المحرر موضوع: الذكرى السنوية الأولى لإنتقال قداسته إلى الأخدار السماوية مار دنخا الرابع: وحدة شعبنا القومية هي التي تحقق وحدة كنيستينا  (زيارة 2213 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل أبرم شبيرا

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 395
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الذكرى السنوية الأولى لإنتقال قداسته إلى الأخدار السماوية
----------------------------------
مار دنخا الرابع: وحدة شعبنا القومية هي التي تحقق وحدة كنيستينا
أبرم شبيرا
========================================================

 
================================================================
توطئة: العلاقة بين الوحدة القومية والوحدة الكنسية:
-----------------------------
أثناء زيارة غبطة مار لويس روفائيل ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية  لمثلث الرحمات قداسة مار دنخا الرابع بطريرك كنيسة المشرق الآشورية، طيب الله ذكراه، في قلاية البطريركية في شيكاغو في منتصف شهر حزيران من من عام 2014، جرى بين الحبرين أحاديث كثيرة ومهمة ركزت عن إمكانية الوحدة بين الكنيستين. وما يخص موضوعنا هذا نقتبس بعض السطور التي نشرت في الموقع الألكتروني لكلا الكنيستين وغيرهما:

(رحب قداسة البطريرك مار دنخا الرابع بهذه الزيارة الأخوية المميزة، وشدد على الروابط التي تجمع كنيستنا وشعبنا. وأكد البطريرك ساكو على أهمية هذه الزيارة، التي يأمل منها مؤمنو كنيستينا خطوات عملية في اتجاه تحقيق وحدة كنيسة المشرق، هذه الوحدة التي هي ضرورة قصوى في ظروفنا الراهنة، لا سيما نحن في العمق كنيسة واحدة إيمانيا وطقسيا وتاريخيا وجغرافيا. ما نحتاج اليه هو مبادرة جريئة لتحقيق وحدة الرئاسة الكنسية، واقترح غبطة البطريرك ساكو ان يتم عقد مجمع يضم أساقفة الكنيستين للحوار وإعداد خارطة طريق تحقق هذا المشروع المصيري ، وتجاوز العقبات بروح مسيحية .
فأجاب قداسته (البطريرك مار دنخا الرابع) : نحن واحد، ونحن نعمل من اجل وحدة كل المسيحيين، لكن من وجهة نظرنا ان وحدة شعبنا القومية هي التي تحقق وحدة كنيستينا . وقد أشار الى بعض الإشكاليات التي عثرت مشروع الحوار نحو الوحدة، الذي كان قد بدأ في تسعينيات القرن الماضي .
فرد عليه غبطة البطريرك ساكو: ان الوحدة القومية مسؤولية العلمانيين بالدرجة الأولى، بينما وحدة كنيستينا هي مسؤوليتنا، وان وحدة شعبنا ستأتي لاحقا. وعلق المطران مار ابراهيم أبراهيم  قائلا: ان كنيسة المشرق كانت تضم شعوبا وقوميات عديدة فما الضرر ان تضم اليوم أقواما مختلفين لان الكنيسة جامعة. ونتضرع الى الروح القدس ان يقودنا جميعا الى هذه الوحدة التي صلى من اجلها الرب يسوع).

من خلال السطور القليلة أعلاه نستطيع أن نستنتج ثلاثة توجهات في سياق علاقة الوحدة القومية بالوحدة الكنسية:

الأول: العلاقة القوية والعضوية بين الجانب القومي والكنسي وضرورة ترابط بينهما كسبيل لتحقيق الوحدة القومية والكنسية التي ينشدها شعبنا، وهو التوجه الذي يتمثل في قداسة البطريرك مار دنخا الرابع، طيب الله ذكراه.
الثاني: الفصل بين الكنيسة والقومية كسبيل لتحقيق الوحدة الكنسية والتأكيد على كون العلمانيون هم المعنيين بالوحدة القومية بينما الأكليريون هم المسؤولين عن الوحدة الكنسية ويتمثل هذا التوجه في غبطة البطريرك الجليل مار لويس روفائيل ساكو.
الثالث: هو التوجه الفاتيكاني الكاثوليكي الرافض للفكر القومي وربطه بالكنيسة والذي يؤكد على وحدة كنسية العابرة لكل الحدود القومية، كنيسة تضم شعوب وقوميات مختلفة ومن دون حصرها في قومية أو شعب واحد، وهو التوجه الكاثوليكي التقليدي تجاه الفكر القومي والقوميات ويمثلها هنا نيافة المطران إبراهيم إبراهيم.
 

على العموم مثل هذه التوجهات الثلاثة قد تم التطرق إليها وبشكل مفصل في السابق ولكن الذي يهمنا هنا هو رأي قداسة البطريريك الراحل في إعطاء أولوية للوحدة القومية على الوحدة الكنيسة وإعتبارها سبيلا لتحقيق الوحدة بين الكنيستين والذي قد يبدو للوهلة الأولى، من حيث الشكل غريب بعض الشيً. من هذا المنطلق نرى بأنه من المناسب فتح حوار عن هذا الموضوع ومناقشته بكل واقعية وموضوعية  سواء أتفقنا مع هذا الطرح أم لا . نرى أيضاً أن المنطق يقضي البدء بهذا الموضوع عن تساؤل لماذا يعطي قداسته، وهو رجل دين وعلى رأس كنيسة، يعطي أهمية على الوحدة القومية وهو سيد العارفين بأهمية وحدة فرعي كنيسة المشرق وخاض قداسته تجربة طويلة في هذا السياق؟؟ فهل هو قومياً أكثر من دينياً؟؟ تساؤل يفرض علينا التمعن في فكر قداسته وإدراكه لجدلية الربط العضوي بين المفهومين الكنسي والقومي في مجتمعنا ومراجعة المصادر التي أستمد قداسته فكره القومي منها ووضع الوحدة القومية لشعبنا في المقدمة وهو رجل دين تدرج من كاهن إلى سدة البطريركية.
الخلفية الفكرية القومية:
------------- 
صحيح هو أن قداسته لم يكن يحمل شهادات عليا في اللاهوت أو في الفلسفة ولكن كان واسع الثقافة وعميق الفكر وموضوعي جداً في كلامه وأفكاره وفي مختلف المجالات والحقول خاصة الكنسية والقومية، ومن جالسه وإجتمع معه أو أستمع إلى كرازته أو قرأ رسائله إلى أبناء أمته يدرك هذه الحقيقة التي لا جدال فيها ولا مجاملة. بغنى عن الجوانب الدينية لفكره  فأن تركيزنا هنا سينصب على الجانب القومي ومن خلال الظروف الموضوعية التي عايشها قداسته وتطبعت فيه وأنعكس تأثيرها على فكره القومي، وهي الظروف التي يمكن تقسيمها إلى مرحلتين:

المرحلة الأولى: في إيران - من 1957 لغاية 1976:

------------------------------- 
في نهاية العقد السادس وبداية العقد السابع من القرن الماضي كانت أيران منبعاً لتطور الفكر القومي الآشوري وتجسده في تنظيمات معاصرة ثقافية وسياسية وفكرية كرد فعل للتطورات السياسية التي عصفت بمنطقة الشرق الأوسط منها قيام الثورة الكردية في العراق وتوسع إنتشار الفكر القومي الناصري خاصة في سوريا فساعدت كل هذه العوامل الموضوعية على خلق البدايات الأولى لنشؤ وتأسيس الإتحاد الآشوري العالمي عام 1968. في عام 1957 رسم قداسته كاهن للكنيسة في عبدان – إيران حيث كان هناك عدد كبير من الآشوريين الذين كانوا يعملون في الشركات البترولية. وفي عام 1962 رسمه مثلث الرحمات مار شمعون إيشاي أسقفاً ليشغل كرسي الأسقفية في إيران الذي كان شاغرا منذ عام 1915. وفي عام 1976 أختاره المجمع السنهادوسي المقدس للكنيسة بطريركاً على الكنيسة. فخلال هذه السنين أستطاع قداسته تنظيم وإدارة أمور الكنيسة بشكل جعل أبرشيته من أكثر أبرشيات الكنيسة إستقرارا ونشاطاً بعد أن كانت التيارات الكنسية الأخرى تفعل فعلها في المجتمع الآشوري وتفتته إلى طوائف وممل. لا بل وأكثر من هذا فقد أنخرط سواء بشكل مباشر أو غير مباشر في النشاطات والأمور الثقافية والفكرية والقومية واضعاً نصب عينه المسألة القومية في مقدمة أهتمامه من دون أي أعتبار أو مانع كنسي أو طائفي لتطور الفكر القومي الآشوري ودفعه نحو أفاق أبعد. ويذكر بأن قداسته كان من أكثر المؤيدين لقيام الإتحاد الآشوري العالم، لا بل البعض يقول بأنه كان عضواً فيه. ومن الجدير بالذكر بأن هذا الإتحاد تبنى منذ السنة الأولى لتأسيسه أهداف تمثلث في ثلاثة شعارات وهي:   (1) – أمة واحدة وتسميتها هي الآشورية (2) لغة واحدة أشورية بشقيها العامية والأدبية (3) قيادة واحدة عالمية تتمثل في الإتحاد الآشوري العالمي. وتأثير هذه الشعارات الثلاثة واضح وبشكل جلي في فكر وممارسات قداسته خاصة بعد تسنمه سدة البطريركية والتي تظهر في تأكيده وبإستمرار على كون وحدة أمتنا وتحت التسمية الآشورية وفي إعتبار بقية التسميات الأخرى طائفية وتشكل جزء من الأمة الآشورية. وعلى نفس المنوال كان يؤكد قداسته على كون لغة أمتنا هي الآشورية ولا غيرها. أما بالنسبة للقيادة الموحدة لأمتنا، فكان أكثر موضوعية ومنطقياً حيث في معظم لقاءاته مع السياسيين كان يؤكد على ضرورة توحيد جهودهم كسبيل لنيل الحقوق القومية لا بل كان لقداسته أفكار ومشاريع خلاقة نقل جانب منها من إيران إلى المجتمعات الآشورية في المهجر خاصة فيما يتعلق بموضوع تأسيس منظمات وجمعيات ذات طابع عمومي وشامل لجميع الآشوريين مثل المجلس القومي الآشوري في ولاية ألينوي في شيكاغو الذي يعتبر من أنجح المؤسسات الآشورية وأكثرها فاعلية وأستمراراً.

المرحلة الثانية: في العراق والمهجر – من عام 1976 لغاية إنتقاله إلى جوار ربه عام 2015.
-------------------------------------------------------
تذكر موسوعة بطاركة الشرق – تاريخ وحضور، أعداد جان دارن أبي ياغي، من منشورات تيلي لوميار (نور سات)، ط1، سنة 2010، ص180، تذكر بخصوص إنجاز قداسته للكنيسة بالقول بأنه "قام بزيارات راعوية ودورية لجميع أبرشيات كنيسة المشرق ومنها أرمينيا وروسيا التي كانت قد أنقطعت عن الإتصال مع كنيسة المشرق منذ قرن تقريباً.. وفي عهده حقق الكثير من الإصلاحات وبعث النشاط في الكنيسة ونظم إنعقاد مجمعها السنهادوقي دوريا.. كما رسم عدد من المطارنة والأساقفة إضافة إلى تشييده الكنائس... فأهتم بتعليم الكهنة وأرسل الكثير منهم للدراسة في الجامعات الأوربية المختصة (ولأول مرة في تاريخ الكنيسة أرسل مجموعة من الكهنة للدراسة في المؤسسات اللاهوتية الكاثوليكية في الفاتيكان  كما أجاز للأشوريين الدراسة في المعهد الكهنوتي للكلدان الذي كان في منطقة الميكانيك في بغداد)... أقام علاقات حوار مع مختلف الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية ... كما قام بعدة زيارات إلى الفاتيكان حتى أثمرت بصدور البيان المسيحاني المشترك بين الفاتيكان وكنيسة المشرق حول التوافق العقائدي بين الكنيستين وحول مفهوم سر التجسد". هناك واقعة مثير ومهمة عن مدى ذكاء وحنكة قداسته في الحفاظ على وحدة الكنيسة وتفهم مشاعر مؤمنيها يستوجب ذكرها. في عام 2010 عقد مجمع سنهادوسي للكنيسة في الهند وهو الأول من نوعه في تاريخ الكنيسة لإنتخاب أسقف واحد للأبرشية التي هي برعاية المطروبوليت مار أبرم موكن حيث كان في السابق يتم رسامة الأساقفة في بيت نهرين ثم إرسالهم إلى الهند. فعند بدء إجراءات الإنتخاب ترشح كاهنان هنديان، هما (مار يوحنا ومار أوكن) وبعد فرز الأصوات فاز مار يوحنا على مار أوكن بصوت واحد فقط وقبل إقرار هذا الفوز أدرك قداسته بأن مؤمني الكنيسة منقسمان إلى قسمين متساويين تماماً  ولضمان وحدة الكنيسة ومؤمنيها قرر إختيار كلا الكاهنين بدلا من كاهن واحد وتكليهما بالرتبة الأسققية وخصص لكل واحد منه عدد من الكنائس لإدارتها وخدمة مؤمنيها وبهذا ضمن وحدة المؤمنين في أبرشية الهند.

لا نريد أن نطنب أكثر من هذا في المسائل الكنسية فهي معروفة، ولكن الذي يهمنا هو الجانب الفكري القومي الذي كان السبب الرئيسي ليدفع قداسته ويؤكد على ضرورة الوحدة القومية كسبيل للوحدة الكنسية. كبطريرك على كنيسة مؤمنيها بأكثريتهم كانوا في العراق ومن ثم في بلدان المهجر، كان واجبه يفرض عليه القيام بزيارات لهم والتعايش والتفاعل معهم والإطلاع على أوضاعهم ومشاكلهم خاصة في البلدان التي كانت تحكمها أنظمة إستبدادية ظالمة تجاه تطلعات الآشوريين وتحديداً في العراق في السبعينيات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة شرع نظام البعث العراقي في تطبيق سياسته الإستبدادية في "إعادة كتابة التاريخ" التي بموجبها أعتبر التسميات الحضارية للأقليات كالآشورية والكلدانية والسريانية من أضاليل الإستعمار وأن التسمية القومية لهم هي العربية... موضوع طويل وشائك سبق وأن تطرقنا إليه ولا داعي للإطناب فيه (أنظر كتابنا المعنون: الآشوريون في الفكر العراقي المعاصر، دراسة في العقلية العراقية تجاه الأقليات، دار الساقي، بيروت، 2001) غير أن نشير بأن في مثل هذه الظروف الإستبدادية كان قداسته يزور العراق، سواء بدعوة رسمية أو غير رسمية، وكان كعادته وواجبه الديني والقومي يزور أبناء أمته وخاصة المؤسسات الثقافية والقومية الأكثر نشاطاً وفاعلية وتأثيرا في المجتمع الآشوري كالنادي الثقافي الآشوري في بغداد. ففي كل زيارة للعراق لم يكن قداسته يتوانى إلا ويزور هذا النادي ويحضر بعض نشاطاته بمناسبات قومية ويطلع عليها خاصة مسألة تعليم اللغة الآشورية في النادي فكان قداسته ينبهر من الأسلوب المتبع في تدريس هذه اللغة والتي تخرج منها كبار شعراء وكتاب أمتنا في الوقت الحاضر وإختصاصيون فيها ورجال دين لا بل وحتى مؤسسي وقادة أحزاب سياسية وتنظيمات قومية. وهنا أود أن أزيد القارئ العزيز بمعلومة عن أسلوب النادي في تعليم اللغة الآشورية، فعندما وصل عدد أعضاء النادي إلى 1000 عضو (طبعاً كان من شروط العضوية أن يكون طالب العضوية حاملا على الأقل شهادة الثانوية) وضع النادي شرط آخر وهو أتقان طالب العضوية لللغة الآشورية قراءة وكتابة وإلا عليه الإنتساب إلى أحدى دورات تعليم اللغة الآشورية المقامة في النادي والتخرج منها كشرط لقبول عضويته. هذا النشاط وغيره من النشاطات القومية كالإحتفال برأس السنة البابلية – الآشورية والسابع من آب وغيرهما من الأعياد القومية والتراثية التي لم تكن مرضية لنظام البعث وأزلامه خلقت للنادي تحديات خطيرة لمواجهة موانع حزب البعث في إستمرار نشاطات النادي القومية. (موضوع تم التفصيل فيه في كتابنا المعنون: (النادي الثقافي الآشوري، مسيرة تحديات وإنجازات، ألفاغراف، شيكاغو، 1994)

ضمن هذه الظروف الصعبة والماحقة كان قداسته لا يخشى أبداً من زياته للمؤسسات القومية ولقاءه بشخصيات قومية وسياسية آشورية والتطرق إلى أحاديث حساسة ومهمة تخص أبناء أمتنا في الوطن الأم رغم أداركه الكامل بأن مقر أقامته في بغداد كان ملغماً بأجهزة التنصت من قبل رجال الأمن وبعض من أزالمهم من حثالة مجتمعنا بحيث وصل الأمر إلى رفع  أحد هؤلاء الحثالة تقريرا إلى الجهات الأمنية متهماً قداسته كجاسوس يعمل لصالح إيران والولايات المتحدة الأمريكية ولكن تبين فيما بعد بأن هذا التقرير لا أساس له. مع هذا  لم يكن امام الجهات الأمنية من مندوحة إلا التخلص من قداسته  بطريقة هادئة وسرية وعن طريق تسميمه وقتله وبنفس الطريقة التي قتل المناضل التاريخي ماليك ياقو ماليك إسماعيل وعالم الآشوريات فرد تميمي وعن طريق وضع نوع من مركبات الزئبق البطيئة التسمم في طعامه. غير أن الشخص المكلف بإرتكاب هذه الجريمة بحق قداسته غلب عليه ضميره النقي وحبه وتقديره لقداسته فتردد ولم يقم بما أمر به من قبل الجهات الأمنية فكان عليه أن يدفع الثمن غاليا... لا بل غالياً جداً ... فأصبح مصيره مجهولاً وإلى الأبد. هذا الأمر، لكونه حساساً ومؤلماً خاصة لعائلة هذا الشخص الكريمة والنبيلة أصبح نشره بحدود ضيقة جداً إحتراماً وتقديراً لهذه العائلة وإحتراماً وتقديساً لمكانة قداسته قبل إنتقاله إلى الأخدار السماوية.

أسردنا أعلاه الظروف الموضوعية التي عاش فيها قداسته والتي منها أستمد فكره القومي وتأثر بها الى درجة إداركه التام وتفهمه العميق لمغزى وأهمية الوحدة القومية بين أبناء شعبنا والتي فرضت على قداسته أن يعطي أولية لها وسبيلا لتحقيق الوحدة الكنسية. ولكن ما هو هذا الإدارك وتفهم هذه الحقيقة الموضوعية ليعطي لهذه الوحدة أهمية تضاهي أهمية وحدة الكنيسة.
 
لماذا وحدة شعبنا القومية هي التي تحقق وحدة الكنيستين الآشورية والكلدانية؟؟:
-------------------------------------------
لو أخذنا  المعايير الفكرية والقومية وحتى السياسية المعتمدة في حياتنا ونشاطنا السياسي والقومي كمقياس لقياس الفكر القومي لقداسته وتفهمه للواقع القومي لأمتنا سنجده فعلاً بأنه "سياسي" وقومي من الدرجة الأولى. كان يعرف قداسته حق المعرفة بأن معظم، لا بل جميع أحزاب وتنظيمات أمتنا سواء أكانت آشورية أو كلدانية أو سريانية تجمعهم في التحليل الأخير أهداف مشتركة لا بل موحدة ويشكلون قومية واحدة. فلا إختلافات ولا تناقضات فكرية وأيديولوجية بينهم فكل ما في الأمر هو إختلاف في المواقف والتوجهات التي بعضها محكومة بالمصالح الضيقة والتأثيرات العشائرية والقروية وحتى الطائفية. لهذا كان قداسته ووفق منظاره الفكري القومي يرى في جميع مؤمني فروع كنائسنا الثلاثة  أبناء أمة واحدة وأن أمر السير على طريق الوحدة بينهم سيكون أسهل بكثير عندما يتجردون من اللهوث وراء المصالح الشخصية والحزبية والتأثيرات العشائرية والقريوية لأن ما يفرقهم هو ليس ثوابت عقائدية تاريخية بل عوامل هشة يمكن أزالتها بمجرد توفر الوعي القومي الصحيح. على العكس من هذا، ما يفرق بين الكنيستين الآشورية والكلدانية، رغم كونهما من أصل واحد وإيمان واحد ولغة واحدة وتقليد واحد، هو ثوابت عقائدية تاريخية وتنظيمية يصعب جداً أن لم يكن مسيتحلاً تجاوزها أو تجاهلها كأساس لتحقيق الوحدة الكنسية خاصة فيما يتعلق بمسألة الإدارة والسلطة من جهة وإستقلالية الكنيسة من جهة أخرى. فبالنسبة للكنيسة الكلدانية لا يمكن إطلاقاً، لا بل مستحيل أن تضحي بروابطها القوية والمصيرية مع الفاتيكان وإلا فقد صفتها الكاثوليكية، فظهورها منذ منتصف القرن السادس عشر كان على هذا الأساس  ولا يمكن حتى التفكير في قطع الصلة مع الفاتيكان كشرط لتحقيق الوحدة. وعلى الجانب الآخر من كنيسة المشرق الآشورية فأساس وجودها وإكتسابها لخصائصها المتميزة قائمة بالأساس على إستقلاليتها التاريخي. فعلى الرغم من الفواجي والمأساة والمذابح التي تعرضت إليها هذه الكنيسة طيلة قرون طويلة إلا أنها بقيت مستقلة ومن دون أن تفرط بإستقلاليتها رغم كل هذه الظروف القاسية والتأثيرات الماحقة عليها فحافظت على إستقلاليتها حتى بقت الكنيسة المستقلة الوحيدة في التاريخ وحتى يومنا هذا. وهناك حديث (غير مؤكد من جانبي) لقداسته يذكر بأنه قال "طالما أنا على قيد الحياة فلا تفريط في إستقلالية الكنيسة أو تغيير أسمها) وحتى بعد إنتقاله إلى جوار ربه فأن الدلائل الحالية في توجهات أحبار كنيسة المشرق الآشورية يتأكد نفس توجه قداسته في الحفاظ على إستقلالية الكنيسة وإستحالة إخضاعها للفاتيكان أو تغيير أسمها وخصائصها القومية.

كان قداسته مدركاً جيداً لهذه الحقيقة والثوابت العقائدية التي تحول دون تحقيق الوحدة بين فرعي كنيسة المشرق. فالتجارب التي خاضعها قداسته وبشكل مباشر خاصة بعد عام 1994 والمباحثات والإتصال والإجتماعات خلال الأعوام التي تلت عام 1994 سواء مع الفاتيكان أو مع الكنيسة الكلدانية سارت على خطوات عملية متقدمة وفاعلة ومنطقية جعلت من الوحدة أن تكون وشيكة وقاب قوسين إلا أنها في نهاية الأمر أصدمت بالجدران الصلدة للثوابت العقائدية (التبعية للفاتيكان والإستقلالية) فإنهارت تماماً خاصة بعد تدخل تأثيرات من داخل الكنيستين وخارجهما ساعدت بشكل فاعل ومباشر على أفشال مساعي الوحدة بين فرعي الكنيسة. هذه المسائل سبق وأن تطرقنا إليها بشكل مفصل وأكدنا إستحالة تحقيق الوحدة في ظل هذه الثواب العقائدية فقلت: ضيعنا الممكن (وهو التفاهم والتقارب والعمل المشترك بين فرعي الكنيسة) من أجل غير الممكن (وهو الوحدة بين فرعي الكنيسة).

ليس هذا فحسب، فإن قداسته كان يدرك تمام الإدراك بأنه مالم تتوفر ظروف مناسبة وموضوعية تتمثل في الإستعداد الفكري والوعي الكنسي والقومي بين المؤمين فأمر الوحدة بين الكنيستين سيكون صعباً جداً أو مستحيلاً. والدلائل التاريخية والمعاصرة تؤكد هذه الحقيقة. فعلى سبيل المثال لا الحصر كان هناك في القرن الثالث عشر الميلادي أكبر محادثات كنيسة بين المجموعة الأرثوذكسية (القسطنطينية) والكاثوليكية (روما) لقيام الوحدة بينهما "غير أنها سرعان ما تراخت وزالت لأنها تمت ... من دون تهيئة للأجواء الكنسية والشعبية"، هذا ما يؤكده نيافة المطران سرهد جمو في بحثه الموسوم (كنيسة المشرق بين شطريها، مجلة بين النهرين 1996، ص181).  كما أن محاولات الإتحاد مع الفاتيكان منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي وصاعدا لم توفق بالتمام والكمال في الإتحاد الكامل لكنيسة المشرق مع الفاتيكان وذلك بسبب الإفتقار إلى الإستعداد الشعبي والفكري والجمعي لمؤمني كنيسة المشرق فكانت النتيجة ظهور الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية. ومن تاريخنا المعاصر، نرى بأن تبني كنيسة المشرق الآشورية للتقويم الغريغوري بدلا من اليوليالي في بداية العقد السابع من القرن الماضي تسبب في إنشقاق الكنيسة وظهور الكنيسة الشرقية القديمة وسبب ذلك هو أيضاً الإفتقار إلى التوافق الشعبي والإستعداد الفكري الجمعي (القومي) الذي كان يتآكل بفعل النزعات العشائرية والشخصية. حتى أبان المحادثات والإجتماعات حول تحقيق الوحدة بين فرعي كنيسة المشرق (الآشورية والكلدانية) كان هناك نوع من "الطرطمة" والتذمر بين مؤمني كنيسة المشرق الآشورية والتخوف من الوحدة  معتقدين بأن مسعاها الأخير هو الخضوع للفاتيكان. وعلى الجانب الآخر كان يرى البعض، حتى بعض الكهنة من الكنيسة الكلدانية، بأن الوحدة مع كنيسة المشرق الآشورية سيجلب الويلات والمصاعب وغضب السلطات الحكومية على الكنيسة الكلدانية لأن الكنيسة الآشورية هي مسيسة ورجالها يتدخلون في السياسة. ومن واقعنا المعاصر الأقرب نذكر بأنه قبل سنتين، أكثر أو أقل، قرر قداسة مار أدي الثاني بطريرك الكنيسة الشرقية القديمة تبني التقويم الغريغوري الجديد للأحتفال بعيد الميلاد غير أن مجموعة من مؤمني الكنسية متسلحين بالنزعات العشائرية والشللية والمواقف المتصلبة أنتفضوا ورفضوا هذا القرار وتمسكوا بالأحتفال بعيد الميلاد حسب التقويم القديم اليوليالي.

كل ما تقدم أعلاه في إستحالة تحقيق الوحدة أو أي نوع آخر من التقارب المؤدي إلى الوحدة كان سببها الرئيسي عدم توفر الإستعداد الفكري بين المؤمنين وإفتقارهم إلى الوعي الجمعي أو القومي أو تدني مستوى هذا الوعي الذي هو بالنتيجة مصدراً مهماً في تحقيق الوحدة القومية وهو من مهمات العلمانيين وأحزابهم السياسية وتنظيماتهم القومية. وهذا الأمر الذي كان قداسته يعرفه حق المعرفة وعلى أساسه أكد:
وحدة شعبنا القومية هي التي تحقق وحدة كنيستينا
(طيب الله ذكراه ورحمه في جناته الواسعة)


غير متصل Eddie Beth Benyamin

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1627
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
الكاتب القدير أبرم شبيرا المحترم

مقالة رائعة ونشكر جهودك ...

ارفقت رابط الفيديو لزيارة غبطة البطريرك مار لويس روفائيل الاول ساكو والمطارنة الاجلاء للقلاية البطريركية ومقابلتهم لمثلث الرحمات مار دنخا الرابع الطيب الذكر .

الرابط للقراء الذين لم يشاهدوه حتى الان :
https://www.youtube.com/watch?v=EvGuyBBg4UM

اسمح لي باضافة معلومة نهاية الفقرة قبل الاخيرة من مقالتك بان قداسة البطريرك مار ادي الثاني اعلن توحيد عيد الميلاد المجيد قبل سبعة سنوات كما نقرأ في الصورة المرفقة ...
 
تقبل تحياتي وشكرا
ادي بيث بنيامين
   

غير متصل Farouk Gewarges

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 612
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
رابي ابرم شبيرا ،

شلاما

اقحام الدين بالسياسة والمفهوم القومي خطا كبير سيخنق الكنيسة ويعزلها علينا تجنبه ، كيف تتوحد الكنيسة اذا اولينا الشعب ـ الكلدوآوريين السريان ـ قوميا والجواب ياتيك سلبا وبوضوح من الانشقاق الحاصل بين شطري الكنيسة  الاشورية ولكل شطر بطريركها ـ التقويم الحديث والتقويم القديم ـ.
نظرة غبطته ـالله يرحمه ـ  الى الموضوع غير صحيحة وغير مثمرة ايضا حتى اذا انتظرنا قرون عديدة اذا افترضنا امكانية ذلك ، نظرة البطريرك ساكو هي الاصوب لحل المسالة .

فاروق كوركيس - كاليفورنيا

غير متصل albert masho

  • عضو مميز جدا
  • *****
  • مشاركة: 2017
  • الجنس: ذكر
    • مشاهدة الملف الشخصي
من هو في منصب رئيس الكنيسة في جميع الاطراف غير جديين في قرار الوحدة لان الوحدة تحتاج الى كثير من التنازل من جميع الاطراف مع وجود قادة ذو شخصية قوية وهو الذي نفتقده منذ مدة طويلة كذلك الى من يضع مصلحة كنيسة وتعاليم السيد المسيح في المقدمة وكذلك لا يمكن ان نبدء شيء بدون وجود المحبة التي يجب ان تكون هي رأس الزاوية لان بدونها لا يمكن سوا ان نضيع الوقت في الكلام عن وحدة هي بعيدة التحقيق في الوقت الحاضر على الاقل.