المحرر موضوع: الزَنبقْ الأبيض الدَاميّ  (زيارة 872 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل سـلوان سـاكو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 454
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
                          الزنَبقْ الأبيضّ الداميَ
توطئةْ
حين عزمتْ على كتابة أدب القصة القصيرة أرتُ بذلك تخطي السردّ النمطي التقليدي للنصْ المكتوب، وتهميش تلك الحواجز بين الكاتب والقارئ ، وكَسر التابوهات من القوالب الأخلاقية الجاهزة التي حُشر في داخلها العقل البشري والتي كبلتْ يديه في المُضيَ قدُماً ، والخروج من دائرة التكرار والجمود، في نصوص تلاُمس الواقع المُعاشْ في تفاصيله، وشخصيات مُهمشة أجتماعياً نتعايش معها كل يوم وأن كانت تخفي في طياتها ما قيحّ  الجروحّْ من ألالم وأذابت الروح من السَقمُّ ، وتكاثرت عليها المحَنْ والشدائد حتى أوهنتها.
راودتني فكرة كتابة (الزنبق الأبيض الدامي) وهي من جنسْ القصة القصيرة ، والتي نويتُ نشرها على فصلان ، لبطل مُتخيَل من بنات أفكاري ، أقحمته الحياة  رغماً عنه في عالم موغل بألام والبؤس ، مرتبطة بمسارات مختلفة وبتحولات كبيرة ، تُصادف البطل ذاته ، والذي كان يتصور أن العالم عبارة عن يوتوبيا وعالم طوباوي لا وجود للشرّ به ابداً. تتداخل هُنا الصور الممزوجة  بالفرح  والحزن في لوحة تختلط بها المشاعر المتناقضة وتتمحور عبر سيَلّ جارف من الاحداث السريعة في فترة زمنية قصيرة نسبياً. وهُنا كان لابد من الولوج الى تلك الزواية المُظلمة في داخل النفسْ البشرية التي تتوقّ الى من يسبرْ أغوارها ويزيح النقاب عنها وتحريرها من أصفادها، والذي تتطلب الأمر في بعض الحالات الأستعانة  بالخيال الروائي ، وكما قال خورخي لويس بورخيس ( إننا بحاجة إلى الخيال كي نواجه تلك الفظاعات التي تفرضها علينا الأشياء). وأخيراً كان لابد في كتابة هذا السرد القصَصي والحبكة الدرامية من بعض المشاهد الجنسية لإعطاء الأبطال حقهم الكامل ، وأقناع المُتلقي أن الأحداث واقعية.
سوفة نُشاهد في نهاية القصةْ أسئلة خفية بين ثنايا السطور ، تتصارع بهدوء داخل سعد البطل وهو ينظر الى العالم من زاوية أخرى بعد أن أستقر به المقام في دير للرهبان ، لعلة أبرزها يتعلق بذات الأنسان، وجوهره والمعنى الحقيقي من وجوده.

 
                               الفصل الأول

         طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السماوات   
                                                           متى

ليست الحياة خيرة أو شريرة ، بل هي مجرد مكان للخير والشر .
                                           ( ماركوس أوريليوس )

ثلاجة الموتى الباردة داخل مشرحة الطب العدلي ، يسحب الموظف الدرج الألي ويفتح سحاب كيس رمادي اللون فتظهر جثة مُتجمدة عليها علامات طعن بالسكين ، يطلب الشرطي منه أن يتعرف على ملامح المطعون، حين يشُاهد سعد الوجه يقع مغشياً عليه.

ساحة المرجة ، وسط العاصمة  السورية دمشق . ضجيج  السيارات وصُراخ الباعة  المتجولين ، وطرقْ مساحين الأحذية على صناديقهم يعلو في صخب يمتزج مع  وصوت عامل النظافة العجوز يلعن كل من يرمي القمُامة على الارض .. على المقهى المُطل على نصب برج الساحة الذي شَّيدَ عام 1907 على أيام الوالي العثماني حسين ناظم باشا وتصميم الفنان الايطالي بابلو روسيني وفي أعلاه ينتصب مجسم لجامع هو الاصغر في العالم .. جلس سعد يشرب الشاي وهو يفكر في أتصال جاءه من  أخيه الاصغر كرم الذي يعيش في فرنسا منذو أحد عشر عام ، يبُشره خيراً ، حيث أن أجراءات الفيزا قد أخذت مجراها الصحيح ، وقد تنتهى خلال الاسابيع القليلة القادمة ، ويجب على سعد أن يكون قريب من هاتفه النقال، فلا يعرف متى تتصل به السفارة الفرنسية في دمشق. وأضاف كرم لأخيه أنه أرسل له مبلغ من المال لتيسير أمره وتهيئة الأمتعى خلال هذه الفترة .
سعد رجل في بداية الخمسين من العمر، متوسط الطول، ذو وجه دائري ، خفيف الشعر، يملك عينان غائرتان  قليلاً  ،ممتلئ الجسم ، شمس البصرة الحارقة قد جعلت ملامحه سمراء تميل الى السواد في بعض الاحيان ، طيب القلب ، أو هكذا يراه أصحابه على الاقل . بعد دراسة صباحية  ومسائية تخرج من كلية الأدارة والاقتصاد جامعة البصرة . تزوج من ابنة خاله ،  هو كان يحبها ومتعلق به كثيراً ، أمه بذلت جهوداً جبارة في سبيل تحقيق رغبات أبنها ، حيث  كانت الفتاة  تحب بائع الخضار الجوال في الحي ، التي كانت تخرج على إقاع صوته الشجي حين ينادي على بضاعته ، ويفتعل أصوات وألحان خاصة لها .. ولكن تحت ضغط العائلة والاخوة تزوجت سعد بالاكراه. ولكن كان قلبها ورواحها عند زاهر  بائع الخضار . كان الزوج  يُلبي كل طلبات زوجته ويدللها وينفذ كل ما تريده وهو سعيد بذلك. الى أن جاء ذلك اليوم ، وهو عائداً الى البيت مبكراً على غير عدته .. حيث كان يعمل محاسب  في مطعم وسط منطقة العشار، نفذت اسطوانات الغاز، فقرر صاحبه  أن يغلق المطعم ذلك النهار.. قبل أن يتوجه سعد الى البيت  ذهب الى السوق واشترى بعض  الخضَر والفواكه الطازجة حيث كانت زوجته تحب الموز .. وقال في سرهَ عسى أن تكون حامل وهي تتوحم على الموز، هكذا كان يفكر وهو في سيارة الاجرة . حين وصل الى البيت ، فتح سعد الباب ودخل الى المطبخ أستغرب من هدوء المكان ، نادا على زوجته ولكنها لم تسمع ، ترك الاكياس على الطاولة الصغيرة التي في المطبخ واقترب اكثر من غرفة نومهم، حيث كان البيت صغير مكون من غرفتان وصالون مع حمام ومطبخ صغير .. حين ذهب سعد لخطبتها  أول شيئ طلبته  هو أن يأخذ لها مسكن خاص حتى وأن كان أيجار ، المهم أن يكونان  لوحدهم ، هكذا قالت أو كانت تخطط مع عشيقها على المكان الذي يلتقون به . سمع سعد صوت تأوهات تصدر من غرفته فسترق السمع ووضع أذنه على الباب الخشبي فسمع رجل يلهث ويقول بصوت شبق ، هذه المرة سوفة أتيكِ من الدبر أستديري . هُنا جنا جنونه وعلى الفور أدار أكرة الباب، ولم يكن مُغلق فشاهد زوجته مع بائع الخضار في السرير عاريين تماماً ، أهاله المشهد الفضيع وتجمدة الدماء في عروقه  من الصدمة ، وكادت روحه تُغادر المكان.  ما أن شاهد العشيقان  سعد واقف في وسط الغرفة ينظر لهم حتى لفت كواكب نفسها بالشرشف ، في هذه الثواني كان زاهر يفكر في كيفية الخلاص من هذه الورطة بأسرع طريقة ممكنة.... زوجة سعد المخلصة في نظره والتي كان يفكر قبل دقائق انها حامل ، هي الان مع شخص غريب وفي سريره  واصواتهم الشبقية تَملَأ أركان المنزل ، فجأة وبحركة بهلوانية خفيفة  وثبة زاهر من على السرير واخذ ملابسه الداخلية والخارجية وحذائه ليهرب خارجاً ، سعد حين رأه يقفز حاول أن يصده ، ولكن الشاب كان قوي البنية  فدفعه ارضاً بقوة وجرى نحو صالة البيت ارتدى ما يمكن ارتدائه وأكمل الباقي في الممر الواصل من المطبخ الى باب البيت  الخارجي ، حين أصبح خارج السكن سار بشكل عادي  كأنة شيئاً لم يحدث .. حتى النسوة الجالسات عند الابواب لم تنتبه له. في هذه الاثناء كان سعد يحاول النحوض من كبوته ويهجمْ على  زوجته لضربها ، ولكن كانت كالهرة الخائفة حيث قفزت من على السرير وهي عارية ، حاول مسكها ولكن كانت هي اسرع منه .. على الطاولة القربية من السرير كانت هناك زجاجة ويسكي فارغة التي شربها ليلة أمس ، فأخذتها وصوبتها نحوه ، كانت الضربة سديدة فجاءت القنينة على رأسه وهو واقف،  فوقع مغشياً عليه .. أرتدت كواكب ملابسها وأخذت حقيبتها الصغيرة  وخرجت من المنزل مسرعة الخطى  متوجه نحو أهلها في منطقة الطويسة.. في بيت الأهل وبين الاخوة والأب والأم ، أدعت أنها حين عادت من السواق الى المنزل رأت سعد مع أمرأة في غرفة النوم وهم  ويمارسون الجنس ، فصرخت عليه وضربته بالحذاء وبصقت في وجهه وخرجت من البيت .. أخذتها الأم بين أحضانها وهي تبكي ، وقالت أنه رجل سافل أنسان حقير من أول يوم لم أكن موافقة على هذا الزواج ولكن ماذا أفعل لعمتكِ تلك الحرباء .  الأب أرغى وأزَبد وقال سوفة يطلقكِ فوراً .. أراد أحد الاخوة أن يذهب الى بيت سعد ويضربه ولكن منعه الاب وقال وهو واثق من نفسه سوفة نأخذ حقنا في المحاكم.
بعد نصف ساعة أفاق الزوج من غيبوبته ، واضَعَاً يده اليسرى على جبينه محاولاً تذكر ما حصل .. اجال ببصره في أرجاء الغرفة فرأها مبعثرة ، حاول النهوض من بين  بقايا الزجاج المُحطم على ملابسه ، فنفضها وقام جالساً على الكرسي القريب .. أخذ جهاز الموبايل وتصل على هاتف زوجته ولكن كان مغلق ، أتصل على خط أخيها ورد هذا عليه شاتماً ومتوعداً ، أراد سعد أن يقول له أن اخته هي المذنبة ولكن الاخ لم يسمعه، فصرخ عليه بشدة وأغلق الجهاز في وجهه .. في هذه الاثناء كانت الاخبار قد انتشرت بين الأسرتان،  أن الزوجة قد ضبطت الزوج متلبساً بالخيانة في غرفتهم .. حاول هو أن يقول الحقيقة ولكن كانت هي بكيدها ودموعها قد أقنعت أهلها ، بعد تهديد ووعود  بين العائلتين  المتُصاهرة وتحت ضغط أهله لم يجد سعد سوى أن يرضخ لطلبهم فطلق كواكب  بعد مرور شهر على الحادث .. قرر سعد  بعد هذه الصدمة التي سوفة  تكون جرحاً واسعاً في حياته ، أن يسافر الى سوريا ومن هناك وبمساعدة أخوه الاصغر منه كرم يرحل الى فرنسا أو هكذا كان يخطط  لرسم طريقه .. كواكب بعد الطلاق أخذت راحتها مع العشيق فكان يتقابلان كل ما سمحت لهم الظروف عند محل أسكافي يملكه  قريب زاهر بائع الخضار  ، وفي أحيان أخرى كان يراها في   الحدائق العامة اذا أمكن مع قيض البصرة الذي لا يحتمل .. الى أن جاء ذلك اليوم وهو متوجه فجراً الى علوة الخضار الكبيرة كعادته كل فجر للتسوق  ، فمر رتل للقوات البريطانية المتواجدة في مدينة البصرة متوجها الى ثكناتها العسكرية ،عبوة ناسفة مزروعة  في طريق الرتل ، خطأ في التوقيت أخر أنفجارها عليهم، حين مرّ زاهر مع  سائق سيارة البيك أب أنفجرت العبوة عليهم فأصبحوا أشلاء متناثرة في الهواء ولم يبقى شيء ، لا من الجسدان ولا من السيارة.
كواكب بعد حادث عشيقها المروع ، فقدت الرجل الذي يحرث لها أرضها ويرويها ، وهي تعرف تضاريس جسدها الثائر الذي لا يصبر بدون رجال ، فتزوجت من أول  شخص يطرق باب بيتهم .
                                    ***
عاد سعد الى مسكنه في مدينة جرمانا بريف دمشق ، كان مكون من غرفة واحدة في الطابق الأرضي ، مع حمام صغير ومطبخ، يفصلهم عن بقية الغرفة حاجز من خشبي ، كانت العمارة ملك لعائلة درزية تسكن في الطابق الثاني . في ركن المطبخ الصغير يوجد اسطوانة غاز صغيرة  مع كيس سكر وحليب وشاي وبعض الخبز الذي تعفن بسبب تركه هنالك، فهو دائم الأكل خارجاً .. على الرفّ المقابل بعض الكتب التي جلبها معه من العراق ، أخذ ديوان لمحمود درويش سرير الغريبة وفتحه على قصيدة  لم أنتظر أحداً واراد ان يقرأ ولكن لم يستطيع  بسبب بائع الماء الجوال ذو الصوت الحزين  الذي يضع مكبر صوت في مقدمة سيارته.  رمة الكتاب جانباً ووضع أبريق الشاي على رأس أسطوانة الغاز،  ورتمه على السرير وبيده قدح الشاي الاسود  وبدأ يفكر الى أن غلبه النعاس . صحة مع أذان العشاء غسل وجهه ، وارتدى ملابسه وخرج الى سوق المدينة حيث يتكاثر العراقيين ويسرون في افواج ، حتى أن بعض السوريين قالوا أن منطقة جرمانا تحولت الى حي من أحياء  بغداد. لم يجد أحد في عند ساحة السيوف  سوى واحد كان قد تعرف عليه في دائرة الهجرة والجوازات ولكن لم يوطد علاقته به كثيراً ، بعد حديث عابر وعادي عن الايقامة وترحيل العراقيين الذين لا يملكون ورقة الحماية من  الأمم  المتحدة  ومصاعب الهجرة، تركه ومضى.  في طريق العودة أشترى زجاجة ويسكي من النوع الرخيص وبعض المقبلات وعاد الى غرفته .. أدار التلفزيون على قناة  الافلام وبدأ يشرب بهدوء ويفكر في حياته و المستقبل المنتظر في فرنسا  ، حين داهمته هذه الفكرة أنتعش وصب المزيد الويسكي ، الى أن نام على المقعد والكأس بيده . جفل على رنة هاتفه النقال فقد دقّ أكثر من مرة وحين أرد المتُصل ان يغلق الخط  فتحه سعد فقد كانت السفارة الفرنسية في دمشق تبلغه أن لديه  مقابلة بعد يومين في الساعة العاشرة صباحاً .. سُرَ جداً بهذا الاتصال الصباحي ،  فسوفة يصل الى بلاد النور والشعراء والملابس الراقية والعطور أخيراً،  أنها باريس هكذا كان يحدث نفسه . اتصل فوراً  بأخيه وأبلغه عن  أتصال السفارة.. طلب كرم منه أن لا يخاف ولايتردد في الاجابة على الأسئلة وسوفة تسير الامور على ما يرام.
بعد يومين قضاهم سعد وهو قلق من المقابلة ،  ذهب الى مقر السفارة قبل الموعد بثلاث ساعات يحمل كل أوراقه الثبوتية . عندما دخل الى المبنى أستقبله موظف سوري شاب، أخذ الجواز الاوراق التي معه، وأعطاه ورقة صغيرة خضراء به رقم ، وقال له رجاءاً أجلس في صالة الانتظار لحين موعدك  ، كان في الصالة عائلة كردية من العراق ، وفتاة لبنانية  لوحده،  ورجل فرنسي يبدو أنه أضاع  جوازه ، بعد أقل من ساعة  نادوا على الرقم الذي يحمله فذهب الى شباك صغير تجلس خلفه سيدة في الستين من العمر،  فرنسية  تتكلم  بعض العربية. كانت كل أوراق سعد موضوعة  قربها تنظر لهم  ثم  تنظر الى شاشة الكنبيوتر، وتسأل سعد عن هروبه من العراق ، ومن تهديد المليشيات المسلحة له وقتل زوجته وغتصاب ابنته . ذهل هو من هذه المعلومات الخاطئة التي لم تحدث ، ولكن كان يهز رأسه موافقاً على كل ما تقول الموظفة  خلف هذا الشباك وأستغرب أكثر كيف صدقته بكل هذه البساطة ، بعد  مقابلة  دامت أقل من عشرين دقيقة قالت له الموظفة سوفة نستكمل الاجراءات ونعاود الاتصال بك لتأخذ الفيزا. عاد الى بيته وهو مغتبط  سعيد ، فقد أحس أن كل الامور تسير في الأتجاه الصحيح. عند دوار الريس حيث انزله الميكرو باص رأى صاحب البيته الدرزي الطاعن في السن ، سأله خير أراك اليوم سعيد انشاء الله خير، فقال له سعد فرحاً ، لقد كنت في السفارة الفرنسية أكُمل أوراق السفري ، نظرة له الشخص نظرة غريبة ذات مغزى  ومضى دون أن يقول شيء .. لم يعرف سعد ما معنى هذه النظرة ، وأن ظل يستحضرها في مخيلته بين فترة وأخرى.
جاءت التأشيرة مختومة على الجواز العراقي بعد أسبوعين ، ونافذة  لمدة ستة أشهر ، ظل سعد يتوجس من مشكلة أقلقته  ، فهو خائف جداً من ركوب الطائرة. على الفور أتصل بكرم وأخبره عن الموافقة ، وأفصح مخاوفه من الجوّ ، ضحك الأخ الاصغر كثيراً على الأخ الاكبر وقال له هون عليك أنها أربع ساعات فقط  وتكون في باريس ، وأضاف لقد أرسلت لكَ ألفين يورو، أستلمهم انت بالدولار الامريكي وذهب مباشرة وقطع تذكرة سفر لرحلة واحدة ..  شكر سعد أخوه على كل  هذه المواقف النبيلة ، والذي بدونه لكان الأن ضائع في هذه المساحة من الحياة القاسية.
مطار دمشق الدولي ، السادسة والنصف مساءاً ، . يصعد سعد على متن الطائرة وهو يرتجف من الخوف ، حين جلس على المقعد المخصص له أصابه صداع  شديد ، طلب من المضيفة  الجميلة  أن تناوله حبة مسكن لآلام الرأس،  في أقل من دقيقة كانت حبتان أسبرين على طبق أبيض صغير وكأس ماء وصوت لطيف يقول له ، يبدو عليك أن هذه أول مرة تركب به طائرة .. لم يجب سعد فقد كان ينظر اليها ساهماً من انوثتها الطاغية وصدرها الناهد وعطرها الفواح ، شعرت بحرجه ، أبتسمت  وقالت أن كل شي على ما يرام لا تخف ، فخلال فترة قصيرة سوفة نكون في باريس . تمنى أن تظل قربه ، يحدثها في أمر ما ، لا يعرف لماذا شعر معها بالأمان.. تناول الحبتان دفعة واحدة وشد الوثاق ونظر الى جناح الطائرة من النافذة  وأستغرق في التفكير ، بعد دقائق كان الطائر العملاق يحلق في الجو عالياً.
باريس الساعة العاشرة والربع ليلاً ، مطار شارل ديغول ، سار سعد وراء الركاب في أروقة  المطار المُترامية ،  وهو ينظر في كل الاتجاهات الى أن وصل الى شباك الجوازات ، بعد أجراءات روتينية عادية خرج الى صالة الانتظار حيث كان كرم ينتظره . حين تقابلا الاخوين ركض الواحد نحو الأخر وتعانقا بحررة وسالت الدموع من المقُل ، سار الاثنان معاً الى الى محل تنزيل الحقائب، حمل كرم حقائب أخيه وخرجا ، ستقلا القطار السريع من باريس الى مرسيليا حيث كان يسكن هناك .. لم يشعرا بالطريق ولا حركة الميلان الشديدة ، فقد قضيا الوقت في الحديث عن السفر والأجراءات وأحوال العراقيين في سوريا، الى أن وصلَ القطار الى المحطة الاخيرة في المدينة الكبيرة .. كانت سيارة كرم الرينو الحديثة متوقفة هناك ، توجها مباشرةً الى الشقة. كانت الساعات الفجر الاولى تلوح في الأفق.
شقة جديدة في حي راقي ، أثاثها جميل ، ينمْ عن ذوق من هم حديثي النعمةَ ، عبارة عن غرفتين ومطبخ واسع، وصالون للجلوس كبير يطل من الجانب الشمالي على حديقة البلدية ، وحمام على الطراز الايطالي،  أشتراها كرم  قبل سنتين بمبلغ كبير. وضعا الحقائب  في الغرفة المخصُصة لسعد، وقال له كرم هذه غرفتك الخاصة ،أدخل الأن وأستحم، الى أن أجهز أنا الفطور، نظر سعد الى عين أخيه واراد أن يقول  شيء ولكن الكلمات لم تسعفه فقد عَبَرِتْ عيناه تحكي عما يجيشْ في خاطره من مشاعر أتجاه كرم . دخل سعد وستحم كأنه لم يستحم من سنوات عديدة ، أو كأنه يريد أن يغسل ذلك الماضي الاليم  ويُطهر جروحه بالماء الحار ، ويبدأ بعثه وميلاده الجديد ..  ومن شدة  فرحه أخذ يغني بصوت عالي  وهو في الحمام حتى وصل صوت غنائه  الى مسامع كرم في  المطبح  فبتسم الأخير في سره .. حين خرج الى الصالة وهو في روبْ الحمام الأبيض ، كانت المائدة عامرة بكل أصناف الأكل اللذيذ ، من زبدة فرنسية، وجبنة إيطالية، وعسل وبيض وشرائح لحم محشو فستق ، ونقانق ، وخبز حار طري .. جلس الأخوين يتناولان الطعام  ويتحدثان في أمور عامة.. بعد الانتهاء من وجبة الفطور  ساعد سعد أخوه في جمع الاطباق ووضع ما تبقى منه  في البراد ، بعد ذلك أعد كرم القهوة وشربها معاً في الشرفة المُطلة على الحديقة.  أصبحت الساعة تقريبا الحادية عشر صباحاً، قال كرم  لسعد، يجب عليَ الذهاب الى العمل الان ، انتَ خذ قسطاً من الراحة الى أن أعود ،  لن أتأخر كثيراً ، فقال سعد أنا اسف حقاً لقد أتعبتك معي  .. أبتسم له الأخ علامة العتاب ، وقال لا عليك ، يجب أن نكون معاً من الان فصاعداً لقد أضعنا الكثير من العَمر، وخرج.
 دخل  سعد الى غرفته ، وغطا  في نوم عميق  وشعور لذيذ ينتابه ، تأخذه الأحلام  الدافئة الى  عوالم  جميلة  يشعر معها  أنه  في الفردوس. على صوت كرم  صحى سعد من النوم ، وهو يناديه عند المساء .. كان الأخ قد جلب معه بعضاً من زجاجات البيرة وعشاءاً .. وقال له سوفة أخذ حمام سريع وبعد ذلك نعد المائدة معاً  لكي نسهر هذه الليلة .. قبل الساعة  العاشرة  كان كل شيء جاهز ، جلس الاخوان يتسامران على صوت الاقداح ، وبعد أن دارة الخمرة  دورانها في الرؤوس، أصبح سعد  يحكى حكايته الاليمة، وخيانة زوجته ، وكيف لم يصدقه أحد ، وصدقوها هي، والضروف الصعبة التي مر بها، والعار الذي تحمله ، ونظرة الاحتقار التي كانت في أعين الناس أتجاهه، حتى فكر في الانتحار أكثر من مرة ، ولولا مساعدة  كرم في الوقت المناسب ومد يد العون  له  لكان ألان في داخل قبر بارد  .. بعد أن أستمع كرم له بكل حواسه ، وإيقن مدى عمق جراحه النفسية ، والمعاناة  التي تكبدها نظر له محدقاً فيه بقوة ، وقال لا عليك، يجب أن تنسى كل الماضي وتبدأ من جديد .. وأمسكه من معصمه ألايسر وأضاف، أسمعني يا سعد يجب أن تولد من جديد، يجب أن تُبعث من الرماد مثل طائر الفينيق وتترك كل هذه الذكريات ورائكَ ، هنُا الحياة عسيرة  وتتطلب عزيمة وأرادة لكي تبقى، المعيشة ليست بهذه السهولة كما تتوقع ، أنا سوفة أفتح لكَ أبواب المال والعلاقات، يجب أن تكون ذئب ، أتسمع يجب أن تكون ذئب ، الضعيف هنا لا يعيش، نحن في غابة، والبقاء يكون فيها للقوي. لم يفهم سعد ماذا كان يجول في خاطر كرم في هذه الساعة أو الرسالة التي كان يريد إيصالها له لتداخل المشاعر وتقليب المواجع وتكريك الساكن.. لكن سوفة يكتشف بعد ذلك كل ما دار من كلام  مُبهم وخطير في هذه الأمسية. هزّ سعد رأسه والدموع تُرقرق في مقلتيه.
                                    ***
في  صباح اليوم التالي  خرجا الاثنين معاً ، وأكملا كل أوراق الاقامة الضرورية .. بعد ذلك فتح كرم حساب لسعد في البنك ، وأشترى له شريحة مع جهاز موبايل ، وعند الظهر تناولا وجبة الغداء عند مطعم إسباني في وسط البلد.
بعد هذا المشوار عادا الى الشقة ، وقال كرم نأخذ قسطاً من الراحة  وبعد ذلك نخرج  ونسهر  في أحد البارات ، في البداية لم يوافق  سعد على الخروج ، لأنه لا يحب هذه ألاماكن ، ولكن مع أصرار كرم ، خضع  لرغبته  .. قبل الخروج من البيت وعند الباب أستدار كرم وقال لسعد وقد تغيرت ملامحه بعض الشيء ، في البار لا تناديني كرم أسمي بين أصدقائي هو أدريان ، أستغرب سعد من هذا الطلب ، ولكن لم يعطي للأمر أهمية تُذكر. وكانت تلك أو أشارة يلتقطها عقله الباطن ويخزنها في الذاكرة التي سوفة تسُتحضر لاحقاً.
دخلا بار كبير يعج بالجاليات الأجنبية من مختلف المشارب  ، مغاربة ، أتراك ، أرمن ،إيطاليين، عراقيين . جلسا على طاولة في وسط البار، وطلب كرم  زجاجة ويسكي ، في هذه الأثناء جاء نحوهم  شاب ملامحه عربية ، طويل القامة أسمر الوجه ، بالكاد يبان وجهه من ظلمة المكان، فقط عيناه تلمعان بحمرار من شدة الشُربْ ، تتأبط ذراعه  فتاة متوسطة الطول ، بيضاء البشرة نحيفة الوجه ، من تلك الدولة الاسكندنافية ، مدّ المغربي يده بتجاه كرم وقال له بالفرنسية ، أين أنت يا أدريان ، لم نراكَ من وقت طويل يارجل ، أجاب كرم بَتجَهُم واضح ، كنت مشغول مع أخي ، لقد وصل فرنسا منذ يومين ، وأشار على سعد، سلم على سعد وقال بعربية ركيكة ، أسمي عمر برتاس ، وهذه صديقتي أليتا ، نهظ سعد وسلم على الاثنين متمتماً بكلمات غير مفهومة وجلس .. تحدث عمر مع كرم على أنفراد وبعد ذلك رحل هو وصديقته .
جلس سعد ينظر الى الحضور ساهماً، الكل مشغول ، ذلك مع  صديقته ، والأخر مع رفيقه، يحتسون المشروبات ويضحكون، مطلقين قهقهات عالية. في هذه الدوامة المتلاطمة من المشاهد الغربية على عالم سعد أقبلت فتاة على طاولتهم وألتفت حول كرم وطوقته بذراعيها وطبعت قبلة على خده الأيسر بقوة  .. أستغرب سعد من هذه الجراءة التي أعتبرها وقاحة ، لكن كرم عالج الموقف سريعاً حين شاهد أستهجان أخوه وقال هذه صديقتي لاتيسيا ديفوس ، مدت الفتاة  يده مبتسمة تصافحه ، نظر اليها سعد منُبهراً بجمالها الأخاذ .. كانت في عمر  السادسة والعشرين تقريباً، متوسطة الطوال ، لون بشرتها يميل الى السمار الخفيف، ذات شعر أسود قصير، وعيون بنية كبيرة توحي بالثقة اذا ما ركزت فيهم . سحبت كرسي وجلست بجوار كرم يتهامساً . مع توالي الكؤوس والدخول في القسم الثاني من الليل أصبحت لاتيسيا أكثر تحرراً ، وأصبحا يقبلان بعضاً بحرارة أمام الناس، حاول سعد أن يتحاشاهم ويغض الطرف عنهم ، ولكن الأن أصبح العناق والقبل الحارة في كل زاوية من البار ، الى أن قال لأخيه بعصبية ،لقد تأخر الوقت يجب أن نعود الى البيت ، نهض كرم مع الفتاة ودفع الحساب وخرج الثلاثة معاً .. مسافة الطريق بين البار و الشقة كان كرم يغني على إيقاع أغنية من مسجل السيارة وبصوت عالي ولاتيسيا كانت تصفق وتصرخ فرحاً ، وسعد جالساً في المقعد الخلفي يبتسم لهم دون أن يعليق فقد عرف أن أخاه  ثمل جداً. في الشقة أدخل كرم الفتاة الى غرفته واستأذن أخوه غامزاً له وأغلق الباب .. ذهب سعد الى غرفته وبدل ملابسه فاتحاً الباب قليلاً ، وأخرج من حقيبة السفر رواية الباب الضيق لأندريه جيد التي شتراها من دمشق،  وتمدد على  السرير يقرأ . في الغرفة الثانية كانت لاتيسيا قد نزعت ملابسها وأصبحت فقط بالسروال الداخلي الأحمر ذو النقاط السوداء مع حمالة  الصدر السوداء ذات الحواف الذهبية ، واقفة عند المرآة تتعطر وتُعدل تسريحة الشعر، وتتمايل بغنج ودلال مثيرة بذلك الخلاية الجنسية الساكنة ، حين شاهد كرم الجسد الغَضّ الأملس وشم رائحة العطر النسائي الفواح،  وألوان ملابسها الداخلية، سال لعُابه وستيقظ في داخله الثور الهائج ، فسحبها  الى السرير بقوة ، ممزقاً سروالها بعنف، حاولت هي خلع حمالة الصدر ولكن كان هو أسرع منها  فاخرج قضيبه الذي كان منتصباً تلك اللحظة وأولجه فيها مطلقة  صرخة مدوية وصل صداها الى غرفة سعد ، مع أنها لم تكن عذراء وليست المرة الاولى التي يمارسان الجنس فيها . بعد أن نام الذئب في داخله ، صارحته مازحة أنها وضعت له مسحوق حبة الفياجرا في كأس الويسكي دون أن يعرف حين كانا في البار معاً ، لم يعلق على  شيء من شدة الجهد والنشوة. بعد ذلك هدأ وغطَاَ  في نوم عميق .
صباح اليوم التالي أستيقض سعد باكراً، وبعد أن غسل وجهه ، ذهب الى الصالون وفتح التلفزيون وأخذ يقلب فيه وأبقاه على قناة مغربية تعرض أغاني قديمة .. صحت لاتيسيا قبل كرم  متعُبة وخرجت من الغرفة مرتدية الروب الشاموار الشفاف ذاهبة الى المطبخ ، حين شاهدت سعد جالساً في الصالون سلمت عليه بالفرنسية ، ولكن هو لم يعرف كيف يرد فهز رأسه مفتعلاً ابتسامة باردة .. في المطبخ أشغلت جهاز القهوة الكهربائي ووضعت الماء والحليب فيه ، صنعت لها كوب كابتشينو كبير. من المطبخ سألته مؤشرة على الكوب بأصبعها هل يشرب معها القهوة ، فرفض بجفاء ، هُنا أحست أن سعد صدها مرتين خلال دقيقة واحدة  .. فأنتابها  شعور خفي لا تعرف مصدره، أن الوضع في البيت غير مريح في وجود هذا الرجل .
جلس كرم وهو يتثاءب بتثاقل على الفراش ، ولاتيسيا جالسة على حافة السرير بيدها كوب الكابتشينو ، أخذ الكوب منها وشرب منه رشفى ، بعد ذلك نهض ودخل الحمام ، ارتدت هي  ملابسها وحملت بقايا السروال الممزق المتناثر على الارض ورتبت السرير والشراشف. خرجا معاً حيث لم يبارح سعد مكانه ، سلم كرم عليه وجلسا معاً دون حديث يشاهدان نشرة الأخبار.. في أقل من نصف ساعة كانت المائدة جاهزة للفطور ، الذي أصبح بعد تلك الساعة غداء .. على الطاولة  قال كرم مخاطباً أخوه اليوم هو عُطلة ، سوفة نخرج في جولة الى المدينة ونذهب الى الحديقة  الكبيرة بعد ذلك الى الميناء ، يجب أن ترى معالم مرسيليا الجميلة، وأضاف بالفرنسية ناظراً بتجاه لاتيسيا  أليسا  كذلك، فحدقته بعينين فيها ريبّ وعدم أقتناع ، أرادا سعد أن يقول لندع النزهة الى يوم  ثاني، ولكن لم يفعل، فقد لاحظ أن أخاه كان مسرور به جداً ولم يرغب بأفساد هذه الفرحة.                                                         
                              ***