، بل مناضلاً وإنساناً ولديه من فضول المعرفة وشغب الحياة وشغفها، الشيء الكثير، على الرغم من أنه ينتمي لجيل عاش الكثير من الانكسارات والعذابات والمحن، خصوصاً في إطار صراعات ونزاعات وحروب لا عقلانية داخلية وخارجية، بل أستطيع القول أنها كانت  تدميرية للآخر وللذات، بسبب قصور النظر والرغبة في التسيّد والزعم باحتكار الحقيقة، وقد دفع العراق جرّاء ذلك النهج الثمن باهظاً، وما زال ينزف دماً غزيراً.
واكتشفت في عكاب سالم الطاهر إصراراً لا حدود له على الكتابة، ولعلّ الصحافة كانت  تسكنه لدرجة التغلغل، وحين يبتعد عنها اضطراراً وقهراً، يعيش حالة تيه لفقدان حبيبته، فما بالك إذا كانت هذه الحبيبة "صاحبة الجلالة".
والأكثر من ذلك وجدت فيه نباهة غير عادية حين يلتقط الجوهري من الأشياء، ويكون في ذلك قد أمسك بحكمة البير كامو الذي قال عن الصحافي " إنه مؤرخ اللحظة"، كهذا لم يكن يريد أن تفلت لحظة من بين أصابعه، فيحاول أن يدوّن ما هو ضروري ثم يبدأ باختيار المثير من العناوين، بحيث يستثمر كل شيء لخدمة الصحافة، عشيقته الأولى، بل عشيقته دائماً، فحقيبة سفره كانت تمتلئ وتفيض أحياناً بما هو جديد. وعرفت عن الطاهر الاجتهاد، ومحاولة لا يدّعيها في الاستقلالية حتى وإن تغلّفت تحت غطاء سميك، لأن الشجاعة لديه قيمة عليا رغم الظروف القاهرة والملابسات العديدة، وقد يكون المنبت الفلاحي أعطاه مثل هذا الهامش، ليجد فيه ملاذاً أحياناً وسبيلاً للزوغان من المساءلة، كما لمست في كتاباته توسلاً بسبل الحياة ومتعها، بقدر ما حمل من همومها ومشاكلها.
لعلّ المحطات التي جاء عليها في كتابه " على ضفاف الكتابة والحياة- الاعتراف يأتي متأخراً" هي جزء من تاريخ العراق السياسي المعاصر، خصوصاً نصف القرن الماضي، الذي شهد تحولات كبيرة عاشها المجتمع العراقي، من الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988 التي لم يكن لها ما يبرّرها على الاطلاق، إلى مغامرة غزو الكويت العام 1990، إلى حرب قوات التحالف العام 1991، إلى الحصار الدولي الجائر الذي دام نحو 13  عاماً، إلى الاحتلال العام 2003 وما أعقبه من صعود الموجة الطائفية ولغة المحاصصة والارهاب والعنف، وانعكاسات ذلك على الثقافة السائدة وعليه شخصياً، سواءً أيام فترة الحكم الواحدي الإطلاقي الشمولي، أو خلال انهيار الدولة وما أعقبها من احترابات مذهبية وإثنية.
لكن عكاب سالم الطاهر حاول السير بين الألغام أحياناً وقد لا يكون أمامه من طريق آخر ، متجنّباً هذا وغاضّاً الطرف عن ذاك، مثلما  ظلّ يصارع بقلمه في السابق من كوّة صغيرة في النقد، وفي الحاضر من شحّ الفرص والمحاذرة من التصنيف السياسي أو النمذجة الحزبية، و هي محنة جميع التنظيمات الشمولية في الماضي والراهن.
اكتشفت أيضاً لدى الطاهر وفاءً منقطع النظير لرفاقه وأصدقائه وزملائه في العمل، وحتى عندما يريد انتقاد أحدهم  فإنه يغمّس كلماته بشيء من المحبة، بحيث يأتي نقده مملحاً ومقبولاً، حتى وإن كان هو المجروح، بل يجد أحياناً الأعذار لمن يلمّح في نقده، وهكذا كانت معاركة ناعمة، بل تكاد تكون مخملية أحياناً، سواء على الصعيد السياسي أو على الصعيد المهني، وهي علامة قوة وليس علامة ضعف، وتلك لعمري سمة إنسانية لا يتمتع بها سوى من يسعى للتطهّر ومراجعة الماضي بصدق، دون أن يعني ذلك ما في تلك النزعة من مجاملة تأتي أحياناً على حساب التجربة والتاريخ والحقيقة، بل والمغالبة مع الهوى الصعب والنفس الحزينة.
اكتشفت في " الضفاف" ظرافة لا أعرفها عن الطاهر، وتفكّهاً محبّباً واستلطافاً ممتعاً وسخرية جميلة، ربّما يعود بعضها إلى "الحسجة الجنوبية" والتوريات، بين الظاهر والباطن والمعلن والمخفي، والمعنى وضدّه أحياناً، وتلك ما نطلق عليه حمّال الأوجه كما يقال.

III
سليل حضارات
ربما بعض أسفار الطاهر، وهي التي يحتويها كتابه على ضفاف الكتابة والحياة، إضافة إلى أرشيفه من الصور، ولاسيّما التي ضمت شخصيات أجنبية كانت وراء اهتمامه وانشغاله بحوار الحضارات، وهو الذي خَبِر ما تركه تصرفات بعض الإسلامويين من صورة سلبية ومشوّهة على الصعيد العالمي، تلك التي تم استغلالها على نحو بشع، خصوصاً بعد ارتكابات تنظيم القاعدة وربيبته تنظيم الدولة " داعش" وأخواتها، وخصوصاً تأثيراتها في الغرب، فهذه الصورة الملتبسة والمشوشة أصلاً والتي تتنازع فيها الرغبة في الاستعلاء من جانب الآخر ومحاولات الهيمنة وفرض النفوذ والاستتباع، من جهة، ومن الجهة الأخرى، السعي لتأمين المصالح ونهب الخيرات وسرقة الموارد والاستعباد وغير ذلك بجميع الطرق المشروعة وغير المشروعة، أقول فهذه الصورة تزداد قتامة وقبحاً كلما ترافقت مع أعمال إرهابية إجرامية باسم الإسلام أو المسلمين!!.
لقد زار الطاهر عشرات البلدان واختلط بأمم وشعوب كثيرة والتقى بالعديد من الشخصيات الرسمية والشعبية، سواء كانت في مجال الاعلام أو السياسة أو الجانب الإنساني، لذلك كان اهتمامه صميمياً، بل ومسؤولاً بفكرة حوار الحضارات، وقد يعود ذلك لشعوره أنه سليل حضارة أور وحضارة بلاد الرافدين، بابل وآشور، والحضارة العربية- الإسلامية، تلك التي سعى الاحتلال لتدميرها أو سرقة آثارها، ناهيكم عن المخطوطات والكنوز التاريخية التي تم العبث فيها، وهو الأمر الذي جعله يفكّر بأهمية حوار الحضارات بعدما شاع من نظريات تدعو إلى حتمية الصراع، ولاسيّما بعد انهيار الشيوعية، حيث وجد الغرب ضالته بعدو جديد هو الإسلام، مبرراً ذلك بضرورة صناعة العدو.

IV
صناعة العدو
هناك من قال في الغرب: إذا لا يوجد لنا عدو، فإننا سنخترعه أو نلفّقه، هكذا كان فرانسيس فوكوياما يفكّر في نظريته "نهاية التاريخ" التي بدأ بالتنظير لها في العام 1989 عشية انهيار النظام الاشتراكي العالمي ونهاية الحرب الباردة، وذلك حين بشّرنا بظفر الليبرالية التاريخي، وحين وقعت أحداث أيلول (سبتمبر) العام 2001 اعتبر ما حدث هو تأكيد لما ذهب إليه سابقاً، إذْ لا بدّ من تشديد الصراع لإحراز النصر النهائي وتحقيق "العالم الما بعد تاريخي" وإعلان انتصار الليبرالية (الجديدة) كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي على مستوى العالم.
أما صموئيل هنتغتون فقد دعا إلى تأصيل فكرة "صدام الحضارات" و"صراع الثقافات" التي بلورها في بحثه المنشور في مجلة الشؤون الدولية، وعاد وطوّرها في كتاب مستقل اشتهر به لاحقاً بالاسم ذاتها، حيث ذاع صيته ككتاب أو نظرية باسم The clash of Civilization ، فالصدام حسب وجهة نظره أمر محتوم ، خصوصاً وأن الإسلام بتراثه يعتبر العدو الجاهز الذي يقف عائقاً حيال سيادة الليبرالية، مثلما هي البوذية والكونفوشيوسية التي تواجه الحضارة المسيحية – اليهودية الغربية.
ويقول هنتنغتون " أن غياب العدو الشيوعي لا يعني زوال التهديد بالنسبة للولايات المتحدة والغرب. ولكي تحتفظ واشنطن بزعامة العالم، وجب عليها البقاء على أهبة الاستعداد، كقوة ضاربة للدفاع عن حضارة الغرب، ولهذا يتطلّب البقاء على القدرة الدفاعية والأمنية والمخابراتية والفضائية". ويتوصل هنتنغتون إلى استنتاج مفاده أن الصدام آت لا ريب وسيكون صدام حضارات وليس نهاية للتاريخ!.
إن هنتنعتون يختلف عن مجايليه بطرح الإشكالية، بكونها ثقافية حضارية، ولهذا فالصراع سيكون حضارياً ثقافياً بين الغرب والحضارة العربية الإسلامية. ويدرك هنتنغتون أن الثقافة هي سياج الهوّية، وبما أن الإسلام يمثّل ركناً هاماً في هوّية المسلمين، فإنه سيكون قادراً على التعبئة والتحريك الشاملين من المغرب إلى باكستان، بسبب تلك الهوّية، ولذلك اقتضى وضع حدّ له، ومنع تأثيره.
ويعزو هنتنغتون أسباب الصراع الحالي بين الغرب والإسلام إلى الصحوة الإسلامية، خصوصاً في أجواء العزلة الاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها العالم الإسلامي، والهوّة السحيقة التي تفصله عن وسائل الاتصال والتقارب العالمي، بما يؤدي إلى انتشار ظاهرة التطرّف والظلامية والأصولية والإرهاب.
للأسف الشديد لم يميّز هنتنغتون أو فوكوياما بين الإسلام كدين وحضارة وبين الجماعات المتطرفة والإرهابية،وهي موجودة في كل المجتمعات، وهي لا دين لها ولا لغة ولا جنسية ولا قومية ولا منطقة جغرافية تمثلها، فالحركات الإرهابية والمتطرّفة ترضع من ثدي واحد أساسه التعصب وإنكار الآخر والرغبة في التسيّد بغض النظر عن الدين، سواء كان الإسلام أو المسيحية أو اليهودية، أو حتى بدون دين، وهو ما حاولت الأفكار الفاشية والشمولية اعتماده وسيلة لإرغام الآخر، عبر ممارسات وأنظمة سلطوية.
ومثلما في بلاد المسلمين توجد حركات متطرّفة، فإنها في الغرب كذلك. وكانت بعض المنظمات الإرهابية الصهيونية قد تأسست حتى قبل تأسيس " دولة اسرئيل" في العام 1948، ومارست أعمالاً إرهابية وعنفية ضد العرب، مثلما هي منظمة الهاغانا التي تأسست في القدس العام 1921 والتي تحوّلت إلى "جيش الدفاع الإسرائيلي" لاحقاً و"منظمة الأرغوان" واختصارها " اتسل" (التنظيم العسكري القومي) التي أسسها مناحيم بيغن العام 1943 وحركة كاخ التي أسسها مائير كاهانا المهاجر من الولايات المتحدة إلى "إسرائيل" بعد عدوان 5 حزيران (يونيو) العام 1967.
إن الحضارة العربية- الإسلامية باعتبارها وعاءً ثقافياً للعرب والمسلمين وأحد أسس هوّيتهم، فإن هناك من يعتبرها نقيضاً للحضارة الغربية النصرانية واليهودية، ولهذا السبب فهي تهديد للغرب وللعالم المسيحي حسب وجهة النظر هذه، وينسى هؤلاء أن الحركات الإسلامية المتطرفة والمنغلقة والارهابية، شكّلت تهديداً لدولها ومجتمعاتها قبل أن تشكل تهديداً للغرب، بحكم احتدام الصراع السياسي والاجتماعي وضعف احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وبخاصة حرية التعبير وحق المعتقد والحق في التنظيم السياسي والمهني وضعف أو انعدام المشاركة السياسية في إدارة شؤون الحكم في الكثير من الأحيان.
وقد مارست تلك الحركات أعمال عنف منفلتة من عقالها ضد العديد من البلدان والشعوب العربية والإسلامية، بل إن القوى الغربية استخدمتها خدمة لمصالحها سواءً باسم المجاهدين الأفغان ضد الغزو السوفيتي أو فيما بعد ، ناهيكم عن دعمها للقوى الإسلاموية ضد النظام السوري وفي أماكن أخرى من العالمين العربي والإسلامي.
يقول هنتنغتون " إن الفرق بين الحضارات ليس فروقاً حقيقية فحسب، بل هي فروق أساسية أيضاً، فالحضارات تتمايز الواحدة عن الأخرى بالتاريخ واللغة والثقافة والتقاليد والأهم بالدين" ثم يمضي إلى القول ليؤكد هذا التمايز والصراع والصدام، وبخاصة عند الحديث عن الإسلام عندما يقول " ليس صحيحاً أن الإسلام لا يشكّل خطراً على الغرب، وأن المتطرفين الإسلاميين هم الخطر. إن تاريخ الإسلام خلال أربعة عشر قرناً يؤكد بأنه خطر على أية حضارة واجهها، خصوصاً المسيحية".
فأي فكرة استئصالية إلغائية تلك، التي يدعو لها هنتنغتون؟ أليس مثل تلك الفكرة استمرار في  التعكّز على إبقاء نار الصراع مشتعلة ومستمرة، بزعم إن الصراع تناحري ودائم ولا حلّ له إلاّ بالاستئصال والقضاء على الآخر؟ وبما أن الصراع كذلك فهي لا تريد البحث في المشتركات الإنسانية للتعايش والتواؤم، فضلاً عن إيجاد حلول للمختلفات، التي تعود أسبابها إلى منهج الاستعلاء وفرض الوصاية وعدم المساواة في العلاقات الدولية، ناهيكم عن هضم الحقوق، على صعيد الطغيان الخارجي والاستبداد الداخلي.
إن هنتنغتون يدعو إلى سيادة الغرب، خصوصاً وأنه " نجح في الإمساك بناصية المؤسسات الدولية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، مجلس الأمن.." ويضيف إلى ذلك " إن أي أمر يخدم مصالح الغرب تستجيب له هذه المؤسسات، وفي الأمر شواهد كثيرة: الحرب على العراق، العقوبات ضد ليبيا..." مما يؤكد الاتهامات العربية والإسلامية إزاء هذه المؤسسات التي أصبحت أكثر فأكثر " أداة" بين واشنطن في إملاء سياساتها وابتزاز دول العالم كافة، وبخاصة البلدان العربية والإسلامية.
وبهذا المعنى فإن هنتنغتون لا يدمغ أعمال المقاومة باعتبارها رديفاً للإرهاب فحسب، بل يعمم ذلك على الإسلام كدين والعرب كأمة، فهما رديفان للإرهاب أيضاً، ولذلك ليس عبثاً أن يتصدّر مصطلحاً جديداً السياسة الأمريكية في السنوات الأخيرة ويشمل الدول الإسلامية، التي يطلق عليها  "الدول الشريرة" أو "المارقة" Rogue states أي الدول غير المطيعة، أو التي لا تستجيب للمطالب الأمريكية، ولربما اعتبرت حُصناً جامحة لا بد من ترويضها وإعادتها إلى الحظيرة!.
V
التواصل والتفاعل أم التناقض والتعارض؟
ولمناقشة هذه الأطروحات فإن كاتبنا الطاهر بعد دحض  مثل هذه الأطروحات لا يذهب إلى النقيض أي بتأكيدها عبر تبنّي نقيضها، بل يحاول تفنيد أسسها الفكرية والثقافية، باحثاً عن المشتركات وكل ما هو جامع، بدلاً مما هو مفرّق، لاسيّما وأن الحاجة للتعاون والمصالح المشتركة هي التي تشكل القاسم الأعظم والذي ينبغي أن يسود في العلاقات الدولية، ولاسيّما عبر الحوار، بدلاً من صدام الحضارات وصراع الثقافات.
ويمكن القول، إن ثمة دواعي كثيرة تخصّ العالمين العربي والإسلامي، إضافة إلى الغرب تدعوهما إلى الحوار والتفاعل، بدلاً من الصدام والصراع، فكل منهما يحتاج إلى الآخر،وعالمنا الحالي لا يمكن العيش فيه بعزلة أو ارتيابية أو عدوانية وكأنه جزيرة منعزلة ونائية مهما كانت القدرات والإمكانات والخيرات المادية، إنه يحتاج إلى التنمية وإصلاح نظم الحكم والإقرار بالتعددية واحترام حقوق الإنسان، مثلما يحتاج إلى الاستقرار والسلام والتقدم، والخروج من دائرة التخلف، واختيار الطرق المناسبة لاستثمار الموارد والخيرات، كما يحتاج إلى الغرب الصناعي المتقدّم وإلى التكنولوجيا ومنجزات العلم ووسائل الاتصال الحديثة وتكنولوجيا المعلومات وغيرها، ولن يجد ذلك سوى في الغرب الذي هو المستودع الكبير للعلوم والتكنولوجيا والأدب والفن والعمران والحداثة والجمال.
كما أن الغرب هو الآخر بحاجة إلى موارد العرب وطاقاتهم وأسواقهم، ولن يتم ذلك عبر الازدراء أو النزعات الاستعلائية أو الإقصاء أو التهميش ومحاولات فرض الإرادة والهيمنة وإخضاع العالمين العربي والإسلامي، بل يمكن أن يتم ذلك باحترام الآخر والتعايش والتعاون والحوار والمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، وفي وضع يتسم باحترام الخصوصية والحقوق، مثلما يتطلب الأمر إيجاد حلول عادلة لمشكلات مستعصية في المنطقة وأساسها للقضية الفلسطينية، التي لن تجد حلاً عادلاً وسلمياً دون تأمين حق تقرير المصير للشعب العربي وعودة اللاجئين وتعويضهم وإقامة الدولة الوطنية الفلسطينية وعاصمتها القدس، وذلك كمعيار للحد الأدنى ضمن توازن القوى الدولي، ومثل هذه الحلول تساعد على تصحيح مسار جزء من العلاقات الدولية والانحيازات المسبقة لإسرائيل على حساب الحقوق العربية المشروعة.
إن الحوار وهو مظهر حضاري ينسجم مع التعاليم الإسلامية، وقد ورد في القرآن الكريم ما يدلّ عليه، فضلاً عن السيرة النبوية، كما إنه يشكّل ركناً مهماً من الثقافة الغربية التي تؤمن باحترام الآخر والتعددية والتنوّع، وغيرها من قيم الحداثة والعقلانية، إضافة إلى المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، الأمر الذي يقتضي التعاون والتعايش والسلام الحقيقي.
إن الحوار يعكس رغبة في التفاهم، كما أنه لا يلغي عنصر الاختلاف والتمايز والخصوصية. وكانت نزعات الصدام وسباق التسلح وخيمة على البشرية، حيث تم فيها هدر مليارات الدولارات والموارد والطاقات البشرية في ماراثون جنوني للهيمنة وفرض الإرادة، ودفعت الشعوب ثمناً باهظاً بسبب الحرب الباردة، فلو صرفت تلك المبالغ التي خصصت للتسلح، لكانت الكثير من الأمراض قد اختفت والفقر والأمية قد تقلّصت وحياة الناس قد تحسّنت، والرفاهية قد عمّت، ولأمكن إيجاد حلول ومعالجات لأمراض الإيدز وقضايا البيئة والتصحر ولبذل الجهد أكثر لاكتشاف الفضاء ودخول عالمه على نحو كبير .
إن الخصوصية القومية والثقافية والدينية للعرب والمسلمين بالقدر الذي ينبغي مراعاتها وتعزيزها بوجه محاولات " الإلغاء" و" التهميش" و"الإلحاق" بحجة " الشمولية" و" العالمية"، لكنها لا ينبغي أن تكون وسيلة للانتقاص من المعايير الدولية، خصوصاً في القضايا الأكثر راهنية وإلحاحاً بما أبدعه الفكر الإنساني وما توصلت إليه البشرية، من مثل وقيم تخص الإنسان وحقوقه.ولعلّ ذلك ما حاولنا معالجته في كتابنا الموسوم " الإنسان هو الأصل" الصادر في القاهرة في العام 2002.
فالخصوصية تعني، التنوّع الاجتماعي والثقافي والديني والسياسي والتاريخي لأمة ما أو مجتمع ما أو جماعة قومية أو أثنية، كما أنها تعني العقلية Mentality والتقاليد بين شعوب وبلدان وتفاعل ثقافات وأمم وأقوام، وهي بقدر تناغهما مع الفكر العالمي، الشمولي، الكوني، تستطيع التعبير عن تمايزها وتفرّدها وخصائصها كشعب أو أمة  أو مجتمع ، ففكرة حقوق الإنسان حيكت من نسيج الفكر البشري وبمصادره المختلفة، وهي ليست محصورة بقارة أو حضارة أو أمة أو شعب. وبهذا المعنى فالخصوصية لا تستهدف الانغلاق أو التصادم مع الحضارات الأخرى والارتياب منها، كما أن الحداثة والتواصل الحضاري، لا يعني قبول منطق الوصاية أو التبعية الفكرية.
إن التفاعل يمدّ جسوراً بين الأصالة والحداثة، وبين التراث والمعاصرة، بين ما هو خاص وما هو عام وبين ما هو عربي وإسلامي وما هو عالمي وشمولي، ولن يكون ذلك بنهاية التاريخ أو بصراع الحضارات ، بل الانفتاح وإعادة ربط المصالح بروح من التسامح والبعد الإنساني وروح المشاركة الدولية في صنع المستقبل الإنساني.
وفي ظل نظريات " صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" التي ناقشناها في كتابنا الموسوم " الإسلام والإرهاب الدولي- ثلاثية الثلاثاء الدامي: الدين ، القانون والسياسة" الصادر في لندن، العام 2002 والمطبوع في عمان طبعة ثانية في العام 2008، تعمّقت وتعززت فكرة الإسلامفوبيا،"الرهاب من الإسلام"، بل إنها أصبحت الآن ظاهرة مثيرة في الغرب، لاسيّما بعد بعض الأعمال الإرهابية، وبهذا المعنى أخذت ترتفع موجة التعصّب والتطرّف في الغرب من الجماعات الفاشية واليمينية لتدمغ عموم المسلمين بالإرهاب والعنف ولإشاعة جو مشحون بالكراهية، وهي جزء من كراهية الأجانب في الغرب المعروفة باسم الزينوفوبيا Xenophobia، وهو ما يعود بنا إلى هنتنغتون الذي اعتبر الصراع ينشأ على امتداد خطوط مجابهة قائمة تاريخياً.
وبالمناسبة فقد أدان مؤتمر ديربن (جنوب أفريقيا) حول العنصرية العام 2001 ، فكرة كراهية الأجانب، مثلما أدان الممارسات "الإسرائيلية" ودمغها بالعنصرية، لكن أحداث 11 أيلول (سبتمبر) التي وقعت بعد أيام، حوّلت الاهتمام إلى ملف الإرهاب خصوصاً وأن المتهم الأساسي كان  تنظيم القاعدة وأن المنفذين كانوا يحملون جنسيات عربية.
إن هنتنغتون الذي يفيض في أطروحاته عن خطر الإسلام، مغلفاً أفكاره بآيديولوجيا سياسية عن الأصولية الإسلامية، وهي الفزّاعة التي حاول أن يلوّح بها دليلاً على إرهاب العالم الإسلامي كله، لا نراه يتحدّث شيئاً عن الأصولية المسيحية، وبخاصة في أمريكا، ولا عن الأصولية اليهودية في إسرائيل وخارجها.
وإذا كانت الأصولية الإسلامية بمعنى التطرّف والتعصّب وإقصاء الآخر في عداء مع فكرة الحداثة والعلمانية باعتبارهما، ضمانتين للحرية واحترام حقوق الإنسان، وشرطاً من شروط حماية حقوق الفرد بوجه تغوّل السلطات، فإن الأصولية المسيحية واليهودية لا تقلان عداءً وتطرفاً وتعصباً، بل وإلغاءً للآخر وتحريمه وتأثيمه، وقد أظهرت هذه الأصولية في أوروبا عداءً سافراً للعرب والمسلمين باستغلال أحداث شارلي إيبدو التي وقعت في باريس  يوم  7 كانون الثاني (يناير) العام 2015، مثلما كانت ضالتها في فلسطين عبر عمليات تهجير وإجلاء لتحويل " إسرائيل" إلى دولة يهودية نقية.
VI
أبلسة الإسلام و"الآخر"
ويحاول الطاهر مناقشة التوجهات السائدة في الغرب والتي تشكل سياسات رسمية لدول وحكومات سعت لتجريم العالم العربي والإسلامي وشعوباً وأمماً بكاملها سواءً تحت يافطة " الشيطان الأحمر" سابقاً، أو " الشيطان الأصفر" لاحقاً أو " الشيطان الأخضر" حالياً بتبنّي أطروحات  أو مبرّرات يمكن بموجبها الاستنجاد بالمنقذ الأمريكي – الصهيوني بوجه محور الشر والإرهاب، تلك الرقصة الأثيرة التي على إيقاعها جرى احتلال العراق في العام 2003.
هكذا إذن يكون العالم الإسلامي بما فيه من تنوّع واختلاف وتناقض مثلما هو الغرب أيضاً، كله عدائياً ويستحق المجابهة والتذويب أو الاقتلاع. فالعداء لم يشمل بعض الحركات والتيارات المتطرفة والمتعصبة، بل يشمل شعوباً مسلمة بالكامل أو القسم الأكبر منها، وهو ما دعا مستشار مارغريت تاتشر الفريد شيرمان أن يكتب عام 1993 مقالة بعنوان " الزحف الإسلامي الجديد على أوروبا" ملوّحاً بما يسمّى بـ " الخطر الإسلامي"، وهو الأمر الذي يتجدد اليوم بعد حادث شارلي إيبدو واغتيال 12 صحافياً فرنسياً في حادثة مروعة، إضافة إلى تمدّد داعش وتلويحها بالقيام بأعمال إرهابية في عدد من البلدان الغربية .
يقول شيرمان " هناك خطر إسلامي على أوروبا المسيحية، إنه يتطور ببطأ وما زال بالإمكان لجمه ولكن سياسات القوى الغربية فعلت كل ما يمكن تقريباً لمساعدته على التنامي" ، ثم يحدد العوامل التي أوجدت هذا الخطر ويجملها بأربعة، هي :
1-" سياسات هجرة لا مسؤولة تماماً في أوروبا الغربية والوسطى خلقت بسرعة أقلية متزايدة التطرف، من قبل 15 مليون مسلم هنا، ولذلك ترتفع اليوم أصوات اليمين في فرنسا وألمانيا وبريطانيا والسويد والدانيمارك وهولندا وبلجيكا وغيرها تدعو إلى مواجهة الإسلاميين ومنع الهجرة.
2- استبعاد تركيا من الانضمام إلى الجماعة الاقتصادية الأوروبية.
3- سياسة ألمانيا لمجابهة البلقان، لتفكيك يوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وإخماد صربيا.
4- دعم الفاتيكان لهذه السياسة وغزل البابا المتواصل مع الدول العربية، والمقصود من ذلك الموقف التاريخي الإيجابي من حقوق الشعب العربي الفلسطيني  من جانب الفاتيكان.
ويرد الباحث والمفكر البريطاني الفريد هاليداي في كتابه المعنون " الإسلام والغرب: خرافة المواجهة" الصادر في العام 1997، وفي كتابه "ساعتان هزتا العالم" الصادر في العام 2002، على الأطروحات التي تريد التهويل من خطر الإسلام، خصوصاً تلك التي أعطت حيزاً كبيراً لنظرية هنتنغتون وللأحكام التبسيطية التي تتوصل إليها باستحضارات الثقافة باعتبارها موضوع جدل والاختلاف المتأصل بين الشرق والغرب وبين الدول باعتبار ذلك أمر حتمي بالقول:" إن هذه النظرة عن العالم ليست وليدة عداء الغرب للإسلام أو أنها وصمة ألصقها ( الغرب) بالمسلمين فحسب، إذ أن هناك البعض، بل هناك كثيرين في العالم الإسلامي وبين المسلمين في أوروبا الغربية، ممن يعتنقون هذه الديماغوجية، وقد سارعوا للاستجابة بهذه الروح ذاتها لأحداث الثلاثاء، وهم يرحّبون بتحليلات صموئيل هنتنغتون التبسيطية، كما يرحّب بها الكثير من القوميين في الغرب ..."
وهو ما دعا إليه أيضاً فرانسيس فوكوياما وهو ما يمكن الإضاءة عليه، لاسيّما بتقسيم العالم إلى قسمين: عالم التاريخ وعالم ما بعد التاريخ. والأخير هو عالم الدول الصناعية المتقدمة. ويطرح فوكوياما مشكلات النفط والإرهاب واللاجئين باعتبارها المشاكل الرئيسة التي تواجه العالم " الجديد".
إن اللاجئين الذين ينتقلون من عالم التاريخ " الدول المتخلفة" إلى عالم ما بعد التاريخ "الدول المتقدمة" هو انتقال من الجنوب " الفقير" إلى الشمال " الغني" ومعهم ينتقل "فايروس" الإرهاب. ويعتقد فوكوياما أن عالم ما بعد التاريخ، هو الذي يحقق العدالة والإنسانية بفضل قوته الصناعية وتقدّمه. وما على الآخرين إلا التسّليم لهذا العالم الما بعد تاريخي، والانخراط به إذا كا يريدون السير في درب التقدم والحضارة.
ويتوصل فوكوياما إلى استنتاج مفاده: ظفر الغرب والليبرالية  السياسية والاقتصادية، كخيار إنساني ووحيد، وشكل أخير من أشكال إدارة المجتمع البشري، معلناً الهزيمة المطلقة للخيارات الأخرى، مشدّداً أننا لا نشهد نهاية للحرب الباردة أو أية مرحلة من مراحل التاريخ، بل " نهاية للتاريخ".
وإذا كان فوكوياما قد دحض الخيارات الأخرى، خصوصاً الخيار الاشتراكي أو الماركسي إلاّ أنه استعار فكرة نهاية التاريخ منه، وذلك بإمكانية وضع حد للاستغلال في المرحلة الشيوعية التي هي نهاية تعاقب المراحل التاريخية، كما إن هيغل، هو الآخر استخدم مفهوم نهاية التاريخ، حيث آمن بوصول التاريخ إلى الذروة في لحظة مطلقة، تلك التي يطلق عليها "انتصار الشكل العقلاني النهائي للمجتمع والدولة".
وهكذا فإن فوكوياما يستخدم عدسة ماركس، ويستعير نظارة هيغل، ليثبت نظريته "بنهاية التاريخ" بعد أن يحاول إبطال المفاهيم التي سبقته، خصوصاً الحتميات الهيغلية- الماركسية، التي شكلت جزءًا مهماً من المتاع الثقافي في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين وما بعدها لأوساط واسعة، بل إنها طبعت الصراع الآيديولوجي وفترة الحرب الباردة بطابعها.
ويقرّر فوكوياما حتميته الجديدة، بعد أن يجهز على الحتميات القديمة، بوصف شكل الدولة التي ستظهر في نهاية التاريخ والتي يطلق عليها اسم الدولة الليبرالية، لأنها " ستعترف وتحمي قانونياً: حقوق الإنسان العامة، بالحرية والديمقراطية، ولأنها لا يمكن أن توجد إلا بموافقة أولئك الذين تحكمهم"...ولكي تسود حتمية فوكوياما فقد دعا إلى نقل البندقية من الكتف اليسرى إلى الكتف اليمنى، والبقاء على أهبة الاستعداد، فأمريكا زعيمة الليبرالية قد تخلصت من عدوها التقليدي، ممثلاً "بالشيوعية الدولية" إلاّ أن الخطر كل الخطر في أن تخلد إلى الراحة أو الاسترخاء (هي وحلفاؤها بالطبع) لأن هذا سيولد نوعاً من الفراغ، الذي عليها أن تملأه ببديل إذا ما أريد للتاريخ أن يظل مملوءًا أو فاعلاً، فالتاريخ كالطبيعة يموت في الفراغ، والإسلام سيثقل ويعطل النهاية الحتمية للتاريخ، وبداية عهد ما بعد التاريخ.
إن فوكوياما الذي أثار جدلاً كبيراً حول نظرية " نهاية التاريخ" فإنه عاد في كتابه الجديد " Our Posthuman Future: Consequences of the Biotechnology Revolution " (مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية) الصادر العام 2002 إلى اعتبار أن التاريخ لا يمكن أن تكون له نهاية ما دام أن العلم مستمر في تحقيق تقدم سريع ومذهل، حيث أشار ردّاً على صحيفة الهيرالدتربيون: إن أيسر طريقة لفهم أطروحته الجديدة هي إدراك الجانب السياسي للتكنولوجيا. وإذا كانت التكنولوجيا والمعلومات قد أضفت قدراً كبيراً من التأثير على الديمقراطية السياسية والليبرالية، فإن التكنولوجيا الحيوية من الممكن أن توفّر مجموعة أدوات للسيطرة والهيمنة في السلوك الاجتماعي.
وذهب فوكوياما إلى اعتبار الأدوية الجينية التي يتم إنتاجها لحقن أثر التفاعلات المناعية لكل مريض على حدة تحقق تقدّماً واعداً في المستقبل، وقال أن العالم سيشهد خلال عشر سنوات قادمة ظهور العديد من الأدوية المختلفة التي من خلالها يتم تحسين الذاكرة وزيادة الذكاء.
VII
أسئلة في بطن أسئلة
يحاول عكاب سالم الطاهر أن يجيب على أسئلة طرحها على أنفسه وعلى القرّاء، حول معنى الخلاف والاختلاف، وهل الحوار مناظرة؟ إضافة إلى إضاءته على مخاطر صدام الحضارات ، ثم لماذا هذا الصدام؟ وبعد ذلك كيف نتجنّب الصدام؟ ويسلّط الضوء حول طبيعة الصراع في القرنين التاسع عشر والعشرين، فإذا كان الصراع قومياً بمعنى نشوء الدولة القومية والصراع آيديولوجياً عقائدياً في القرن العشرين، لاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية وبداية عهد الحرب الباردة، فإنه يردّ على اتجاهات الغرب بأن الصراع أصبح حضارياً بمعنى دينياً حسب فوكوياما وهنتنغتون، لأنه في كل الأحوال صراع مصالح، أما الأديان أو أتباعها وهو الصحيح، فإن مجال علاقاتها يقع في مكان آخر، وحتى ما يسمى بالحروب الصليبية  لم تكن حروباً دينية بقدر ما هي حروب اقتصادية وعسكرية، وأن هدفها هو المصالح، ولذلك نطلق عليها اسم "حروب الفرنجة" وليست الحروب الصليبية.
إن " إسرائيل" التي تدعو لدولة يهودية نقية تريد تصوير الصراع الدائر في المنطقة، باعتباره صراعاً دينياً بين يهود وهم بضعة ملايين، وأقلية محاطة ببحر من المسلمين، يقدّر عددهم بنحو مليار ونصف المليار ، يريدون ابتلاعها، وما على الغرب باعتبارها جزء من حضارته الاّ حمايتها، على الرغم من أنها هي التي تشن العدوان والحروب ضد العرب منذ قيامها في العام 1948 ولحد الآن.
وتسعى "إسرائيل" وتشجع على هجرة المسيحيين سواء من فلسطين، أو من البلدان العربية من العراق وسوريا ولبنان ومصر، لكي تقول أن العالم العربي – الإسلامي لم يتحمّل حتى المسيحيين أهل البلاد الأصليين، وأقدم من المسلمين على هذه الأرض، فما بالك باليهود، ولهذا فهي تشجّع على تقسيم العالم العربي باعتباره كياناً مصطنعاً إلى أديان وطوائف وشعوب وإثنيات، لا يجمعها جامع، وكانت هي أكثر من روّج لأطروحة برنارد لويس الذي دعا إلى تقسيم العالم العربي إلى 41 كياناً دينياً ومذهبياً وإثنياً وجغرافياً، ولفكرة هنري كيسنجر الذي قال في سبعينيات القرن الماضي: علينا أن نخلق دويلة وراء كل بئر نفطي، وقد وجدت في تلك الأطروحات ضالتها لاسيّما وأن مقارباتها كانت قد طُرحت من جانب دايفيد بن غوريون أول رئيس وزراء "لإسرائيل" وأحد آباء الحركة الصهيونية المعاصرة.
ولعلّ "دولة داعش" اليوم هي الوجه الآخر لفكرة الدولة الدينية النقية، بل إننا لا يمكن أن نهمل رواج دعوة الدولة النقية اليهودية في الوقت الذي تحركت فيه الدولة الإسلاموية " داعش"، لتعلن الخلافة وتطالب الآخرين بالبيعة والولاء .
وإذا كانت الدولة اليهودية النقية تريد طرد العرب الفلسطينيين مسلمين ومسيحيين ودروز وغيرهم من فلسطين، وهم سكان البلاد الأصليون الذين يؤلفون اليوم 20% من السكان،  فإن الدولة الداعشية هي الأخرى لا تقبل بالآخر ، مهما كان دينه أو مذهبه حتى وإن كان من المسلمين من أي صنف أو فرقة أخرى، وتطالب الجميع بالولاء والطاعة والبيعة، فما بالك بالمسيحيين والإيزيديين والشبك، إضافة إلى التركمان والعرب والكرد، فأتباع الديانات عليهم جميعاً أما التأسلم حسب الطريقة الداعشية أو دفع الجزية أو الرحيل وإلاّ فإن التوابيت تنتظرهم.
بهجرة المسيحيين من فلسطين، فإن "إسرائيل" تريد إرسال رسالة تقول فيها لاحظوا أن الصراع دينياً بين اليهود والمسلمين، وهي بذلك تهدف إلى  عزل المسيحيين والدروز عن الكفاح من أجل حق تقرير المصير للشعب العربي الفلسطيني وحق اللاجئين بالعودة والتعويض مسلمين أو مسيحيين أو دروز أو غير ذلك، وإن الصراع هو وطني من أجل الحقوق، ولاسيّما الأرض والسيادة والإنسان، وليس صراعاً دينياً بين يهود ومسلمين.
VIII
في جذر الصدام
يحاول عكاب الطاهر ردّاً على أطروحات الصدام أن يعتبر الحضارات جزءًا مكملاً الواحد للآخر، فيدعو إلى تعارفها وتفاعلها، متوقّفاً عند أمم عملاقة قامت في مواجهة  أوروبا المدنية، مندّداً بالصيغة الواحدية، باحثاً في الاستشراق بشكل عام والروسي بشكل خاص والاستعمار وتبعاته التاريخية، داعياً للاعتذار والتعويض واسترداد الثروات وبناء أسس جديدة للعلاقات الدولية، وذلك ما يختم به فصوله السبعة، بفصل ثامن عن حوار الحضارات، مع فصل تاسع للعرض والتحليل، لكل ما تقدّم ذكره.
إضاءات
كتاب عكاب سالم الطاهر احتوى على إضاءات مهمة لفكرة حوار الحضارات وصدامها، وبقدر محاولته الإجابة على عدد من الأطروحات والإشكاليات، فإنه أثار أسئلة أخرى تحتاج إلى المزيد من التبصّر والتفكّر والتدبّر، خارج اليقينيات التقليدية والانحيازات المسبقة والمسلّمات الجاهزة. إنه كتاب يمنحك قدرة على التأمل بهدوء ولكن بمسؤولية.