المحرر موضوع: سيناريو : رَّجْلٌ دَاهَمَهُ المَطَر!  (زيارة 1013 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل يوسف أبو الفوز

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 680
    • مشاهدة الملف الشخصي
سيناريو :  رَّجْلٌ دَاهَمَهُ المَطَر!
(بمناسبة ميلاد يوسف سلمان يوسف ـ فهد )
يوسف ابو الفوز 
 رغم البرد الخفيف ذلك المساء ، توجهتُ بحيوية الى قاعة الاحتفالات في مبنى نقابات العمال في موسكو ، وهناك التقيتك . كان يوما من أواخر اذار عام 1993 ، وكان لقاءنا الأول والأخير. ربما أكون غادرت ذاكرتك ألان (احتفظ بصورة لكِ ، بالأسود والأبيض ، وأنتِ تجلسين هادئة ساكنة في كرسي كبير يكاد يضيع فيه جسدكِ الضئيل ، لون ثوبك غامقا ، وتسريحة شعركِ الأسود القصير بسيطة ، وعلى وجهكِ يرتسم هدوء جميل ) ، هرج الحفل لم يتح حتى لرفيقي الذي قدمني لكِ أن يتحدث كثيرا معكِ ، ولم أتفوه ساعتها بأكثر من : لي الشرف ! أريد ألان ، بعد كل هذه السنين ، ان أتحدث اليكِ ، ربما تعويضا عن ذلك المساء الصاخب . كان بودي يومها ان أحكي لك أشياء كثيرة ، منها ان لي أختا في العراق البعيد ... البعيد ، الذي اضطررت الى الهروب منه منذ سنين طويلة ، في رسائلي السرية المرسلة لها عبر دروب ودروب ، اخترت لها اسمك : سوزان ! اليوم أود ان أحكي لك عن أشياء عديدة منها : نمو النخيل في جبال النرويج !
سوزان ... ليس في الأمر دعابة ، فأنا جاد تماما !
في 1935 كان ثمة رجل عراقي ، وصل مدينة موسكو ، ويوما ما من تموز ، كان يتنزه في حديقة غوركي ، وفجأة داهمه مطر صيفي غزير ( لاحظي يا سوزان ... دائما ثمة مطر في حكايات العراقيين ) ، فالتجأ ومترجمته الخاصة الى شقة صديقتها. كان اسم الصديقة " أرينا جيورجيفنا " * ( أنت تعرفين تفاصيل الحكاية ومع ذلك أعيدها لك ألان بترتيب يناسب رغبتي في الحديث معك ) فيما بعد ، وهي تقص ذكرياتها عن ذلك اليوم ، قالت السيدة أرينا جيورجيفنا وفي عينيها يلمع بريق الوفاء :
ـــ فجأة سمعت على الباب دقات متسارعة . فتحته فوجدت أمامي صديقتي المترجمة وخلفها رجل شرقي الملامح ، متوسط الطول ( في مذكراته وصفه الجواهري انه : اقرب الى القصر ! وقال اخرون عنه ومنهم زكي خيري انه : مربوع القامة ، متين البنيان ) ، في الثلاثينات من عمره ( تعرفين جيدا ويعرف الكثيرون انه مواليد 1901) ، وكانا مبتلين بالمطر .
مطر ... !
كيف كانت ستسير الأمور ــ يا سوزان ــ لو لم يهطل المطر ؟ كيف كان لحكايتنا ان تزهر لأرويها لك وللاخرين من دون المطر ؟ هل كان يمكن لسياب جيكور ان يكتب أناشيد الوجع العميق عن ذؤابات النخيل وأناشيد الصيادين الفقراء من دون المطر ؟ وهل كان يمكن لاغاني الأمهات المترعة بالوجد والشكوى ان تعشوشب بالامل من دون المطر ؟
مطر ... مطر يا حلبي أشعندك أبيت الجلبي ؟
مطر ... مطر يا قداح عبر بنات الفلاح
مطر ...
لك ان تصلي يا سوزان للمطر ، فبين الرجل الغريب ، الثلاثيني ، والسلافية الفاتنة أرينا جيورجيفنا ، ولدت حكاية :
ــ مكثا في بيتي فترة ، تحدثنا فيها عن مواضيع عديدة ، كان هذا اللقاء كافيا لكي يجعلنا ، أنا واياه ، نرتبط بصداقة وثيقة ، كانت علاقتنا تتوطد باستمرار بعد اللقاء الأول ، وكنا نتجول في شوارع موسكو حتى الصباح أحيانا .
ينقر المطر في موسكو بلاط الساحة الحمراء ، قباب الكرملين ، شوارب ستالين الكثة في صوره المرفوعة فوق كل سارية ، وقرميد بيوت العمال ، وهم يحتسون "السماغون " ** ويدخنون تبغا رخيصا ، ويتبادلون هواجسا شتى لا تمنعهم من الحلم بيوم جديد يمنح الانسان فجرا لا مثيل له ، ويداعب وجنتي الفاتنة أيرينا جيورجيفنا ، وهي تشد بقوة على أصابع الرجل القادم من خفايا الف ليلة وليلة ، من هوسات فلاحي ثورة العشرين ، من إضرابات عمال موانئ البصرة ، من البيانات السرية الاولى ... ناثرا الآمال والأسرار والسعادة في ايامها التي ارتبطت بأسمه :
ـــ تحسستُ مشاعره الرقيقة نحوي قبل ان يبوح بها مباشرة .
ومثلما في مواقف عديدة وردت في سيرة حياته اللاحقة ، حسم رجلنا المداهم بالمطر أمره :
ـــ عندما اختمرت فكرة الزواج عنده صارح والدتي قبل ان يصارحني ، كان متأكدا من قبولي ، وقد أبدت والدتي في البداية تخوفا من ارتباطي برجل غريب ...
كانت أم أيرينا تخشى الغموض الذي يلف شخصية هذا الغريب ، الذي يتحدث مع الجميع عن كل شئ عدا حقيقة شخصيته .
ــ كنت أريد ان اعرف كل شئ عنه وعن بلاده ، لكنه كان يتهرب من ذلك ، وكان أساسا يتهرب من رغباتي في التقاط صور تذكارية ، كنت أخمن بان ظروف عمله تتطلب ذلك ...
وهي تتحسس جذوة الحب العارم لكل ما هو جميل ومشرق في قلب حبيبها الغامض ، ابدت أرينا جيورجيفنا احتراما وتفهما كبيرا لظروفه :
ــ ... وجاء في اليوم نفسه وهو يحمل كل متاعه ليسكن بيتنا ، كان كل متاعه رزمة من الكتب وكيس برتقال .
برتقال ... !
البرتقال يا سوزان له عندي اكثر من حكاية ، لكن سأكتفي هنا بواحدة منها ، حكاية تحمل معان اكثر من روح الدعابة ، ففي زمن يختلف عن الزمن الذي عاشه رجلنا الغريب الغامض ، وصل موسكو شاب عراقي ( ثلاثيني أيضا !) مترع بالآمال والاماني والجنون بالحياة ، وفي يوم ما قرر هذا الثلاثيني ، الانتقال ليعيش في بيت صديقته الروسية . قبل ان يصل بيتها ، فجأة ترك الحافلة وسط دهشة مرافقيه وهرول الى اقرب سوق واشترى ... كيس برتقال ! الصديقة فهمت ان ذلك من عادات العراقيين وراحت تتحدث عنه في مجالسها وكأنها ضليعة بالعادات الشرقية !
ــ ... وهكذا تزوجنا ، كانت حياتنا منذ بدايتها بسيطة وهادئة ، كان يعلمني الانكليزية ، وكان يحاول ان يساعدني في العمل المنزلي و ...
كان رجلنا الغريب يتجول في موسكو ، ويرى كيف ان كلمات لينين تحولت الى شقق سكنية ، ومدارس ودور حضانة ومولدات كهربائية وانهار جديدة في قلب الصحراء ، ويسأل مترجمته عن كل شئ ويطابق ذلك مع المستقبل في بلاده ، وكان هاجسه الدائم :
ـــ متى سيتحقق لشعبي مثل هذا ؟
لم يكن هذا الغريب ، الغامض ، الذي داهمه المطر ، يا سوزان سوى : يوسف سلمان يوسف ، أبوك ، الذي تشير سيرة حياته ( التي صارت معروفة الان وكتب كثيرون عنها ) انه مواليد مدينة بغداد ، لعائلة كلدانية قدمت من قرى الموصل ( يقول زكي خيري انها قدمت من قرية برطلة ويقول جميل توما انها القوش ) كان جدك حلوانيا ، وكان أبوك في السابعة من عمره حين انتقلت عائلته الى البصرة حيث درس في مدارسها ، وفي عام 1919 انتقل الى الناصرية التي كانت ضمن مقاطعة المنتفك لمساعدة عمك داود في تشغيل معمل صغير للثلج . وعن الاوضاع في مقاطعة المنتفك في سنة انتقال أبيك ، وصف ضابط بريطاني في تقريره مزاج الناس "بالبارود القابل للانفجار لاي شرارة "، وفي 1920 جاءت الشرارة من فلاحي السماوة والرميثة ، وكانت ثورة العشرين التي حكى في السجن لرفاقه بأنها حركت فيه أول شعور بحب وطنه وتركت تأثيرها على ارتباطه بالنضال الوطني . وعن أبيك ، زوجها المهموم بشعبه ووطنه والأسئلة الكبيرة التي جاء الى موسكو ضمن سعيه المتواصل في البحث عن أجوبة لها ، تقول امك ، أيرينا جيورجيفنا :
ـــ كنت لا أراه الا وهو يدرس أو يكتب ، حتى في الليل كنت استيقظ فأجده منكبا على كتاب أو جريدة أو دفتر كتابة .
في مذكراته ، يقول عبد الرحمن سلطانوف ، نائب رئيس القسم العربي ومدرس الاقتصاد السياسي والجغرافية الاقتصادية في جامعة كادحي المشرق في موسكو في 1935 ، عن أبيك ، الذي كان تلميذه وصديقه ورفيقه :
ـــ كان شابا متعطشا للعلم ، يصارع الزمن ويريد ان يعرف كل شئ ... نعم كل شئ ، ليتوغل في أعماق الظاهرة . كان يتميز بأنضباط عال وبتواضع جم وحس مرهف . كان تلميذا يجيد فن الاصغاء ، لم يكن يحب الصخب والثرثرة لقتل الوقت ( يسجل حنا بطاطو عنه : كان يزدري المناقشات الطويلة التي لا شكل لها ) ، كان قليل الكلام ( يضيف زكي خيري : خفيض الصوت يتكلم بأناة) ولكنه يركز بدقة على الموضوع الذي يتكلم عنه ( وقال عنه بهجت العطية مدير الشرطة السياسية في العهد الملكي : كانت لديه حجج اقناع قوية ، وله موهبة تفسير الامور بطريقة واضحة وبسيطة ) . كان يصارع الوقت وتحس حين يتكلم بأنه يستل كلماته من أعماقه، يبلور جملته بصدق وبساطة ( ويضيف حنا بطاطو : بانه كان ميالا الى الحديث باختصار ، وفي احيان كثيرة كان يجلس ساعات دون ان ينبس ببنت شفة ، ولكن حين يتعلق الامر بشرح خط سياسي او احدى نقاط العقيدة كان اقل بخلا بالكلمات ) . وجهه صارم كعامل منجم . حين يبتسم ، وهو قليل الابتسام ، تحس بفرحة طاغية تغمره ، عيناه لهما بريق خاص ( عن عينيه قال زكي خيري : مقرح الجفنين قليلا يضيئ من بينهما شعاع بعيد ينم عن ذكاء عميق ، بينما قال الجواهري : في عينيه شئ من العمش لربما بسبب عمله وراء الماكنة ) . فضلا عن ذلك كان نموذجا للأناقة والنظافة (يؤكد زكي خيري : بسيط المظهر كما لو كان فلاحا) وكان يعرف كيف يستفيد من الوقت وحظي باحترام رفاقه وأساتذته .
وهناك في عراق النخيل ، الرازح تحت القيد الاستعماري ومخالب شركات الاحتكار وعسف الاقطاع ، وتحت الرقم487 من ملفات الشرطة وبتأريخ 1936 . 8 . 5 كتب أحد عملاء الشرطة :
ـــ ان اعادة تنظيم الحزب الشيوعي ( العراقي ) لا يتوقع ان تتم قبل عودة شيوعي مهم ، قاد خلايا البصرة والناصرية والديوانية وبغداد وكركوك والعمارة والكوت واماكن اخرى ، من موسكو ... وهذا الشيوعي المذكور هو يوسف سلمان ، من سكان الناصرية .
ومثلما تعرفين فان نبوءة هذا العميل لم تكن بدون معنى ، عاد ابوك ومنح كل جهده لهدف بناء هذا الحزب ، وابتدأت لديه حياته الحقيقية (في سجن الكوت ، سأله رفيق سجين معه عن عمره فأجاب : يبدأ عمري يوم دخولي الحركة الوطنية اما الباقي فليس من عمري ) ومثلما تعودت منه امك ، كانت حياته باستمرار مغلفة بالاسرار ، فهي تتذكر انه حين سافر لم يودعها :
 ـــ ... وقد اخفى عني حتى خبر سفره .
فاجأ امك برسالة من باريس كتبها بالانكليزية والروسية ، كانت هي الرسالة الوحيدة التي استطاعت الاحتفاظ بها بعد ان اتلفت الحرب العالمية كل شئ :
ــ عزيزتي أيرا ... أرجو ان تكوني في افضل حالات الصحة والسعادة . يؤسفني انني لم استطع الكتابة اليك في وقت اسبق . اهنئك بعيد ميلادك ، اشتريت لك هدية بهذه المناسبة ، ارجو ان تتقبلي هذه الهدية المتواضعة . أنا واثق من انك ستغفرين لي يا عزيزتي .
كانت امك حاملا بك ، ظلت تنتظر ولادتك ، وظلت تنتظره . وصلتها منه رسائل عمد الى كتابتها مسبقا وتركها مع رفاقه المتواجدين في موسكو ، وطلب منهم ايداعها في صندوق البريد في التاريخ المسجل عليها . عند عودته مرة ثانية الى موسكو عام 1942 للمشاركة في اجتماع ممثلي الأحزاب الشيوعية ، كانت زيارته قصيرة وكان عجلا للعودة ، فلم يملك الوقت الكافي لرؤيتك اذ كنتِ في احد دور الحضانة بعيدا عن موسكو التي كانت تعيش أجواء الحرب ، فالغزو الهتلري اجتاح اراضي الاتحاد السوفيتي ، واقتربت جيوش العدو من مدينة موسكو ، ومرة حطم صوت المدافع زجاج البيت ، أصلح زجاج النوافذ بنفسه ، وابدى تفاؤله بهزيمة النازية . كانت امك مسرورة بزيارته ، ورغم علاقته الحميمة معها لم يبح لها بمركزه الحزبي ولا بمهامه الحزبية . وغادرها وهي تعيش أمل عودته يوما ما ، كانت لامك يا سوزان ذاكرة طيبة وتحمل لابيك احلى الذكريات :
 ـــ حلوه !
 كانت هذه الكلمة العربية الوحيدة التي تعلمتها منه ، وكانت تشعر بالفرح اذ يدلعها بذلك . تتذكر امك جيدا انه في رحلة في نهر موسكو وهو يجذف كان يدندن بأغنية عراقية (هل يمكن لأحد ان يخمن تلك الاغنية واية تداعيات مرت بباله لحظة ترديده لها ؟) ، وتتذكر انه لم يكن حماسه كثيرا للموسيقى الكلاسيكية ( لقد زعل شاب عراقي ، موسيقي وهوعازف الة جلو في فرقة سيمفونية ، في العشرين من عمره مقيم في المنفى حين سمع ذلك ، واقنعناه بان والدك ومثلما تروي امك في كل الاحوال كان يميل الى الموسيقى الثورية ) وكان ضعيفا في الرسم ، فهل تصدقي يا سوزان ان ابيك حين كتب مقالا لجريدة الحائط المدرسية اخفق في رسم المطرقة والمنجل ، هذا الشعار الذي رسمه بدمه في ارجاء وطنه العراق ؟ فحين تمكنت الحكومة من اعتقاله ( وقصة محاكمته صارت حكاية ثورية معروفة ) ، واعادت محاكمته ، ثم ووفق المادة ( 89 أ ) من قانون العقوبات البغدادي حكمت عليه بالموت شنقا لنشره الشيوعية ، فأنه ظل محتفظا بثقته بقوة افكاره وحيوية حزب المطرقة والمنجل الذي منحه جهده وحياته . موته البطولي وجه صفعة لاعدائه بصلابته وشدة عزيمته ، وهذا كله جعل بكر صدقي يتململ وهو في قبره . الجنرال بكر صدقي الذي لم يقف حد عند طموحه الشخصي الىالسلطة ، فعمد في التاسع والعشرين من تشرين الاول في العام 1936 ، الى قيادة وحداته العسكرية ونفذ اول انقلاب عسكري في العراق والوطن العربي ، انقلابه الذي ايده كل اليساريين والشيوعيين منهم ، وخرجت تظاهرات لمساندته ، اذ توسموا فيه خيرا للبلاد ومستقبلها ، بل اصدر الشيوعيون بيانا حزبيا في الاول من تشرين الثاني ونظموا بالتعاون مع جماعة الاهالي عددا من مظاهرات التاييد ترفع شعارات تطالب بالخبز للجياع والارض للفلاحين وتندد بالفاشية ، لكن بكر صدقي وبعد بضعة شهور دخل لعبة الصراع على السلطة ، واستخدم الجيش فيها كأداة في الصراع ، جاهر بموقفه العدائي للديمقراطية وانطلقت حملة ضارية ضد الشيوعية، وتوج ذلك بصرخته :
ــ لن تنبت جذورالشيوعية في العراق الا اذا نبت النخيل في جبال النرويج!
سوزان ... يا ترى لماذا اختار النرويج وليس السويد ؟
سؤالي هذا ليس لان أعداد العراقيين في السويد هي اكثر من أي بلد اسكندنافي اخر ، بل لانه لو كان اختار السويد لكان ذلك اكثر ملائمة لحكايتي التالية : ان رحلة البحث عن سقف آمن ، التي قادت الالاف من العراقيين الى بلدان الشمال الاوربي ، قادت عراقيين الى السويد ، الاول سكن شمال السويد ورأس جمعية بأسم ( نادي الصداقة ) ، والثاني سكن ستكهولم ورأس جمعية بأسم ( عصفور الشرق ) ، معا اصدرا مجلة للاطفال اسمياها " النخيل " . رئيس نادي الصداقة له أخ اصغر منه يتعاطى الشعر ، ويجعله هدوؤه المفرط يبدو كأنه منطو على نفسه ، ولكنه في كل الاحوال والظروف لا ينسى انه عراقي حد النخاع ، ويوما ما سأله احد المتذاكين بشكل أحس شاعرنا ان فيه شئ من دغش ولؤم : ما الذي يفعله اخوك في شمال السويد ؟ أجابه شاعرنا ببساطة : يزرع النخيل من اجل ذاكرة ابنائك !
سوزان ... لقد نما النخيل في جبال النرويج يا سوزان !
وان ما يسجل لبكر صدقي هو تشبيهه الشيوعية بالنخيل . فالحزب الذي منحه ابوك كل جهده وحياته ، تمتد جذوره في تربة العراق عميقا مثل نخلة بهية . ورفاق ابيك بعد ان امتلأت بهم ارض النخيل ، ضاق صدر الديكتاتور فملأ بهم السجون والاقبية ، وواصلوا مد جذورهم في الارض الطيبة ، وحملتهم جبال كوردستان وعرفت بنادقهم ، وعرفتهم نواحي المعمورة بعيدا عن ارضهم وشمسهم ، بل ووصلوا حد القطب ! صاروا يستقيظون صباحا في ستكهولم وهلسنكي وأمستردام وبرلين وباريس ولندن و ... اوسلو وغيرها ، وقبل ان يتوجهوا الى اعمالهم ، يفطرون بالخبز العربي ودبس A A ، ويبحثون في الصحف عن اخبار وطنهم . لم يتخلوا يا سوزان عن ارتباطهم بالنخيل ووطن النخيل . لهم ذاكرة النخيل وأصالته ، وعيونهم تمتد دائما الى هناك ، الى العراق الذي تحت صهد شمسه تخضر سعفات النخيل ، ومن سمائه يهطل المطر فجأة ، فيبتل ــ يا سوزان ــ رجل وامراة ، يهرعان الى بيت صديق قريب ، ويطرقان الباب بدقات متسارعة ، وتفتح الباب امراة فاتنة ، و ... !

هلسنكي ـــ أيار 2001
هوامش
* ــــ كل ما يرد هنا على لسان السيدة ايرينا جيورجيفنا مأخوذ حرفيا من لقاء اجري معها نشرته طريق الشعب في سبعينات القرن الماضي ، واعيد نشره في العدد 7 من دورية (خبر) اصدار منظمة السويد اذار 1994 .
** ــــ السماغون : كحول منزلي الصنع ذو تركيز عال .