التزاوج اللغوي بين مجموعة اللغات السامية
الجزء السادس
بقلم: ميخائيل ممو ما تشهد له شعوب العالم القديم والحديث عن دور الدين والسياسة على الوجود اللغوي، له تأثيره الواضح والجلي على تركيبة الدولة في سلطاتها الثلاث للهيكل الحكومي إلى جانب صدى السلطة الرابعة التي أصبحت اليوم أكثر دوياً لنشر الوعي والتأثير على الواقع المُعاش، وعلى شكل خاص ومتميز حين تتواجد لغتان أو أكثر في منطقة معينة بحكم ستراتيجيات السيطرة السياسية والإثنية للمناطق الجغرافية، إلى جانب نزعة الإستحواذ الديني أيضاً بمذاهبة المختلفة وفرض السيطرة. وأحياناً عادة ما تتسم بعض الشعوب الأثنية بالمرونة والتقبل رغم سعة المساحة التي تفرض وجودها عليها، مثلما أتبع الفرس اللغة الآرامية بأبجديتها المبسطة وتراكيب جملها وصرفها بانتشار استعمالها في المناطق التي كانت تحت نفوذها، وأبعد من ذلك بحكم التعامل التجاري والمراسلات والعقود، ومن ثم قدوم الزحف العربي الذي أودى بالوجود اللغوي الآرامي الذي انتشر لحدود كبيرة خارج دائرة الحكم الفارسي. وهنا لا نستثني لغة الشعب السومري بعد الحكم الأكدي فالبابلي والآشوري بإمتزاج لغتيهما تحت تسمية البابلية الآشورية أو الآشورية البابلية وفق المعجم الأكدي، وبالتالي تأثيرها المباشر على اللسان الآرامي وعكس ذلك بتداخلهما معاً، وعلى العربية التي استمدت ما لا يحصى من المفردات التي تفتقر اليها في حينها ليتم اعتمادها في إطار الكلمات المعربة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أسماء أشهر السنة، الأرقام والأعداد، أعضاء جسم الإنسان كالإذن والفم واللسان واليد والكتف وغيرها، وأسماء العلم مثل سخريا أو زخريا لتصبح زكريا وشمائيل لتكون اسماعيل وأوراهم لتصبح إبراهيم وأسماء بعض الحيوانات كالنمر والذئب والثور والنسر والعقرب وغيرها مما ذكرنا التي لا مجال بالإشارة اليها لسعتها. ولمن يود معرفة ذلك عليه بالمعجم الأكدي البابلي الآشوري من منشورات المجمع العلمي العراقي، ومحاضرات الأستاذ المستشرق ج. برجشتراسر استاذ اللغات السامية في جامعة ميونخ وغيره، ناهيك عن الألفاظ اللهجوية المتداولة في العامية التي أشرنا إلى البعض منها في بحثنا السابق وفق ما ذكره العلامة اللغوي المرحوم انستانس الكرملي في مجلته "لغة العرب" وجرجي زيدان في سلسة مؤلفاته عن تاريخ آداب اللغة العربية وغيرها من المصادر العربية والأجنبية على يد المستشرقين. وللإيضاح أكثر استقينا الكلمات الواردة في الجدول أدناه بالحرف العربي على ضوء طريقة مصطلح الصياغة الكرشونية التي تعني كتابة لفظ الكلمة الآشورية بالحرف العربي.
نستدل من النماذج المذكورة في الجدول أعلاه عن تشابه المفردات في معانيها وتوارثها عن الأكدية أي اللغة البابلية الآشورية رغم تفاوت استبدال حروف الشين والسين والتاء والحاء والخاء والكاف لإسباب نطقية أو لفظية لكل مجموعة أو شعب من الشعوب المذكورة.
وقس على ما بيناه في الجدول المنوه عنه عن الألفاظ القرآنية الدينية المُستقاة التي منها الهيكل والسماء والملك والإسم والنفس وغيرها المتوارثة عن التطور الحضاري واللغوي بعد الميلاد ومنها السلطان (شولطانا)، الصلاة أو الصلوات (صلوتا)، الشيطان أي إبليس (ساطانا)، الفردوس (پرديسا)، القسيس (قاشا)، المسيح (مشيحا أو مشيخا)، جهنم (گيهانا)، الصيام (صوما)، طوبى (طووا)، فرقان (پورقانا، ڤورقانا)، القداس (قوداشا) الكفر(كوپرنيا أو كوفرنيا)، النذر (نِذرا أو نِدرا)، الروح (روخا أو روحا)، الرحمة (رخموتا) وغيرها التي أثرت في اللغة العربية الأدبية الفصيحة. علماً عن تواجدها في العبرية الحديثة أيضاً وفق ما تشير اليه المصادر التاريخية. هذه دلالة على تداخل الآشورية / السريانية / الآرامية وتزاوجها مع العربية بدلالة الجذر اللغوي المشترك لها مع الفارق اللفظي البسيط مقارنة بقواعد الكتابة الصحيحة، حيث نجد في الآشورية اتصافها بألف الإطلاق كتابة ولفظاً، بينما السريانية والآرامية تدون بذات الحروف وتلفظ نهاياتها بالواو والعربية بالضم أو التنوين والعديد من الحبشية الأثيوبية حسب لهجاتها المتعددة بالياء للمفردة الواحدة حسب ما يلي: ( اليوم: يَوْما، يَومو، يومٌ، يومي ) واللفظ ما بين الآشورية والسريانية قد يكون لأسباب دينية لاهوتية حتمت عوامل الإنشطار الكنسي بين المذهب اليعقوبي والنسطوري في النصف الأول من القرن الخامس الميلادي (451 م.)، ليسري مفعولها على اللغة أيضاً وذلك بتغيير رسم شكل العديد من حروف الأبجدية بخط مختلف له ذات الصفات النطقية، وإستعارة الحركات اليونانية الشبيهة على ما هو في العربية كالضمة والفتحة والكسرة في حال تشكيل الحروف لتفريقها عن الحركات الشرقية من أتباع المذهب النسطوري المتمثلة بالنقاط فوق وتحت الحروف.
ولكي لا يغيب عن بال القارئ ويكون على علم بأن هناك من الكلمات في حقول متفاوتة تشترك فيها كافة اللغات المنضوية تحت فصيلة المجموعة السامية كالعربية والعبرية والأثيوبية. نضيف هنا البعض من الكلمات كإشارة لذلك ومنها اللهب والبرق، القمح والدبس والسكر، والطحن والطبخ والقلي، ثم العدد الكبير من الأفعال: علا وقدم وقرب وبكا وصرخ وذكر وسأل ولبس ونقل وركب وقرص وقدس وخطئ وذبح وبارك وفتح وغيرها.
ومما ينبغي الإشارة اليه أن العربية اتسعت دائرتها بحكم الفتوحات الإسلامية وهيبة النصوص القرآنية والعلاقات التجارية سواء مع الآراميين في دمشق، والفرس في الحيرة والمدائن، والحبشة في حينها واليمن وما تم ترجمته عن اليونانية بواسطة الآشورية والآرامية السريانية كما تسمى، وذلك في مجال العلوم الفلسفية واللاهوتية وبشكل خاص في أوائل انتشار الدعوة المحمدية وسعة انتشارها في بلدان الشرق، وعلى وفق متميز في بلاد ما بين النهرين من العصر العباسي والأموي. وكان لتلك التأثيرات دورها في الصياغات اللفظية كقلب صوت الحرف كما هو حال التداخل بين الفارسية والعربية في العديد من الأصوات ومنها قلب حرف الهـاء إلى الحاء، ومن (گ) إلى الخاء، ومن العين إلى الألف، والكاف بالقاف، ومن الشين إلى السين التي أصلها أبريشم لتصبح أبريسم ، وكما في الآشورية في كلمة "شولطانا" لتصبح بالعربية "السلطان" و "شوقا" لتصبح "السوق" و"شعتا" إلى "ساعة" و "شبيلا" إلى سبيل وشبلا إلى سنبلة وغيرها مما لا يحصى من الأمثلة. وفي هذا المنحى هناك العديد من الحروف المستبدلة بحروف أخرى في اللفظ بين القبائل العربية قبل الإسلام تم الإشارة اليها في بحثي الموسوم "جذور اللغة العربية" المنشور في الشبكة العنكبوتية بغية الإطلاع عليه. ولا يفوتنا أن نذكر أيضاً عن لغة منطقة معلولا وبخعا وجبعدين في سوريا لبعض الحروف بألفاظ مغايرة وفق ما تبين لي من خلال مقابلتي لأعمر رجل في السن حين طلبت منه تلاوة الصلاة الربانية بغية تسجيلها وهو يلفظ الجيم بالغين مع إضافة بعض المفردات العربية، حيث أنه من الممكن أن نسوغ هذا التغيير بتأثير اللفظ الأكدي على الآرامي فالسرياني ومن ثم اللغات الأخرى، كما هو الحال لدى شعوب الدول الغربية الذين لا يستطيعوا لفظ الحاء والقاف، وكذلك من مهاجري شعوب الشرق الأوسط إلى الدول الأوربية من صعوبة لفظ صوت بعض الحروف الصائتة ومنها في السويدية مثل "u ö, å, ä,y" ولغات أخرى لعدم تطبع الأوتار الصوتية عليها.
من هذا الشرح الموجز يتضح لنا عن توافق العديد من الألفاظ بين الآشورية والفينيقية والآرامية والسريانية والعبرانية والعربية والحبشية مثل ثور، عقرب، غراب، إيل، يوم، زمان، ملك وملكة وغيرها التي يصعب علينا حصرها، ونشرت أشعتها على أرض لغات أجنبية عديدة ومنها الأوربية للمفردات التي تفتقر في قواميسها اللغوية المستعارة من الأكدية مصدر التفرعات اللغوية الأخرى بتسميات مختلفة من ذات الفصيلة السامية بحكم التوافق والتداخل وفق ما اثبتوه علماء وخبراء علم اللغات من القدامى والمحدثين في العالم الشرقي والغربي، ومن أمثلة تلك المفردات التي نألفها اليوم نذكر ما يلي: الزعفران، الغار، نفط، سمسم، إيل، قُطن، رُز، عنبر، قلي، ناس، فردوس، أرض، عين وغيرها مستعملة وفق الفاظ اللغات المعنية لإغناء تراثها اللغوي.
وفي الجزء السابع سنلقي الضوء على واقع الأبجدية التي لعبت دوراً كبيراً في حياة البشرية على التدوين الكتابي برموزها المألوفة بغية الربط بين استعمالات مجموعة اللغات السامية رغم تفاوتها عن بعضها لرسم شكل الحروف.