شذرات عسكرية من الذاكرة 4 – ألعلاقات الشخصية والواجب
د. صباح قيّاسألني البعض من معارفي القراء : لماذا لا أكتب الأسماء الصريحة لمن أشير إليهم في كتاباتي عموماً وفي مسلسل " شذرات عسكرية من الذاكرة " خصوصاً , وأكتفي فقط بذكر المنصب أو الرتبة أو أية كنية أخرى عدا الإسم ؟ ... ٍسؤال وجيه جداً وملاحظة أُثمِّنُ غايتها النبيلة , ولكني , للأسف الشديد , أعتذر عن تلبية طلب هذه النخبة المتابعة بانتظام لما يسطر قلمي حيث سأستمر بأسلوبي المعتاد كون الغاية مما أسرد ليست تبجيلاً لأحد ما , أو الإساءة لأي من كان , بل عرض الحدث كتجربة شخصية مررت بها خلال مرحلة معينة من عجلة تاريخي الحياتي المتنوع بحلاوته ومرارته , وبمسراته وأحزانه ً , ومن الممكن أن يُستخلص منها درس أو دروس ... هذه هي الحياة منذ بدء الخلق الإنساني , تجارب وعبر , صعود وهبوط أو العكس , وتبقى الذكريات عزيزة حتى ولو من سببت منها آلاماً مبرحة في حينه . وغالباً ما يستمد الحاضر ديمومته من الماضي , فلا حاضر بدون ماضٍ , فاليوم يسبقه الأمسُ , والليل قبله نهار والعكس صحيح ...
في الثلث الأخير من ستينات القرن الماضي , وفي كلية الضباط الإحتياط حيث كانت مجموعة تلاميذ " ألدورة الخاصة " والتي تضم خريجي الكليات الدارسين على نفقة وزارة الدفاع تجري التدريب العسكري المطلوب قبل منح الرتبة العسكرية التي يستحقها كل خريج . كان مجموع الدورة حوالي الخمسين تلميذاً على ما أذكر , وكنت أنا أحد الثلاثة المسيحيين المنتسبين للدورة من خريجي كلية طب بغداد , وكان معنا مسيحي رابع خريج كلية الهندسة – بغداد – , والذي التقيت به مؤخراً في وندزر كندا ....
بدأت فترة تدريبنا بعد تخرجنا مباشرة حيث حرارة صيف بغداد الشديدة لا تحتمل , وقد تثير الأعصاب أحياناً وخاصة خلال الساعة الأخيرة من التدريب الشاق .... كانت المفاجئة للجميع عندما صرخ بي أحد التلاميذ الأطباء " مسيحي تلكيفي نزاح " بعد أن تجاوزته خلال الهرولة .. عدت نحوه وكاد الخناق أن يحدث بيننا لولا تدخل رأس العرفاء المكلف بالتدريب والذي , والحق يقال , نهره بشدة , وأيضاً تدخل بقية التلاميذ حيث بدى الإمتعاض بوضوح على وجه الكثيرين منهم , حتى أن البعض همس بإذني معبراً عن تضامنه معي واشمئزازه مما حصل منه .... ورغم كل المواساة وتطييب الخاطر كان يوم حزيناً وقاتماً بالنسبة لي حتى أنني لم أكن على نشاطي المعهود به خلال لعبة كرة السلة إثناء الساعة المخصصة للرياضة والذي شعر به أقراني في الفريق وعبر عنه بذلك أحدهم حيث قال لي : يظهر أنك لا تزال متأثراً مما حدث صباحاً ؟ وحاول التخفيف عن ذلك بكلمات جميلة تنم عن مشاعر صادقة ....
لم تكن لي معرفة عميقة مع ذلك الشخص , ولا أذكر بأني قد تكلمت معه خلال سنوات الدراسة أكثر من مرة أو مرتين ... لم يكن ذلك الإنسان الإجتماعي في الكلية بل أقرب إلى العزلة , ولا أتذكر أني قد شاهدته يوماً ما في نادي الكلية أو مكتبتها . كل ما أعرفه عنه , بحكم الإنتماء العسكري , أنه من إحدى قصبات محافظة الأنبار مع كل احترامي وتقديري لأهالي الأنبار الكرام الذين تجمعني مع الكثير منهم صداقة ومودة , وحتى أن هنالك منهم من كان معي في التدريب واستاء من فعلته آنذاك ... وحتماً لم يسبق له الإختلاط بالمسيحيين ومعرفة سمو أخلاقهم وحرصهم وجديتهم في العمل , بل كل ما استنتجه عنهم حاله حال من على شاكلته بأن كل مسيحي هو تلكيفي وبالأخص من يتكلم لغة الأم , وكأن المسيحيين في بغداد هم تلاكفة فقط ولغة الأم لا يتكلمها غيرهم , وكتحصيل حاصل ً بأن من يقوم بتلك الخدمة التي عيرني بها هم تلكيف أيضاً كونهم من المسيحيين . وغاب عنه بأن الذي يؤدي هذا العمل يكسب رزقه بشرف , ونسي أو تناسى بأن السماسرة والفاجرات في العراق معظمهم من بني دينه , مع الإعتذار لمن يمتهنها في عالم الغرب رسمياً , وممن اضطر عليها في الوطن الجريح نتيجة الظروف القاهرة التي فرضها حكم العملاء من بني دينه أيضاً .....
مثل هذا النمط لا يتغير بسرعة , وكما يقال " عادة البدن لا بغيرها غير الجفن " , وبالفعل كررها ثانية مع زميل مسيحي آخر , قصده دون أن يشير له مباشرة . حدث ذلك إثناء متابعته لمباراة تسقيطية بين فصيلين من فصائل كلية الضباط الإحتياط حيث كان الزميل المسيحي لولب المباراة , ويظهر بأن مشاعر الغيرة القاتلة أفقدته توازنه ... ولم يكتفي بذلك بل أن " قصر النظر الحياتي " المصاب به والذي شرحته في مقال سابق قد استفحل في داخله فأعادها في نادي الأطباء عندما ربح أحد الأطباء المسيحيين جائزة لعبة الدنبلة .... هذا ما حدث لي وما شهدته بعدئذ بنفسي , فكم من المرات التي جاهر بها ولم أكن حاضراً ؟....
منذ ذلك الحين وخلال سنوات الخدمة الطويلة لم أتكلم مع ذلك النموذج المحسوب على السلك الطبي والعسكري , بل كنت أتجاهله . وإذا صادف أن نلتقي في مناسبة أو واجب مشترك , فلن يتعدى حواري معه ما له علاقة بتلك المناسبة أو الواجب , ثم أمضي إلى سبيلي وكأني لا أعرفه .... تعاقبت السنون ودارت حركة الزمن ... أصابه مرض مستعصياً ونادراً لا شفاء منه ... لا شماتة به أو بأي مثيل له إطلاقاً , ولكن لا بد أن أذكر بأن الرب محبة , ورغم ذلك قد تنزل على رأس الإنسان مصائب أثقل من الحجارة .... قدم طلباً لإحالته إلى اللجنة الطبية الإختصاصية لتقرير صلاحيته للخدمة العسكرية كضابط . شاءت الصدف أن أكون رئيساً للجنة الطبية إضافة إلى إختصاصي الأمراض الباطنية في اللجنة , علماً أن مرضه يقع ضمن اختصاصي , وهذا يعني أنه لا بد لي وأن أثبت مرضه بنفسي وأقرر على صلاحيته كاختصاصي وكرئيس لجنة .... طرق باب كل المقربين لي من زملائي يتوسطهم ويعرب لهم عن قلقه الشديد بما سيكون موقفي حينما يعرض على اللجنة وما قد يواجهه من قرار قد لا يصب في صالحه .... علمت منهم جميعاً بأنهم قد طمأنوه وأخبروه بأني حتماً سأطبق القانون وأمنحه ما يستحق , ولن يؤثر ما سبق وأن حصل له معي على عملي بموجب المادة التي يخضع لها مرضه .
دخل على اللجنة التي أتوسطها ويجلس إثنان من اعضائها على يميني والإثنان الآخران على يساري . كنت قد تصفحت إضبارته قبل أن نناديه ... طلبت منه الجلوس بجانبي .. كم شعرت بأنه كسير مهيض الجناح وأنا أنظر إليه بهدوء وعطف وهو يحاول تجنب نظراتي إليه . أين يمكنه أن يخفي وجهه من نظراتي التي حتماً يفهم ماذا تعني وأنا أتذكر تلك الكلمات الجارحة التي أطلقها علي بدون حق بل انبعثت من دوافع استعلاء الأكثرية الحاكمة على الأقلية المحكومة .. ها هو إبن الأقلية المحكومة يمسك زمام وصايا اللياقة البدنية التي يخضع لها الجميع بدون استثناء , وقد قيل بأن القانون كالمطاط وبإمكان الحاكم أن يسحبه كيفما يشاء . نعم انا الحاكم والمطاط بين يدي وأستطيع أن أسحبه كما أشاء وضمن الصلاحية القانونية فأقرر " وحدات ثابتة دائمية " بدلاً من " لا يصلح كضابط " . هل أنتقم وأنا الذي ترعرعت بين أحضان تعاليم مسيحيتي الجميلة التي تبشر بالمحبة والعطاء والغفران ؟ ... لقد حلت عليه عدالة السماء وأصابه ما لا يتمناه أي طبيب حتى لعدوه , وليس من الحكمة أن تؤثر على واجبي الطبي والتزامي لآداب المهنة تفاهات من هو غارق في قلقه أمامي وحتماً يتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه ولا أن يسمع ما لا يود سماعه .... قلت له : أتمنى لك شفاءً عاجلاً ولو أن مرضك حسب علمك من الصعب شفاؤه , وحتماً يظل الأمل بالمستجدات الطبية قائماً , ولكن هنالك من الأمراض يستطيع الشخص أن يعالجها بنفسه ... قرأت في عينيه بأنه فهم قصدي .. لم يجب بل ظل صامتاً من كان لسانه أطول من ..... . وختمت كلامي بقولي له : لا تصلح كضابط حسب المادة ...... تبعثرت كلمة شكراً وهو يخرجها من فمه .... ربما لم تصدر منه بصدق . لاحظت الإبتسامة على وجوه زملائي في اللجنة عندما غادر مقرها , وفهمت من إبتسامتهم بأنه قد توسل إليهم أن يسندوه في الحصول على ما يبتغي ولم يكن هنالك مبرراً للمبادرة بذلك ما دمت قد منحته استحقاقه قانوناٌ . ورغم شعوري بأنه لم يكن مسروراً بحضوره أمامي أشبه بالذليل , ولكني سعيد بأني أديت واجبي كما أملاه علي ضميري ولم أتأثر بعلاقتي الشخصية معه والتي ستظل كما كانت سابقاً وبدون تغيير .
ألواجب مقدس وتأديته فرض , أما العلاقات الشخصية فتتنقل بين المد والجزر . وتبقى الفلسفة الحياتية : نعم للموقف , كلا للكراهية هي السائدة .