المحرر موضوع: الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور  (زيارة 868 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1288
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الزمان تحاور المفكر والكاتب عبد الحسين شعبان:
الدولة العراقية معطّلة ومشلولة بسبب الطائفية السياسية وألغام الدستور
الحلقة 3/5

يعدّ الحوار مع كاتب ومفكّر كبير ذو شجون خاصة، لاسيّما إذا كان عن صفحات تاريخية ومواقف سياسية لمرحلة مهمة من تاريخ العراق عامة، ومدينة النجف خاصة، كشف فيها المفكّر عبد الحسين شعبان، ربّما للمرة الأولى عن تلك الصفحات، خاصة في كيفية  بناء الدولة، التي يضعها بمنزلة علوية طبقاً للقانون وفوق أية مرجعية  سياسية كانت أو حزبية أو دينية أو طائفية أو عشائرية، وبناء الوحدة المجتمعية وفق ثقافة الحوار والسلام واعادة النظر في المناهج التربوية وفق أسس علمية سليمة تقوم على التسامح ونبذ العنف والكراهية والكيدية والاستعلاء..

بمراجعة سريعة للحقبة الماضية نرى أن الأحزاب الشمولية جميعها فشلت، سواء كانت قومية أو ماركسية أو دينية، لأنها برّرت إلغاء الآخر وعدم الاعتراف بالتعددية والإقرار بالتنوّع. فالأحزاب القومية ونموذجها حزب البعث الذي حكم العراق ثلاثة عقود ونصف من الزمان وهيمن على الحياة السياسية، حوّل قيادته للدولة والمجتمع من "الحزب القائد" إلى " الحزب الواحد"، ومن حزب يمثل الشعب أو الأمة كما يقول إلى حزب جهوي ومناطقي، وهكذا خضع حزب إلى قيادة العشيرة، ثم العائلة، وخصوصاً بعد استيلاء الرئيس صدام حسين على السلطة في العام 1979، وتربّع على رأسها ورأس الدولة بصلاحيات تكاد تكون مطلقة، فهو الأمين العام للحزب ورئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء.
وبزعم امتلاك الحقيقة وإدعاء الأفضليات، بدأت مسارات الدولة والمجتمع تتّجه إلى الواحدية والإطلاقية والإجماع حتى وإن كان مصطنعاً، بتضييق وإلغاء أي اختلاف أو خلاف، وإلاّ كيف تفسّر أن يبتهج الحزب الحاكم بفوز رئيسه في استفتاء يحصل فيه على 100%  من الأصوات، ثم كيف يوقّع اتفاقية 6 آذار (مارس) المذلّة العام 1975 مع إيران وتحظى بالإجماع، ويلغيها بالإجماع في العام 1980 ويشن حرباً تستمر ثماني سنوات 1980-1988 ( بالإجماع) ويعود إلى اتفاقية 6 آذار (مارس) بالإجماع، وخصوصاً بعد التورط بغزو الكويت في 2 آب (أغسطس) العام 1990، برسالة من صدام حسين إلى الرئيس هاشمي رفسنجاني في 15 تشرين الأول (اكتوبر) 1990.
أليست تلك كوموتراجيديا، وهي سخرية أقرب إلى المأساة ، وحسب شكسبير أنها: سخرية القدر، أو كما يقول عنها ماركس: إنها سخرية التاريخ، وهي سخرية الزيف والمشاطرة واللاّ مبالاة حسب الكاتب الروائي الساخر أبو كاطع " شمران الياسري".
وبعد أن كان الحزب يحكم أصبح الحزب محكوماً من جانب جهاز مخابرات متعدّد المخالب والامتدادات، وهكذا ألغيت أية مظاهر يُشمّ منها رائحة معارضة أو اختلاف أو عدم توافق أو رضا، حتى وإن بالصمت، وتقلّصت الهوامش المحدودة لدرجة أقرب إلى التلاشي، وأحياناً كان التفتيش في ثنايا القصيدة أو ما وراء اللوحة أو مدلولات الكلمة ومقاصدها.
وهي استمرار للوصفة الجدانوفية (نسبة إلى جدانوف، الأيديولوجست ووزير الدعاية والمستشار المقرّب من الزعيم السوفييتي ستالين) التي حكمت الاتحاد السوفييتي وطبعت حياة الناس الثقافية، ومثلها كانت الأنظمة الشمولية في العالم الثالث، سواء التجربة المصرية (الناصرية) أو البعثية (العراقية – السورية) أو اليمنية الجنوبية (حكم القبائل الماركسية) أو التجربة الليبية (القذافية) أو التجربة الجزائرية (البومدينية) أو التجربة السودانية (النميرية- الإسلاموية لاحقاً).
هذا هو ديدن الأحزاب الشمولية والفكر الشمولي عموماً، وهو ما سارت عليه البلدان الاشتراكية ، فعلى الرغم من بعض المنجزات التنموية التي تم تحقيقها في بعض البلدان الاشتراكية، فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، لكن شحّ الحرّيات وعدم الإقرار بالتعدّدية والاعتراف بالتنوّع ومحاولات فرض الهيمنة بزعم قيادة الطبقة العاملة التي لم تكن سوى بيروقراطية الحزب والدولة، وبالأساس الأجهزة الأمنية التي هيمنت على كل شيء، الأمر الذي قاد إلى اختناقات وأزمات حادة، والشيء ذاته في التجارب المستنسخة لدول ما أطلقنا عليها العالم الثالث.
 وكانت الشعارات التي أطاحت بأنظمة أوروبا الشرقية بسيطة وعامة: نريد حواراً .. نريد تعددية.. ونريد مشاركة.. ونريد انتخابات حرّة، مثل شعارات حركة الاحتجاج الشعبية في ما سمي بالربيع العربي. وكذلك اليوم فيما يتعلق بحركة الاحتجاج المستمرة منذ عدّة أشهر في العراق والمطالبة بالتغيير فإن شعاراتها تدعو إلى محاربة الفساد ومساءلة المفسدين وتوفير الخدمات، وكانت حركة الربيع العربي قد طرحت شعارات من قبيل المطالبة بـ: الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية.
وإذا كانت الحركة الشيوعية وبلدان حركة التحرر الوطني وأنظمتهما قد وصلتا إلى طريق مسدود بعد نجاحات وإنجازات وإنْ كانت محدودة وتوقفت، بل وتراجعت، خصوصاً بتراجع الأفكار الآيديولوجية وانتهاء عهد الحرب الباردة، فإن الأحزاب الدينية على مختلف توجهاتها السياسية والمذهبية شيعية أو سنية، كانت تحمل معها فايروس فشلها منذ البداية، لأن أساسها تقسيمي وطائفي، خصوصاً بعد وصولها للسلطة أو اقترابها منها. يكفي أن نستعيد ردود الأفعال  التي أعقبت الثورة الإيرانية، التي كانت ثورة شعبية بامتياز، لكنها وبعد اختطاف التيار الديني لها ضاقت مساحة الرأي الآخر، لدرجة أصبح محرّماً على أي تيار سياسي حق العمل القانوني والشرعي، بل لوحقت جميع القوى والأحزاب المغايرة، في التوجه والفكر، وأصبح العمل السياسي والمهني حكراً على تيار واحد، بإلغاء التعددية والتنوّع في المجتمع، بل إن هناك نصوصاً دستورية تحدّد مذهب رئيس الجمهورية، الأمر الذي يتعارض مع مبادئ المساواة والمواطنة وحقوق الإنسان.
والأمر على هذا المنوال سار النظام السوداني حيث تقلّصت قاعدته بالتدريج وكان من أسباب فشله هو عدم تمكّنه من حل مشكلة الجنوب، الذي انفصل في العام 2010 باستفتاء شعبي، في حين كانت هناك فرصة لحل المشكلة الجنوبية، لو استجابت الحكومة لبعض مطالب الحركة الجنوبية، واتسمت خطواتها بالعقلانية والحوار والتفاهم والتوصل إلى حلول مرضية بصيغة لا مركزية أو فيدرالية في إطار دولة موحدة.
وتجربة حكم حزب الدعوة والتيار الديني في العراق والقوى المشاركة معه منذ تأسيس العملية السياسية بعد الاحتلال كانت فاشلة، فليس هناك منجز واحد فيها يمكن الإشارة إليه بالبنان، لا على الصعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الأمني أو السياسي أو القانوني أو التربوي أو الصحي أو العمراني أو الإنساني، ناهيك عن تكريسها صيغة المحاصصة الطائفية والإثنية التي جاء بها بول بريمر الحاكم الأمريكي للعراق (13 أيار /مايو/2003- 28 حزيران/ يونيو/2004)، ولا يزال التقاسم الوظيفي المذهبي والإثني مستمراً في ظل دستور حمل الكثير من الألغام، لدرجة أصبحت الدولة معطّلة ومشلولة بجميع مفاصلها ومن القمة حتى القاعدة.
وإضافة إلى الطائفية السياسية، هناك ظاهرة الفساد المالي والإداري التي وضعت البلاد في أسفل قائمة الدول التي تعاني منها. والعراق اليوم انتقل من نمط الدولة المستبدة إلى نمط الدولة الغنائمية  الفاشلة بكل معنى الكلمة، ويعاني من ذبول وانحلال مقوّمات الدولة، التي انهارت إلى حدود كبيرة، وخصوصاً وإن سيادتها معوّمة وكرامتها مجروحة، بفعل التدخلات الخارجية الدولية والإقليمية، وبفعل اقتطاع داعش والمنظمات الإرهابية محافظة الموصل والعديد من المناطق وتمدّدها إلى محافظات أخرى، واستمرار ظاهرة الإرهاب والعنف مستشرية على نحو صارخ. وفي كل هذه الأجواء تستمر الميليشيات خارج حكم القانون وتروج فكرة التقسيم من خلال استقطابات طائفية ونظرة قصيرة الأمد لما هو قائم.
كان بعض المعارضين في السابق غير مكترث بضرب العراق وتدميره وفرض حصار جائر عليه وقتل أطفاله وقطع خط تطوره التدريجي، بل كان يحرّض ويفتري ضد العراق ويطالب بفرض المزيد من العقوبات عليه، طالما كان الحاكم هو صدام حسين ظالماً ومستبداً، وهم غير قادرين على تغييره، فيعوّلون على الخارج ويدفعونه لشن الحرب، وهو الأمر الذي قاد إلى الاحتلال بذرائع واهية.
واليوم فإن البعض لا يهمّه إنْ تقسّم العراق أو تم تدمير وحدته الكيانية، بزعم حكم حزب الدعوة والميليشيات. وأولئك المعارضون والحاكمون اليوم، مثلما هؤلاء المعارضون الجدد وقسم منهم كان حاكماً بالأمس، والمشاركون الفعليون، ليس لديهم مشروع سياسي تغييري وليس لديهم نهج للحكم أو للتغيير، بل همّهم في السابق والحاضر هو السلطة، وهو ما قاد بلادنا من فشل إلى فشل أكبر.
وانكشف أمر تجارب الحكم الدينية على نحو شديد خلال حكم حزب الدعوة وشراكة التيارات الإسلامية من الشيعة والسنّة في العراق، وتجربة حكم الأخوان على قصرها في مصر وتجربة حكم حزب النهضة في تونس وكذلك تجربة السودان التي تعتقت فيها أنماط احتكار العمل السياسي بدعاوى مغلّفة بالدين وتجربة الجزائر التي أجهضت فيها الإرهاصات الأولى للتغيير، فما إن فازت الحركة الإسلامية بالانتخابات ، حتى قررت إعلان موقفها المناوئ للديمقراطية، ولعل استمرار العنف في الجزائر الذي حصد أرواح ما يزيد عن 100 ألف إنسان، كان من ذيول تلك التجربة وردود الفعل إزاءها.
 والحركة الإسلامية الليبية هي الأخرى كانت إحدى تحديات حركة التغيير التي كانت تنتظرها ليبيا، خصوصاً وقد لعب التدخل العسكري الخارجي دوراً سلبياً في توجهها، والأمر كذلك في سوريا التي كان للحركة الإسلامية دورها المؤثر في توجّه حركة الاحتجاج نحو العسكرة، الأمر الذي دفع الأمور باتجاهات أخرى فسحت المجال للتدخل الخارجي، وفتحت الباب على مصراعيه لشهيّة الوجود العسكري الإقليمي والدولي، وفي اليمن أيضاً فإن التجاذبات السياسية كان بعضها ذات بعد ديني، ولاسيما بالتداخل الإقليمي والذي وجد ضالته على أرض اليمن.
أعتقد إن ليس بإمكان الأحزاب الشمولية بصيغتها القديمة قدرة على إدارة الحكم بصورة سليمة لتحقيق التنمية المستدامة المنشودة، مثلما ليس لديها الخبرة والتجربة، مهما رفعت من شعارات. والدولة بدواوينها  كيان يتطور ببطء ووفق سياقات تدرّجية وتراكمية ، وأية عملية انقلابية ستؤدي إلى الارتداد إن آجلاً أم عاجلاً، وأعتقد أن تجارب البلدان الاشتراكية وكذلك تجارب البلدان النامية أكدت هذه الحقيقة، إذ بدون التراكم الطويل الأمد لا يمكن إحداث التنمية المطلوبة، لأن التغيير في نهاية المطاف ينبغي أن يستجيب لدرجة تطور المجتمع الذي سيكون متقبّلاً له وراغباً فيه وحامياً لظهره، وإلاّ فإن أي تغيير سيلقى مقاومة معلنة أو مستترة، تبدأ تفعل فعلها حتى يتم الارتداد عليه أو التراجع عنه، وأحياناً يحدث هذا بردّات فعل حادة وسريعة يؤدي إلى عكس ما أراده التغيير من تسريع، فيعود القهقري، في حين كان يمكن إحداث نوع من التطوّر التدريجي الطبيعي غير الانقلابي.
وتتربّص القوى المخلوعة والمحافظة والتي تستهدفها عملية التغيير تارة بوضع العصي بعجلة التغيير، وأخرى باتخاذ موقف سلبي، وثالثة بانتهاز الفرصة المناسبة للعودة إلى المواقع الأمامية، وبعض هذا حصل في مصر وتونس وليبيا واليمن، وهو ما كان يطلق عليه اسم الثورة المضادة لمواجهة عملية التغيير الثوري.
وحتى الأفكار الثورية لا بدّ لها من سياق مؤسسي، فالتغيير لن يتم بالانقلابات العسكرية والمؤامرات وأعمال العنف أو باستخدام بعض أجهزة الدولة ضد الأخرى أو ضد الدولة، بل يمكن أن يتم عبر تطور في أداء المجتمع ذاته بفرض إجراء انتخابات حرّة وبقانون انتخابات يستجيب للتطور وفي إطار دستور يأخذ بمبادئ المساواة والمواطنة ويحترم حقوق الإنسان، وذلك من خلال قضاء مستقل يمكن الاحتكام إليه، وبالإقرار بالتعددية والتنوّع واحترام حقوق المجاميع الثقافية الإثنية والدينية واللغوية والسلالية، وبغير التطور السلمي المدني الطويل الأمد لا يمكن تحقيق أهداف أية حركة ولا يختلف في ذلك أكانت علمانية مدنية أو دينية أو قومية أو اشتراكية، إذْ ينبغي أن تكون في إطار حكم القانون وتؤمن بوجود الدولة ومرجعيتها التي تعلو على جميع المرجعيات الدينية والطائفية والسياسية والحزبية والعشائرية وغيرها.
وعلى هذه الأحزاب إجراء مراجعة حقيقية تستجيب لروح العصر إذا أرادت البقاء في إطار المشهد السياسي، وإلاّ فإن الزمن سيتجاوزها إنْ لم تُحدِث تغييراً حقيقياً في داخلها وفي عملها وأساليب تنظيمها وطريقة تفكيرها ومناهجها السياسية.