المحرر موضوع: تيسير قـبّعة غيمة فضيّة في فضاء الذاكرة  (زيارة 903 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1284
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
تيسير قـبّعة
غيمة فضيّة في فضاء الذاكرة
عبد الحسين شعبان

سبقته شهّرته.

لم أكن قد تعرّفت عليه شخصيّاً، لكنّني كنت قد سمعت عنه وقرأت بعض أخباره، بصفته رئيساً للاتحاد العام لطلبة فلسطين. مرّ الاسم عليّ أكثر من مرّة، وخصوصاً بعد عدوان حزيران (يونيو) العام 1967. بعد أشهر قليلة وصلتنا من براغ (رسالة) عن طريق الحزب الشيوعي، وهي عبارة عن لفافة ورق خفيف ملصقة بشريط، وهو ما كنّا نستخدمه في العمل السرّي. ربّما كان التاريخ في شهر كانون الأول (ديسمبر) 1967، أو أنّ الرسالة مذيّلة بهذا التاريخ (أواخر كانون الأول/ ديسمبر/ 1967).
مضمون الرسالة الموجّه إلى سكرتارية اتحاد الطّلبة العام في الجمهورية العراقية، يبلغنا باعتقال المناضل الطلابي تيسير قبّعة، الذي ألقت السلطات الإسرائيلية القبض عليه خلال "تسلّله" للأرض المحتلة لمهمّات نضالية. وكان قبّعة، إضافة إلى مسؤولياته المهنية، عضواً قيادياً في حركة القوميين العرب، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لاحقاً حين تم تشكيلها بعد العام 1967.
 كانت براغ حينها مقرّاً لاتحاد الطلاّب العالمي، بل تكاد تكون مركز تنسيق للحركة الشيوعية، حيث يوجد فيها أيضاً، اتحاد نقابات العمال العالمي، واتحاد الصحفيين العالمي، ومجلة "الوقت"، التي سمّيت لاحقاً مجلة "قضايا السلم والاشتراكية"، وهي المجلة النظرية للأحزاب الشيوعية والعمّالية.
بقي لاسم تيسير قبّعة رنين خاصّ في ذاكرتي، جزء منه هو لمعان سواعد شبّان وشابات المقاومة، والأحلام الكبيرة التي حملناها. وبحكم مسؤولياتي المتواضعة في العمل المهني آنذاك، قرّرنا تنظيم حملة لجمع تواقيع للمطالبة بإطلاق سراحه وإدانة العدوان الإسرائيلي، خصوصاً وأن النقاش كان داخلنا يفور لدرجة الغليان: هل شعار "كلّ شيء إلى الجبهة" هو الذي يستحقّ أن نعمل تحت لوائه، أو شعار "كل شيء من أجل المعركة"، ولم يكن ذلك بمعزل عن نقد أو حتى بعض تشكّك بموقف الاتحاد السوفييتي، واستعادة لمواقف سابقة، وخصوصاً موقفه من قرار التقسيم العام 1947، ولعلّ الفارق بين الشعارين كان واضحاً، وكنّا قد دخلنا في سجالات وحوارات متنوّعة ومفتوحة بعد 5 حزيران (يونيو)، شجّع عليها أجواء الانفراج النسبي، وتطوّع عدد منّا مع المقاومة الفلسطينية، حيث أقمنا علاقات طيبة معها وبمختلف توجّهاتها.
ولم يكن الجدل والنقاش الدائر، المباشر منه وغير المباشر، بمعزل عن قراءات انتقادية وتساؤلات معرفية ومراجعات تاريخية وتوتّرات بين بعضنا البعض، وبيننا وبين قوى أخرى قومية، ومنها سلطة عبد الرحمن عارف التي كانت تحتفظ بمئات الشيوعيين خلف القضبان، بمن فيهم عدد من العسكريين الذين تطوّعوا خلال العدوان الإسرائيلي واندلاع المعارك بإرسالهم إلى جبهات القتال، وتعهّدوا بإعادتهم بعد الانتهاء منها إلى السجون، وتلك واحدة من مفارقات الوضع السياسي في العراق، ومن مآثر الشيوعيين ونكران ذاتهم أيضاً.
وركّزنا في حملتنا لإطلاق سراح تيسير قبّعة، على إدانة العدوان الإسرائيلي والتشديد على حماية حياته، وإبداء القلق بشأن مصيره، وتحميل السلطات الإسرائيلية عن أي أذى قد يلحق به، وعن أية مخاطر قد يتعرّض لها.
لا أتذكّر كم من التواقيع جمعنا حينها، فقد أردنا إرسالها على عجل إلى براغ، كما كنّا آنذاك في سباق محموم مع مجموعة أخرى من الزملاء كانت قد أخذت الغالبية الساحقة من تنظيمات الاتحاد والتنظيمات الحزبية معها، فضلاً عن أن موقفها كان أكثر راديكالية من موقفنا في عُرف تلك الأيام. والمقصود بذلك هو مجموعة القيادة المركزية، حيث انشطر الحزب الشيوعي في 17 أيلول (سبتمبر) العام 1967 إلى جناحين، الأول حمل اسم اللّجنة المركزية والثاني حمل اسم القيادة المركزية.
نجحنا بمعاناة وجهد، وليس دون أخطاء ارتكبناها، وفشلنا في مواقع أخرى في جرّ أوساط أخرى إلى جانبنا، وكانت علاقاتنا الوطنية والعربية، إضافة إلى العالمية جيّدة، قياساً إلى ضعفنا على مستوى التنظيم الذي انحاز إلى الطرف الآخر، ناهيك عن الجمهور الذي كانت حماسته تزداد لجانبه.
حملتنا لإطلاق سراح تيسير قبّعة، قرّبت قوى قومية عربية منّا، فنحن كنّا من بادر، ونحن كنّا من قام بمخاطبة الجهات العربية والعالمية، بما فيها اتحاد الطلاب العالمي، واستجابة إلى ندائه، وكان حينها نوري عبد الرزاق لا يزال أميناً عاماً لاتحاد الطلاب العالمي، ولذلك فإنّ عملاً من هذا النّوع، إضافة إلى كونه تضامناً مطلوباً وواجباً سياسياً وأخلاقياً ووفاء لعلاقات الصداقة، فإنه في الوقت نفسه، كان عملاً نضالياً إنسانياً، منحنا حضوراً أكبر، بل أظهرنا أحياناً أكبر من حجمنا بكثير، وعلى الرغم من كوننا مجموعة صغيرة، إلاّ أن حماستنا وتحدّينا وطموحنا، كان كبيراً، مع قلّة تجربتنا.
ربّما كانت مثل هذه العلاقات، ولا سيّما العربية، تعويضاً عن ضعفنا في جوانب أخرى، لكنها كانت توجّهاً صحيحاً لقي التفاتاً من جانب الأصدقاء العرب. وأتذكّر أننا في كل مناسبة كنّا نقيمها كان عدد من الشخصيات العربية، والطلابية بشكل خاص يحضر معنا، ويشارك في فعاليتنا على الرغم من الظروف السريّة، سواء في جزيرة أم الخنازير أو في بساتين صفوك الجبوري (والد الرفيق طه صفوك) في الراشدية، أو حتى في بعض البيوت، حين استضفنا فتحي الفضل الأمين العام لاتحاد الطلاب العالمي من السودان، وكتجمن من ألمانيا الديمقراطية نائب الرئيس، في اجتماع في أحد البيوت، في بغداد الجديدة، خلال زيارتهما إلى بغداد كبعثة لتقصّي الحقائق بشأن الانتخابات الطلابية، وقد رافـقناهما طيلة فترة وجودهما حميد برتو وأنا.
***   ***   ***
حكم على تيسير قبّعة ثلاث سنوات، قضاها في السجون الإسرائيلية، وحكى لي ماذا حصل له عند لقائنا الأول في براغ، ثم في براتسلافا، حينما حضرنا المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي.
كنت قد وصلت إلى براغ بعد رحلة مضنية، حيث اضطررت قبلها للاختفاء بعد صدور أمر إلقاء القبض بحقي العام 1970، في الوقت الذي كنت رئيساً للوفد المفاوض في مجالين: الطلبة والجمعية العراقية للعلوم السياسية التي انضمت جمعية إلى الحقوقيين العراقيين لاحقاً. كانت وجهتي الأولى بيروت، ومن البصرة اخترت الطريق البريّ عبر سفوان إلى الكويت بوسائل مختلفة وبمساعدة فنيّة، ومنها إلى دمشق فبيروت، ومن هناك كتبت رسالة إلى ماجد عبد الرضا على عنوان مجلة الثقافة الجديدة، (الشارع المتفرّع من شارع سينما الخيام في الباب الشرقي)، حسب الاتفاق باسم: عمر محمود، أبلغته فيها أن العلاج جيّد والوالد بخير، واستبعد الأطباء العملية، وهي الرسالة التي اتفقنا عليها.
اتصلتُ بالحزب الشيوعي اللبناني، وكان عندي تلفون الرفيق نديم عبد الصمد، فأبلغوني أنه في الجبل، وكلّمني قائلاً إنه سيعود بعد ثلاثة أيام، والتقيت به بعد عودته، وكان قد طلب مني التنسيق مع خليل الدبس وخليل نعّوس لحين اللقاء به. وزرتُ صحيفة الأخبار الأسبوعية (خلف سينما ريفولي في ساحة الشهداء)، وكان الحزب الشيوعي اللبناني يصدر إضافة إليها صحيفة النداء اليومية (4 صفحات)، والرفيق الدبس كان من قيادة الحزب الشابة آنذاك، أما نعّوس، فهو من قيادة منظمة بيروت، وعمل في جمعية الصداقة اللبنانية ـ البلغارية، واغتيل في 20 شباط (فبراير) العام 1986، وقد اغتيل بعده بأربعة أيام المفكر والصحافي الشيوعي القيادي سهيل الطويلة، وكان حينها عضواً في المكتب السياسي ورئيساً لتحرير جريدة النداء.
وقام الرفيقان "الخليلان" كما أسميّتهما بمرافقتي وتأمين اتّصالاتي، واستمعا مني إلى تفاصيل الوضع في العراق، وتدهور العلاقة مع حزب البعث، ودوّن أحـد الصحفيـين، - ولا أتذكر اسمه - المعلومات والأخبار التي نقلتها، وفي اليوم التالي ولبضعة أيام، كانت النداء اليومية والأخبار الأسبوعية، قد حملت باقة أخبار جديدة عن الوضع في العراق، وبشكل خاص عن ملاحقات الشيوعيين، ونسبت الأمر إلى مصادر خاصة من داخل العراق.
ثم أجرت معي صحيفة الراية التي كانت تمثّل الاتجاه القريب من تنظيم حزب البعث السوري، وفيما بعد مجموعة (صلاح جديد)، مقابلة مطوّلة نشرتها على عددين ليومين متتاليين، ووضعت العنوان على الصفحة الأولى: "هارب من العراق يروي قصص رهيبة عن قصر النهاية"، وقد أخذت العددين معي، وسلّمتهما إلى مهدي الحافظ في براغ بعد وصولي إليها، واطّلع عليها آرا خاجادور الذي استقرّ في براغ بسبب تدهور العلاقات مع الحزب الحاكم.
طلبت من الحزب الشيوعي اللبناني، تأمين اللّقاء مع غسّان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف، وكنت قد قرأت له بعض كتبه ودراسات في الستينات، أتذكر منها: تعريفه بشعراء المقاومة، وخصوصاً محمود درويش، وسميح القاسم، وعن الأدب الصهيوني، إضافة إلى روايته الشهيرة "رجال في الشمس"، وبادر بإهدائي روايته "أم سعد"، وهي من الكتب التي أعتزّ بها، وبقيت معي في براغ، وحين عودتي حملتها في حقيبتي اليدوية، ولم أضعه في حقائبي مع حاجياتي وكتبي التي شحنتها إلى بغداد، وقد تمّ مصادرتها لاحقاً مع مكتبتي وثلاث مخطوطات، كنت قد أعددتها للطبع من قبل الأجهزة الأمنية العراقية، بعد احتلال منزلي ومكوثهم فيه لخمسة أيام، في حين كنت قد غادرت العراق قبل ذلك. وكان همّي الأول بعد شرح طبيعة تعقيدات الوضع في العراق، هو السؤال عن تيسير قبّعة.
استقبلني غسّان كنفاني بابتسامة عريضة في مقرّ المجلة في كورنيش المزرعة على ما أتذكر، طمأنني أنّ تيسير قبّعة بخير وتوشك مدّة المحكومية على الانتهاء، ولذلك يتطلّب الأمر استمرار الحملة لإطلاق سراحه، خوفاً من أن السلطات الإسرائيلية قد تحتفظ به أو تحاول المداورة بتوجيه تهم جديدة له. طلب من المصوّر تصويري لأرشيف المجلة، وخلال حديثي معه كان أحد الصحفيين يدوّن بعض ما أقوله. لا أتذكّر إن كان قد نشر شيء بعد مقابلتي أو لم ينشر، لكنه على ما أذكر جيداً، كان يتمنى أن تنصب جهود الوطنيين واليساريين لمواجهة العدوان الصهيوني والمخططات الامبريالية.
ذكّرني الأخ صلاح صلاح، وهو الصديق العزيز الذي تستمر صداقتنا لعقود من الزمان، أنه سمع أول مرة عنّي من غسّان كنفاني، وقبل أن يلتقيني، إضافة إلى قيادات فلسطينية لاحقاً، حيث جاء اللّقاء الأوّل بيننا بعد ذلك بسنوات، لكننا كنّا نعرف بعضنا قبل هذا التاريخ، وهو ما تناوله بشيء من التفصيل في كلمته عند تكريمي في بيروت العام 2006.
كم حزنت لفقدان ذلك المبدع اللاّمع وهو في ربيع عمره وفي أوج عطائه، فلم يتجاوز السادسة والثلاثين (36 عاماً)، خصوصاً وقد استكمل أدواته الفنية، ونضجت تجربته، لكن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) كانت له بالمرصاد، حيث تجرأت على تفجير سيارته في منطقة الحازمية في 8 تموز (يوليو) العام 1972، وكانت تلك واحدة من الصدمات التي صُعقت بها، وما زاد ألمي هو محاولة اغتيال العقل الفلسطيني والمثقف الفلسطيني والإبداع الفلسطيني. والفلسطينيون لم يقدّموا مناضلين ومقاومين كبار فحسب، بل مبدعين كبار مثل غسّان كنفاني، ومحمود درويش، وإدوارد سعيد، وإميل حبيبي، وغيرهم.
وقد أعقب كنفاني في مهمّة رئاسة تحرير مجلة الهدف بسّام أبو شريف، الذي كنت قد تعرفّت عليه في المؤتمر المذكور، ثم التقيته كثيراً، وإذا بطرد ملغوم يُرسل إليه لينفجر بوجهه بتاريخ 25 تموز (يوليو) 1972، فيأخذ إحدى عينيه وأربعة من أصابعه، ويفقد جزء من سمعه، وبقيت بعض شظاياه "تطرّز" صدره، ولا يزال يحملها إلى الآن. وكانت براغ محطة أساسية لعلاجه، إضافة إلى تردّده عليها بصفته نائب رئيس اتحاد الصحفيين العالمي. وقد وقع حادث التفجير بعد أسبوعين من اغتيال غسان كنفاني.
وكانت الأجهزة الاستخبارية والأمنية الإسرائيلية تنشط في بيروت لملاحقة القيادات الفلسطينية لاغتيالها، ففي 28 كانون الأول (ديسمبر) العام 1968 قام الطيران الإسرائيلي بقصف مطار بيروت وتدمير 13 طائرة مدنية، بزعم الردّ على المقاومة. وفي 10 نيسان (أبريل) 1973 استهدف الكوموندوس الإسرائيلي في عملية قرصنية كمال عدوان عضو المجلس الوطني الفلسطيني ومسؤول الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية، مع زميليه الشاعر  كمال ناصر وعضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمد يوسف النجار (أبو يوسف).
طلب مني مهدي الحافظ كتابة تقرير شامل عن نشاطي ليرسله إلى المكتب السياسي، وكتبت تفاصيل لقاءات أخرى لا مجال لذكرها. وكان من المؤمل أن أصل إلى روستوك (ألمانيا الديمقراطية)، حيث وصل عامر عبد الله لحضور المهرجان، لكنّني لم أتمكّن من الوصول لبقائي نحو شهر ونصف في بيروت، وفي الطريق الطويل حتى وصولي إلى براغ، حيث مكثت في إسطنبول، ثم صوفيا ومنها إلى براغ.
تحدّثت مع اليوغسلاف أثناء زيارتي لدبروفنيك لحضور ندوة طلابية عن ضرورة تشديد التضامن مع طلبة وشعب فلسطين، وذكرت اسم تيسير قبّعة الذي يعرفونه جيداً، كان معي ضمن الزيارة علي الخالدي، طالب الطب النشيط حينها والذي يدرس في بلغراد. وقد حصلت معنا مفارقة طريفة أودُّ روايتها، وإنْ كانت خارج السياق، فحين كتبت مذكرة تطالب بوقف الحملة الإرهابية في العراق، وقّع عليها 39 منظمة، بضمنها ممثلون عن طلبة يوغسلافيا، وفي اليوم التالي فتحوا الحوار مجدّداً معنا وطلبوا شطب توقيعهم، ونصحونا بعدم نشر المذكرة، لأنها سوف تحرجهم أمام المسؤولين، نظراً لعلاقة العراق مع يوغوسلافيا.
حاولنا أن نقنعهم بأننا أشد حرصاً على علاقة البلدين والشعبين، بما فيه الحكومتين، لكن الأمر يتعلق بحملة تعرّضنا لها وكل مطالبتنا هو وقفها، وذكرت اسم عضو مكتب سكرتارية اتحاد الطلبة وعضو الوفد المفاوض لؤي أبو التمنّ، الذي تعرّض للاعتقال والتعذيب، وهو من كان قد مُنح عضوية شرف لنضاله الوطني والمهني، من جانب الاتحاد الوطني لطلبة العراق، لكن السياسة والأحزاب الشمولية لها قوانينها وشروطها، لا سيّما في تلك المرحلة.
عشية انعقاد المؤتمر العاشر لاتحاد الطلاب العالمي، وكنّا نستعدّ له، وقبله لاجتماع اللجنة التنفيذية، اضطررت بتكليف إلى تلبية دعوة لزيارة للقاهرة لحضور مؤتمر بمناسبة ذكرى ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر بعد وفاته بنحو 4 أشهر، على الرغم من صدور قبول بمباشرتي لدراسة الدكتوراه، وقدمت بحثاً فيه بعنوان: عبد الناصر وحركة التحرّر الوطني.
بعد انتهاء أعمال المؤتمر الذي انعقد في جامعة القاهرة، كان من المقرّر تنظيم سفرة لنا لزيارة سدّ أسوان. وحدّد موعد السفر، وتم تهيئة الحافلة لنقلنا إلى هناك، وقد وضعت حقائبي في السيارة المخصصة لذلك، وكنت جالساً بجانب الصديق محمد الحبوبي (رئيس الطلبة في مصر آنذاك وهو من المجموعات الناصرية)، وفوجئت بمجيء عامل الفندق راكضاً، لتسليمي برقية تقول: حاول المجيء إلى براغ لحضور اجتماع اللجنة التنفيذية، وكان التوقيع باسم مهدي الحافظ.
أنزلت حقائبي ووضعتها في الفندق، وتوجّهت إلى شركة الطيران التشيكية التي تعرف اليوم بـČeské aerolinie ، وبالإنجليزية Czech Airlines في شارع 26 يوليو فاستبدلت، تذكرتي ودفعت الفرق، وكانت العودة عن طريق لارنكا، ومنها إلى براغ، وبسبب الثلوج نزلت الطائرة في براتسلافا، وانتظرنا لبضع ساعات، ثم توجّهت إلى براغ، بعد أن فضّل عدد من الركاب خيار الذهاب بالقطار.
***   ***   ***
حين وصولي إلى براغ، عرفت أن نوري عبد الرزاق سيصل ضيفاً على المؤتمر بحكم وظيفته السابقة، وأن أعضاء الوفد هم خليل الجزائري (من موسكو) وعدنان الجلبي (من لندن) وناظم الجواهري (من بغداد). وكان وفد جمعية الطلبة الأكراد قد ضمّ نوزاد نوري وترأسه طارق عقراوي. رسمنا خطة للتحرّك، ولكن ما كان يقلقنا هو: هل سنحتفظ بالموقع (الأمين العام)؟ أم أن هناك ثمّة تطوّرات ومفاجئات؟ بدأت أشعر بها خلال اجتماعات اللجنة التنفيذية، وسألت مهدي الحافظ: هل تعتقد أنك ستبقى أو أن الاتحاد سيبقى في هذا الموقع الدولي؟ الذي كان أيضاً سبباً لخلاف مع الاتحاد الوطني خلال مفاوضاتنا في العراق؟ لم يكن متأكّداً، ولكنه كان قد تلمّس قبل غيره، عدم الرضا السوفييتي، فضلاً عن ثمة مشاكل داخلية، والأهم من ذلك هو تغيّر الموقف السياسي لصالح السودان بدلاً من العراق، (قبل إعدام عبد الخالق محجوب ورفاقه في انقلاب هاشم العطا. تموز / يوليو  1971)، والأمر ليس بمعزل عن علاقة موسكو مع بغداد.
حين وصل نوري عبد الرزاق، وبعد سويعات، جاء بالخبر: صاحبنا (طار)، لأن السوفييت لا يرغبون باستمراره، وكان ذلك يتم في الكواليس، وكان مازن الحسيني وهو ممثل الأردن آنذاك (وقيادي لاحقاً في الحزب الشيوعي الفلسطيني)، قد عبّر بصورة غير مباشرة عن احتمال إجراء تغييرات في قمّة الهرم الاتحادي، وهو ما فهمنا أنه من المحتمل أن يشمل زميلنا الحافظ. ومثل ذلك المشهد الانتظاري بقي عالقاً بذهني، وعرفت بالملموس أن تلك المنظمات الدولية، إنما يحرّكها السوفييت مثلما يحرّكون البيادق في إطار صراع محموم مع الإمبريالية، خلال فترة الحرب الباردة.
أتذكّر أطول جلسة في المؤتمر استمرت 22 ساعة قادها الروسي ساشا، وكان يمثّلهم في الاتحاد هو فلاديمير (فلوديا)، وكنّا قد ذهبنا ونمنا واستيقظنا والجلسة مستمرة، وهو لا يزال على المنصّة، بسبب خلافات مع الرومان وأحد أعضاء الوفد المغربي وآخرين.
عند وصول نوري عبد الرزاق أبلغنا بأنه تم إطلاق سراح تيسير قبّعة، وسألنا عن رأينا فيما إذا كنّا نؤيّد إرسال برقية إلى جورج حبش للطلب منه تهيئة المستلزمات لوصول تيسير إلى المؤتمر، أيّدنا ذلك بحرارة، وكنت على شغف كبير للتعرّف عليه، وهو ما كان الوفد الفلسطيني قد فعله قبل ذلك.
بعد أيام قليلة وقبيل انعقاد المؤتمر في براتسلافا التي انتقلنا إليها بعد اجتماع اللجنة التنفيذية، وصل تيسير قبّعة، وكان معي في الفندق نفسه "يوفانتوس" الذي التقينا فيه أكثر من مرّة، ولدينا ذكريات حميمة فيه، في براتسلافا التحق بالوفد الفلسطيني، وكان الوفد برئاسة أمين الهندي على ما أتذكر (فتح) ومشاركة محمد صُبيح، ومنى الشابة الفلسطينية الجميلة التي ألهبت حماس المؤتمر، وشريف الحسيني وبسام أبو شريف وصادق الشافعي وآخرين - لا أتذكرهم - وكان الوفد الفلسطيني من الوفود الكبيرة جداً.
ولكن معظم وقت تيسير قبّعة كان مع الوفد العراقي، وعندما لم يرشَّح العراق إلى منصب الأمين العام، طلب تيسير الكلام وتم منحه استثناءً، لأنه خلال الترشيح والتحضير لعملية التصويت لا يجوز التعليق أو تقديم مداخلة، وحسب نظام إدارة الجلسات (نظام روبرت رولز Robert Rules)، فإن الرئاسة لا تعطي حق الكلام في مثل هذه الأوقات إلاّ بالقدر الذي يذهب إلى التثنية على المرشحين، فحيّا اتحاد الطلبة ونضال العراقيين، وقال إنهم الأكثر جدارة على تحمّل المسؤولية، وأنه يطالب بتوجيه تحية خاصة لهم في نضالهم القاسي، وكان الوحيد الذي تحدّث، وشعر بحزن شديد. يومها كان الجميع ينظرون إلى قبّعة كبطل خارج من زنازين الاحتلال، صامداً ومتحدّياً.
عند وصول تيسير قبّعة إلى المؤتمر، طلب مني نوري عبد الرزاق أن أضعه بصورة ما يجري في العراق، وعلاقتنا مع الجهة الشعبية، والتي كان مسؤولها "أبو وائل" الذي ربطتني به علاقة طيبة، وقدّم لنا بعض المساعدات في حينها، وكنّا نتبادل الرأي باستمرار باجتماعات دورية معه في المكتب، وفي الغالب مع إيهاب نافع ومع غسان، (نسيت الاسم الثاني ـ اللقب). وكان يوسف سريّة قد تم اعتقاله وحكم عليه لأسباب أخرى. مَسَكني نوري عبد الرزاق بيده اليسرى، ووضع يده اليمنى على كتف تيسير قبّعة وخاطبه قائلاً: هذا هو جيل غوسير Gusir الجديد (أي اختصاراً لاسم اتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية) وهم من قاموا بتنظيم حملة إطلاق سراحك.
فتح تيسير قبّعة عينيه الواسعتين اللّتـان تزدادان اتّساعاً بالدهشة والتأمّل، وفيهما شيء من الاحمرار، ووضع يده اليمنى على رقبته، وقال سأبقى ما حييت مديناً للعراقيين، وحيثما أتمكّن سأكون معكم، فأنا مدين لكم ولا بدّ لي من إيفاء هذا الدين.
***   ***   ***
روى لي تيسير قبّعة ما حصل له ومعه، قال: بعد نحو شهر من الاعتقال والتعذيب كنت أنكر اسمي، لأن وثيقة السفر التي كنت قد استخدمتها هي باسم "محمد زياد تيسير" والإسرائيليون كانوا يقولون لي إن اسمك تيسير قبّعة، وأنا كنت أنكر.
قرّروا نقلي إلى سجن آخر "المسكوبية"، ثم اقتادوني إلى السيارة، خلعوا الكلبشة من يدي، وقال لي الضابط: اتفضل أستاذ تيسير. نظرت إليه بشرز، وقلت له: أنا محمد زياد، وفكّرت مع نفسي، والحديث لتيسير قبّعة، إن الإسرائيليين الذين كانوا يعذبونني جسدياً وعلى نحو أشد نفسياً ومعنوياً، ما الذي جرى لهم وأخذوا ينادونني أستاذ، لعلّ في ذلك خطة لتصفيتي، وقد وصلت إلى النهاية، واعتقدت أنهم في الطريق إلى المسكوبية، سيطلقون النار عليّ ويبرّرون ذلك بهروبي من السجن أو سيارة السجن أو محاولة الاعتداء على الحرّاس.
ويمضي قبّعة في حكايته الدرامية المثيرة فيقول: وصلت إلى السجن، ولكي أعرف العرب من اليهود، سلّمت بصوت عالي على الحاضرين بعبارة "السلام عليكم"، فردّ عليّ اثنان، عرفت أنهما عربيان، فأجلساني على فراشهما، وتحدّثا معي بلطف، ولكن أحدهما همس في أذني: ألست تيسير قبّعة؟ يقول تيسير قبّعة: امتعضت وعبّست في وجهه قائلاً: أينما أذهب يسألونني عن تيسير قبّعة، ويفسّر ذلك بقوله: كنت أعتقد أنهم دسّوا أحد المتعاونين مع الأجهزة الإسرائيلية، لاستدراجي لقول اسمي، ويبدأ بعدها مسلسل الاعتراف، كما يظنّون.
يقول قبّعة: أمهلني السجين قليلاً، فرفع غطاء فراشه وأخرج من تحته صحيفة سريّة كانت تسمّى "الجماهير" يصدرها الحزب الشيوعي الأردني، وإذا بصورتي فيها، وعنوان النداء الذي عمّمه اتحاد الطلاب العالمي لإطلاق سراحي. ويواصل تيسير قبّعة حديثه: قلت عملوها العراقيون، لأنني كنت أعرف قدراتهم التنظيمية والتعبوية، فضلاً عن إمكاناتهم وتجاربهم بشأن تنظيم حملات التضامن.
ويمضي قبّعة قائلاً: إذا كنتُ حريصاً على إخفاء اسمي وهويّتي قبل ذلك، فلم يعد بالإمكان الآن، ولكن ربّ ضارة نافعة، فقد امتنع الإسرائيليون بعد ذلك من معاملتي بتلك الفظاظة، وأخذوا يستجيبون لمطالبي السجنية، بما فيها أوقات الرياضة والتعرّض للشمس والزيارات وغيرها. منذ ذلك الوقت عرفت قيمة التضامن الدولي، وعرفت قيمة الوفاء، ووجه خطابه إليّ لا تتردّدوا أن تطلبوا منّا أي شيء نستطيع تقديمه لكم.
مضت الأيام سريعة، التقيته في بيروت بعد ذلك، وعدّة مرّات في براغ، وكان يحبّ مطعم الراعي الذي كنّا نلتقي فيه مع منيرة البياتي وسعد عبد الرزاق ومحمود البياتي في السبعينات، وفي أواخر الثمانينات، كنا نلتقي مع طارق محمود مسؤول الجبهة الشعبية وزوجته ليدا في براغ ومحمود البياتي وياسمين عمر وآخرين. كما التقيته في بغداد في إحدى زياراته في أواخر السبعينات عند عودتي، ولكن العلاقة تعزّزت في دمشق لاحقاً في الثمانينات، حين كنت أعمل في مجال العلاقات، وعرفت كم يتمتّع تيسير قبّعة بصفات متميّزة، وهو ما يحتاجه المناضل الحقيقي، فقد كان شجاعاً غير هيّاب، وصاحب مروءة وشهامة عاليتين، وله رأي في الكثير من الأحداث، ويتصرّف بصورة أقرب إلى الاستقلالية في إطار الخطوط العامة للجبهة الشعبية، لكن فلسطين تسكن ضميره وتحتلّ عقله.
***   ***   ***
كنت ملتزماً مع الهدف، بكتابة مادة أسبوعية، استمرت العلاقة على نحو متواصل لأكثر من ثلاث سنوات، إضافة إلى تكليفات وأبحاث ومحاضرات لإعداد كوادر. (وأتواصل مع الهدف إلى الآن على نحو متقطع)، وكنت قد نشرت مادة لفتت انتباه "حكيم الثورة" كما سمّاه فؤاد مطر في كتابه المهم. وقد رويت بعض محطات العلاقة مع الدكتور جورج حبش، وسأحاول اقتباس جزء من النص الذي نشرته في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 1 شباط (فبراير) 2008 بعد رحيله، لعلاقته بالموضوع، وهي بعنوان: جورج حبش - الاستثناء في التفاصيل أيضاً، وجاء فيها ما يلي:
"أعددت نصّاً كان قد كتبه ييرجي بوهاتكا بعنوان: "عندما تحدّث في يومياته..."، نشر في حينها في مجلة «المنبر» أو المنصّة العام 1974، في براغ على أربع حلقات، وكانت إحدى المستشرقات قد لفتت انتباهي إليه، وقمت في وقتها بترجمته (ولستُ بمترجم)، على أمل نشره، لكنه سرعان ما ضاع بين أوراقي في العراق التي عبثت بها يد القدر.
وبعد خروجي إلى المنفى مرّة أخرى استعدتُ النصّ، وقمت بإعداده، وكتبت مقدّمة له، ووضعت له عنواناً جديداً وهو "مذكرات صهيوني" وقد صدر بكرّاس لاحقاً عن دار الصمود العربي 1985، ونشرته على خمس حلقات في مجلة الهدف، التي تربطني بها صداقة حميمة منذ أن تعرّفت على غسان كنفاني في بيروت في العام 1970، وفيما بعد بسّام أبو شريف في العام ذاته، وصابر محيي الدين رئيس التحرير في حينها.
بعد استكمال نشر المادة، هاتفني الأخ والصديق تيسير قـبّعة، وقال لي: "الحكيم بدّو يشوفك" والتقيت به، واستفسر عن إمكانية الحصول على نص المذكرات التي تعود الى إيغون ردليخ عضو المنظمة الصهيونية "مكابي هاكير" الذي كان معتقلاً في معسكر أوشفيتز (أشهر معسكرات النازية)، والذي تعاون مع جهاز الغاستابو (1940 – 1944).
وقد توقّف الدكتور جورج حبش عند المعلومات التي وردت في المذكرات والتي كتبها إيغون ردليخ في المعتقل، الذي أعدم في العام 1944، والتي هي عبارة عن صفقة لا أخلاقية بين النازية والصهيونية، فمقابل إرسال الآلاف من اليهود إلى أفران الموت النازية، يُرسل بضع عشرات أو مئات من القيادات والمتموّلين الصهاينة إلى فلسطين، وقد تمّ العثور على تلك المذكرات في سقف لأحد البيوت الحجرية في مدينة غودوالدوف بعد أكثر من عقدين من الزمان.
جدير بالذكر، أن المذكرات كُتبت بطريقة حذرة خوفاً من وقوعها بيد جهاز الغاستابو، لكنها تفصح عن الكثير من الخبايا والخفايا حول التعاون والتنسيق بين القيادات النازية والقيادات الصهيونية، فيما يتعلق بمأساة اليهود، ناهيكم عن أنها تكشف عن طريقة التفكير الصهيونية الخاصة بالتربية والتعليم والتنشئة والعلاقات وغير ذلك.
وبسؤال "الحكيم" عن إمكانية الحصول على نص المذكرات، توقعت أن العملية سهلة ويسيرة، ولكن بعد الاتصال بصديقنا القديم موسى أسد الكريم والطلب إليه تأمين نسخة من نص المذكرات، فاجأني محدثي من براغ بعد أسبوع أن ييرجي بوهاتكا هو اسم مستعار لضابط مسؤول عن ملف النشاط الصهيوني في "تشيكوسلوفاكيا" أقيل من منصبه العام 1968، ثم سُمح له الكتابة باسم مستعار، والتقى الكريم بزوجته التي كانت تعيش في إحدى المصحات بعد وفاته بعامين، وحاول الحصول على نسخة من المذكرات حتى وإنْ دفع ثمنها، وكانت تلك إشارة من الدكتور حبش، لكنها رفضت الاستجابة لطلبه ثم امتنعت عن الحديث في الموضوع.
واستفسرتُ من الصديق حسين العامل العراقي المخضرم في براغ فيما إذا كان لديه معلومات عن الرجل، وبعد تدقيق أبلغني أن ييرجي بوهاتكا كان قد ألّف كتاباً عن النشاط الصهيوني في الدول الاشتراكية، واستلم حقوقه البالغة 50 ألف كورون آنذاك، وهو مبلغ لا بأس به في حينها، وقام بتصحيح المسوّدات، واطّلع على صورة الغلاف وعلى الكتاب مطبوعاً في المطبعة، لكن الكتاب اختفى قبل يومين (من صدوره)، ونقلت تلك المعلومات إلى الدكتور حبش الذي أصيب بدهشة وذهول مثلي وربما أكثر منّي، لا سيّما أن ذلك جرى في ظل النظام الاشتراكي السابق.
***   ***   ***
في بيروت، وفيما بعد في الشام، لم يبخل معنا تيسير قبّعة، وقدّم كل ما يستطيع بصفته مسؤولاً عن العلاقات الخارجية في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفيما بعد بصفته عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني (نائب رئيس) أو في منظمة التضامن الإفرو – آسيوي (AAPSO) أو في عضويته بمجلس السلم العالمي، فقد دعم طلبنا حين تقدّمنا باسم اللجنة الوطنية للسلم والتضامن للانضمام إلى المجلس، وخصوصاً بعد إعادة تركيبها في مطلع الثمانينات، ومفاتحة شخصيات سياسية وثقافية مهمّة للانضمام إليها، مثل الجواهري ومحمود صبري وعلي الشوك، وغيرهم.
وأذكر حين نشب الخلاف داخل الحزب الشيوعي، وتعرّض العديد من المناضلين إلى الفصل، واستخدمت بحقهم وسائل عديدة للإذلال، مثل قطع المخصّصات، وما يتفرّع عنها، من علاج ودراسة للأولاد، ووثائق سفر (جوازات) وتزكيات أمنية وغير ذلك، بادر تيسير قبّعة إلى مساعدة الكثيرين، وبطيبة خاطر.
وأتذكّر بعد فصل ماجد عبد الرضا من الحزب، تم قطع مخصص تفرّغه والامتناع عن تسديد علاج ابنته التي كانت في إحدى المصحّات اللبنانية، وتوفيت لاحقاً، وكان عليه تسديد إيجار ثلاثة أشهر، فقررنا فيها مفاتحة تيسير قبّعة بالأمر، وكان بحضور مهدي الحافظ، الذي جاء من فيينا بزيارة عمل إلى الشام، ولم نكد ننتهي من عرض المسألة على قبّعة، حتى قال عليه الذهاب إلى مجلة الهدف لاستلام راتبه الشهري، وسأبلّغ الحكيم بما حصل، (لأنه كان مسافراً).
خصَّصت الهدف أعلى راتب لماجد عبد الرضا، قياساً لما كانت تدفعه للمحرّرين الأساسيين، ولم تطلب منه الكتابة، وتعاملت معه باحترام شديد، وكان ذلك جزء من أخلاقيات صابر محيي الدين أيضاً، الذي تسنّى لي التعامل المباشر معه لفترة طويلة، وليس بمعزل عن توصية قيادات الجبهة وخصوصاً تيسير قبّعة وجورج حبش. فضّل ماجد عبد الرضا الكتابة، ولم يرغب باستلام راتب دون عمل، وكان قد كتب عدداً من المقالات في المجلة، لكن كتاباته كانت مطوّلة ومُسهبة، وبعضها ليست محلّ اهتمامهم، أو ليس لها طابع راهني، وهو ما كان يحرج رئاسة التحرير، التي لا تريد ردّ طلب لماجد عبد الرضا، ولكنها كانت تراعي الجانب المهني في الوقت نفسه. ومن رهافة حسّ رئيس تحرير وذوقه وتواضعه عمّم كتاباً، جاء فيه: إن المقالات الأسبوعية لا ينبغي أن تزيد عن 700 كلمة، أما الأبحاث والدراسات، فهي إما أن تتم بتكليف خاص للأعداد الخاصة أو للعدد السنوي، أو لبعض الملفّات، الأمر الذي ينبغي مراعاته من الجميع، وهو ما كنّا قد اتفقنا عليه معه.
أذكر حادثة ثانية لها دلالة مهمّة، كيف وقف تيسير قبّعة مع محمود البياتي في محنته في براغ، يوم تعرّض إلى مساءلات وضغوطات وتهديدات بخصوص علاقته مع "المنبر"، (المجموعة الشيوعية التي اتخذت مواقف مختلفة عن قيادة الحزب الشيوعي، ولا سيّما بخصوص الحرب العراقية – الإيرانية، وتطوّرت إلى اتجاه فكري ينحى نحو التجديد)، حيث تم تهديده بالطرد، وحرمت زوجته ياسمين من العمل في الإذاعة التشيكية (القسم العربي) بعد أن كانت قد أدّت اختباراً ونجحت فيه، لكنه لم يتم تعيينها بسبب رفض المسؤول عن التنظيم الحزبي إعطاء موافقة الحزب، وقد روى محمود البياتي تفاصيل ذلك بمرارة في أكثر من مناسبة، وكان يعدّ لرواية خاصة، لهذه الحادثة، وما تعرّض له من اتهامات وتحقيقات، وكذلك لحوادث أخرى مماثلة، استغلّ فيها المسؤولون نفوذهم مع الدول المضيفة، للتنكيل بخصومهم والنيل منهم.
قام تيسير قبّعة بالاتصال بمنظمة التضامن التشيكية، وقال لهم: يمكنكم اعتبار محمود البياتي على ملاك الجبهة الشعبية، أو منظمة التحرير الفلسطينية، أو حتى اعتباره فلسطينياً، فهو يقوم بمهمات استشارية لمندوبنا ولسفارتنا. وزكّى عامر عبد الله ونوري عبد الرزاق، ما قاله تيسير قبّعة إلى التشيك، بشرح جوانب من الخلافات الدائرة آنذاك، وبعض التصرفات اللاّإنسانية.
كانت الفيز للدول الاشتراكية، وبخاصة إلى تشيكوسلوفاكيا، تشترط بالمتقدّم أن يصرّف يومياً مبلغاً من المال بالعملة الصعبة، وهي مبالغ كبيرة ضمن حسابات تلك الأيام، ولأن الحصول على الفيز كان يتم عبر الحزب، فإن ممثليه امتنعوا، بل وجّهوا كتاباً إلى سفارات الدول الاشتراكية ببعض الأسماء، لكي لا يتم منحهم الفيز بزعم أنهم يقومون بمهمات تخريبية ضد الحزب. وقد اعتذر سمساروف السفير البلغاري في دمشق شخصياً لرفيقنا ماجد عبد الرضا عن منحه فيزا في وقتها، الأمر الذي طلبنا له جوازاً خاصاً (خدمة) من اليمن، لكي يعفى من مسألة التصريف والفيزا التي تمنح له في المطار، حسب اتفاق بين الدولتين، وقام نوري عبد الرزاق بكتابة رسالة إلى "محسن" (محمد سعيد عبد الله) لتسهيل الأمر وتسريعه.
وكنتُ دائماً ما ألتجىء إلى تيسير قبّعة، فأطلب منه ذلك لبعض الرفاق أو المرضى، ولم يردّ لي طلباً، فقد كان يتعامل بكل سخاء إنساني مع تلك الاحتياجات، وقد قدّر لي أن أحصل على الفيزا لعدد من الرفاق، كما طلبت منه عدداً من جوازات سفر يمنية، فلم يتردّد لحظة، إضافة إلى هويّات باسم الجبهة الشعبية وفرص عمل لعدد من الرفاق، وغير ذلك من التسهيلات، بما فيها لدى الحكومة السورية، وكان قد وضع توصية إلى صالح... عضو مكتب العلاقات لمساعدتنا وتلبية طلباتنا حين يكون مسافراً. وأعرف أنه كان يرسل مبلغاً شهرياً لأحد الرفاق في أوروبا وآخر في إحدى البلدان العربية.
قال تيسير قبّعة: إن التجويع ليس سياسة، بل هو انتقام، وهو ليس شجاعة، بل جبن، وهو ليس مواجهة، بل كيدية وثأر، إنه باختصار طريقة لا أخلاقية في التعامل مع المناضلين وفي الاختلاف. قال ذلك أمام عامر عبد الله، وأمام مهدي الحافظ وماجد عبد الرضا، ولذلك كان قد قرّر تخفيض الدعم المقدّم إلى الجهة الرسمية بالحزب، لكي يستطيع أن يعوّض بعضها للمناضلين كي لا ينتهوا.
أذكر ذلك الآن، لأن تيسير قبّعة الإنسان السخي والكريم، يتم التعامل معه انتقاماً بسبب الرأي، بل مع الجبهة ككل، فتقطع مخصصاته، وهو في آخر العمر ويعاني من أمراض شتى. أعرف أنّ حديثاً من هذا القبيل قد لا يرضي تيسير قبّعة، وربما يزعجه، فكم هو أبيٌ ومفعم بكبرياء عالية، ومع ذلك أكتبه لأنه يريح ضميري، وأستطيع أن أتكهّن أنه سيرضي الآلاف، بل عشرات الآلاف من المناضلين، الذين ينظرون إلى تيسير قبّعة كرمز شجاع اختلفوا أو اتفقوا معه. وكل كريم وسخي نقيض للجبن والشّح، فالشجاعة صفة لصيقة بكرم الأخلاق والقدرة على العطاء والاستعداد للتضحية، في حين أن البخل والشّح ملازمة للجبن والأنانية.
كان بعض الرفاق يعتقدون أن الفيز التي نحصل عليها هي بمساعدة دوشان أولجيك رئيس اتحاد الطلاب العالمي السابق، والسفير في دمشق لاحقاً، وفيما بعد الأمين العام لاتحاد الصحفيين العالمي، وكان أحد الرفاق القياديين قد سألني مباشرة، لكن الحقيقة وعلى الرغم من علاقتي به، لكنني لم أطلب منه ولا مرّة أية مساعدة، وكنت ألتجىء إلى تيسير قبّعة وأصدقاء آخرين، أذكرهم الآن باعتزاز: قيس السامرائي (أبو ليلى)، وخالد عبد المجيد (الأمين العام لجبهة النضال الشعبي)، وعاطف أبو بكر، وفي براغ كنا نستعين بسميح عبد الفتاح (فتح)، وطارق محمود (الجبهة الشعبية) وآخرين. ولا أريد أن أتحدث عن دور أبو عمّار وماجد أبو شرار وعبد الله حوراني، ممن قدّموا لنا مساعدات لا حدود لها.
***    ***    ***
وخلال عقد الثمانينات كنت ألتقي مع تيسير قبّعة في مؤتمرات في دمشق والقاهرة وطرابلس وعدن وأثينا وبراغ وغيرها، سواء في إطار مؤتمر الشعب العربي أو منظمات التضامن والسلم أو في عدد من الندوات الفكرية والمؤتمرات حول الإرهاب والصهيونية أو في ما يتعلق باشتراكي البحر المتوسط، وقد رويت مؤخراً لابتسام نويهض (زوجة تيسير قبّعة) ما حصل في إحدى المرّات في طرابلس مع تيسير قبّعة، فلم تكن تعرف ذلك وكذلك ابنته رانية.
كان الحوار في طرابلس حول الأزمة في حركة التحرر الوطني، (أعتقد أنه في النصف الثاني من الثمانينات)، وكانت الدعوة قد شملت القوميين بمختلف توجهاتهم، وكذلك الماركسيين بمختلف ألوانهم. وكان الحاضرون يمثّلون نخبة متميّزة، مثل كامل الزهيري ومحمد فايق وتيسير قبّعة وعوني صادق وأحمد سالم وإنعام رعد ونجاح واكيم وعبد الله الساعف، وعصمت سيف الدولة، ومبدر الويس وعبد الرحمن النعيمي وميلاد مهذبي وعمر الحامدي والحضيري وجورج حاوي وجورج البطل وعربي عوّاد وأديب ديمتري ومصطفى القباج وناجي علوش وعبد الله العياشي وعمر علي وإلياس مرقص وعبد الحسين شعبان، وقيادات من حركة المقاومة بمختلف فصائلها وممثليها في طرابلس.
وكنت أقدّم بحثي الموسوم: الأزمة في حركة التحرر الوطني: هل هي استعصاء دائم أم مجرد مصاعب مؤقتة؟ (وقد أدرجت هذا البحث الذي يعود إلى نحو ثلاثة عقود من الزمان في كتابي الموسوم: المثقف وفقه الأزمة – ما بعد الشيوعية الأولى، دار بيسان، بيروت، 2016). وكان رئيس الجلسة تيسير قبّعة، وإذا بها مفاجأة تحدث من العيار الثقيل، حين قام أحد الموجودين في القاعة، بالوقوف مخاطباً المنصّة: أنت.. إسمع: الماركسية سقطت.. نعم الماركسية سقطت.. فاعتقدت أن الأمر يخصّني، وإذا به يوجّه كلامه إلى تيسير قبّعة، قائلاً أنت يا تيسير الماركسية سقطت، خلّيكم قوميين.. لكن المفاجأة الأكبر حين لم يردّ عليه تيسير، وأنا أعرف أنه لا يتقبّل مثل هذا التحدّي أمام الجمع الكبير من المثقفين والمفكرين العرب.
كان تيسير يعرف أن موعد وصول العقيد القذافي أو الرائد عبد السلام جلّود قد أوشك، فانتظر، وبعد لحظات دخل جلّود، فقام تيسير ورحّب به وطلب منه القدوم إلى الصف الأول، بل ألحّ عليه، وحين استقرّ جلّود في مقعده، استأذن تيسير من الباحث، لكي يرحب بجلود، وإذا به يطلب من الشخص الذي تهجّم عليه الوقوف، قائلاً: "سباطّي عليه وعلى..."، نحن لا نقبل أن يزاود علينا أحد، نحن في الشعب العربي الفلسطيني لدينا شهداء يفوق عددهم سكان دول، نحن في الجبهة الشعبية نحسن الاختيار، ونعرف أين مصالحنا والأفكار التي تخدمنا والتي نتبنّاها بعد حوار ونقاش، انسجاماً مع أهداف شعبنا.
واحتدم الموقف وقام جلّود وجورج حاوي والآخرون لتهدئة الأجواء، ولاحظنا أن الذي كان قد تهجّم قبل مجيء جلّود اختفى تماماً، وذاب وكأنه فص من الملح، ولا أحد يعرف من أين أتى؟ ومن دعاه؟ ومن يقف خلفه؟ وبالطبع، فالأمر لم يكن بعيداً عن أجهزة أمنية وردود فعل للنقاشات بين الماركسيين والقوميين العرب بخصوص إشكالات حركة التحرّر الوطني، وهي إشكالات مطروحة بحدّة في تلك الأيام، لا سيّما من يقول إنها مجرد مصاعب وأخطاء ونواقص، في حين هناك من كانت تشخيصاته تقول إنها أزمة بنيوية تتعلّق بالفكر والممارسة والقيادة وأساليب العمل، تحتاج إلى مراجعة ونقد وتصويب وتعديل في الوجهة.
وحين دعاني لاستكمال إلقاء البحث الذي لم يتبقى منه إلاّ القليل، قلت له لقد أكملت، إذْ لم يكن من المعقول عندي استمرار إلقاء البحث في تلك الأجواء، وفي ظلّ الوجوم الذي اعترى الجميع، وخيّم على القاعة.
أستعيد الآن ذلك المشهد الدرامي، وكأنّه مرّ يوم أمس: كان تيسير كلّما يصعّد في الموقف ويعلو صوته، كنت أضغط بأصبعي على ركبته من تحت الطاولة لكي يخفّف، لكن تعنيفاته وتحدّياته كانت في تصاعد، واضطررت أن أضغط على حذائه لإلفات نظره أكثر، لأنني شعرت أن المسألة قد تأخذ بُعداً آخر، بعد انتهاء هذه "الحفلة"، سألت تيسير، ألا كنت تشعر أنني أحاول تنبيهك إلى ضرورة التهدئة؟ فقال لي: نعم، كنت أحسّ بما تقوم به، ولكنني دون استخدام مثل هذا الأسلوب لا يمكن أن يستمع إليك "هؤلاء"، ويقصد بعض المهووسين الذين يريدون الانتقاص من المناضلين أو المثقفين، وأظنّه كان على حق، فهو صاحب تجربة وخبرة طويلة في التعامل مع مثل هذه الأوساط، وهو ما اتّضح حين اعتذر له "الجميع" والمقصود هنا المسؤولون الرسميون.
***    ***    ***
مؤخراً حين دعتني الإعلامية والشاعرة العربية السورية نوال الحوار، للحديث مع صديق قديم عبر الهاتف، لم أكن أعرف أنه سيكون تيسير قبّعة. وبحميميّته المعتادة باشرنا فوراً بالسؤال عن الأحوال وجرّنا الحديث إلى الأهوال، وكان للأصدقاء وبعض عتب مملّح حضور في ذلك. كنت قد التقيت قبل ذلك ابنته رانية وتبادلنا الحديث عنه وأرسلت عبرها سلامات إليه، وحاولت خلال تردّدي إلى عمان الاتصال به، فأحياناً يكون خارج الأردن، أو أن زيارتي قصيرة لم تسمح للقاء، والاكتفاء أحياناً بالهاتف.
كان اللقاء في بيروت مزيجاً من مراجعات واستعادات لصداقات وأسماء ومواقف وذكريات، فقد استعاد معي بعض علاقات وخصوصيات مع عامر عبد الله وفاروق رضاعة وماجد عبد الرضا وآرا خاجادور ومنيرة البياتي وسعد عبد الرزاق ومحمود البياتي وآخرين. بعضهم رحل عن دنيانا وبعضهم الآخر حدثته عنهم.
وأعاد لي اللقاء الأخير بحضور مفكرين وفنانين ومثقفين، ستينات القرن الماضي، حين كنّا شباباً، وكان كل منّا يشعر أنه يستطيع أن ينزل القمر أو يلعب بالشمس كما يريد. لم نعاني حينها من أمراض أو عقد، ولم يكن يَدُر بخلدنا أن الحياة هكذا مملوءة بالغدر والخديعة. كنّا نحلم ونشعر بقوّة الأجساد والعقول والإرادات، وكان الحق مصدر الإلهام الأساسي لدينا.
كان الدخان يملأ الشقة الصغيرة الأنيقة وغناء خفيف يأتي من غرفة داخلية إلى الصالون، وكؤوس النبيذ أحمرها وأبيضها ترتفع وتنزل، وغير ذلك من الدنان العتيقة، تصب في الأقداح الأنيقة، شربت من كل قلبي بصحة تيسير قبّعة، وتمنيت له عمراً مديداً، بكرمه وسخائه وشجاعته ومروءته.
أوَيوجد رأسمال أثمن من ذلك أو أقيم منه؟ إنه رأسمال الكبير الذي امتلكه ماركس حين خاطبته والدته: أفضل لك أن تجمع المال لا أن تكتب المؤلفات عن الرأسمال، لكن ماركس وغيره من الذين عملوا للمستقبل، بل إن نصف عقولهم كانت له: كانوا أصحاب رأسمال كبير: هو سعادتهم في النضال من أجل إلغاء استغلال الإنسان وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، ومع تيسير قبّعة كان أمل التحرير ودحر الصهيونية واستعادة حقوق الشعب العربي الفلسطيني، وخصوصاً حقه في تقرير المصير وحق العودة، المدخل لأي تحرّر من الاستغلال ولتحقيق العدالة والمساواة.
كم كان تيسير قبّعة متابعاً لنشاطنا في اللجنة العربية لدعم قرار الأمم المتحدة 3379 الصادر في 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1975، "اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية" والذي ساوى الصهيونية بالعنصرية، واعتبرها شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصري، وكنت أتشرف بتواضع كوني أميناً عاماً لها، وكان قبّعة داعماً للجنة ونشاطاتها سواء بدعوتنا للمؤتمرات والفعاليات العربية والدولية، أو حين يطلب مني أحياناً إعداد بعض الأبحاث والدراسات عن طبيعة الصهيونية والصراع العربي – الصهيوني، وخصوصاً من الزوايا القانونية الدولية.
***   ***   ***
ابن قلقيلية الحالم بموعد تحت ظلال شجرة الزيتون وعلى ضفة الشاطىء، حيث الدهشة الأولى، لرجال صادقوا أحزانهم، في أرض الأنبياء والقدّيسين، يستحضرون التاريخ لعهود سالفة، حيث شهدت تلك البقعة مقام النبي يامين والنبي شمعون والنبي إلياس، مثلما عرفت مسجد محمد الفاتح والجامع العمري (نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب) ومسجد حجة الذي يعود إلى العهد المملوكي... لا زال يتهجّى دروس المقاومة برومانسيتها الأولى ويستعيد أبجديات الثورة بإشراقاتها، لكي تبقى القضية طازجة وطريّة لا يلفّها النسيان، أو تحفظ في الأدراج، لأنها ليست قضية لاجئين، بل هي قضية شعب له الحق في تقرير المصير.
وتشير بطاقة ابن قلقيلية إلى أنه وُلِد في 20 آب (أغسطس) 1938 وتخرّج من مدرستها الثانوية، والتحق بجامعة دمشق، واعتقل بعد الانفصال، وأُبعد إلى القاهرة، حيث أكمل دراسته في التاريخ ونال درجة الماجستير. وبعد اعتقاله وسجنه في القدس العام 1967، أبعد إلى الأردن عبر صحراء النقب في مطلع العام 1971، وانتخب عضواً في منظمة التحرير الفلسطينية (م ت ف)، وظلّ أبو فارس على صلة وثيقة باليسار العربي، وبشكل خاص باليسار اللبناني والعراقي، وبأوساط يسارية دولية في أميركا اللاتينية وأوروبا.
لتيسير قبّعة الحق كل الحق أن يفخر أنّه فلسطينيّ، فهذه الأرض حتى وإن "هطلت الحجارة" فيها على الصحراء، فإنها تستصلحها لتثمر تيناً وزيتوناً على حد تعبير إميل حبيبي، فما بالك إذا تآخى مع التمرّد وتحالف مع الحلم، وعقد معاهدة مع المستقبل، حتى وإن كان غامضاً أو بعيداً.
وتيسير قبّعة على الرّغم من كل الأحزان والمرارات والخيبات والانكسارات، في الوطن والشّتات، فإن فلسطينه الواقعية والمتخيلة، قلب بلاد الشّام وأمّة العرب، ظلّت حاضرة في عقله، يراها كلّما فتح عينيه أو أغمضهما، فصاحب العينين الواسعتين والصوت المميّز والرأي الشّجاع، ظلّت قبلته قلقيلية، وكل شيء يدلّه على قلقيلية، وأينما اتّجه تكون بوصلته قلقيلية، وحين يتذكّر قلقيلية تكبر ابتسامته وتزداد إشراقاً.