شذرات من جناز و تعزية المرحوم الشماس اوشانا الصنا
رغم كل الصعاب كان لا بد من شد الرحال من شيكاغو الى ديترويت لحضور جناز وتعزية المرحوم الشماس اوشانا جونا الصنا المكنى ابو جوني، فهو ابن قريتي التي اعرفها في حالات الفرح او الترح تصبح عائلة واحدة. الموت القاسي الذي خطف من هذه العائلة الكبيرة فعل فعلته بشكل مفاجئ و مقيت، وكان وقعه كالصدمة التي تفجر ومن غير إشعار كل المشاعر الحزينة الدفينة في تجاويف القلب النابض. هكذا وفي استعجال بدأت رحلة الست ساعات من بيتي والى الكنيسة مباشرةً لحضور قداس الجناز في العاشرة بتوقيت ديترويت.
القداس الخاص المقام على راحة المرحوم رئيس الشمامسة في كنيسة مار يوسف الكلدانية الشماس اوشانا كان أسمى قداس حضرته في حياتي . كل شيء كان خارج إطار الجسد ؛ الرسومات داخل الكنيسة تشعرك انك في متحف للروح الانسانية السامية. موقع جلوسي في الكنيسة الواسعة كان في المؤخرة لوصولي متأخراً بضع دقائق وذلك الموقع نبهني الى العدد الهائل للحضور في هذه الكنيسة التي ارادها القس ( المطران المتقاعد حالياً سيادة مار سرهد جمو ) على طراز كنائس المشرق في اول ظهورها. حقاً ان طقس كنيسة المشرق في قداس الموتى هو على قدِمه ارقى قداس يربط حياة الجسد الآنية بالحياة الأزلية التي غادرنا اليها الشماس اوشانا.ثم ان الخطبة التي تعقب الأنجيل والتي القاها الأب رودي زوما وربط فيها حياة الفقيد بما ورد في الأنجيل المقدس، كما تطرق الى مناقب المرحوم في الحفاظ على طقس كنيسة المشرق ، حقاً كان هذا الكاهن الشاب فخوراً برئيس شمامسته واشعر الحضور ان فقدانه هو خسارة كبيرة وصعب تعويضها. تكلم الأب رودي عن الأب اوشانا المحب لعائلته المشتتة في بقاع العالم ، فقد زار ألمانيا قبل بضع شهور لحضور عماذ حفيده وهناك كانت السورث لغة العائلة وأحب الدولمة المنگيشية المحضرة من كنته الألمانية . رجع الشماس الوقور الى كنيسته في ديترويت وكله طاقة متجددة لخدمة الكنيسة والرعية ، ولكن الحادث اللعين كان بانتظاره وهو في طريقه الى الكنيسة ليس في يوم احد كما نعتاد ان نذهب بل عصر الأربعاء حيث أغلبنا مشغولون بأعمالنا الدنيوية لكن بالنسبة الشماس اوشانا كل يوم هو يوم احد ، يوم خدمة للرب.
في المقبرة ليوارى الجسد في الثرى وتصعد الروح الى باريها وفي يوم حار ورطب توزع الحاضرون تحت الأشجار القليلة وقاءاً من الشمس الحارقة. ولما بدأ الحضور يتوجهون نحو سياراتهم عَلى عجل ورغبة مني لألقاء النظرة الأخيرة على قبر الراحل الى الأبدية وهناك وقع نظري على شاب في العشرينات من عمره اثنى ركبتيه يطخ التراب بيديه ويبكي بمرارة ويقول " لم أراه كافيا، لم أراه كافياً.." كان الشاب هذا موشحاً بالأسود وعلق على صدره مسبحة الوردية. حسبت الشاب احد محبي الشماس او تلامذته . ألقيت نظرتي الأخيرة ومسحت يدي بقليل من التراب ثم لحقت بأصحابي الى سيارتي.
في القاعة حيث وفدٓ اليها المعزّون من كل حدب وصوب ومن كل مدينة قريبة ، من هاملتون، ونز ، تورونتو، شيكاغو ، آن هاربر..الخ . لم ارى من قبل هكذا عدد المنگيشين -- وليسامحني القاريء الكريم بذكرهم خصوصاً --وقد حضروا ليقدموا الوفاء لأبن قريتهم الذي عرفوه كما اعرفه اجتماعياً ، محباً، فرحاً ، وخدوماً.
كما هو معتاد في تعازي ديترويت يجلس الذكور ذويّ الراحل ويقابلهم المعزّوون الذكور في خطوط موازية وهناك أخذت موقعي وهناك وقعت عيني على الشاب الذي سبق وان رأيته قد علق على صدره مسبحة الوردية وكي أتأكد من حدسي سألت الجالس جنبي من هو ذاك الشاب وكان الجواب انه مخلص ابن المرحوم القادم من ألمانيا.
يحسبني البعض اني شاعر لكن احسب نفسي صاحب مشاعر، وهذا الشاب والحزن البادي عليه فَجر كل مشاعر الحزن الدفينة في قلبي .. كيف لا يبكي ويُبكي قلبي حين نَحٓبٓ وقال " لم أراه كافيا، لم أراه كافياً". هذه هي حال --ليس المنگيشيون فقط --لكن حال كل أبناء وبنات قرانا المسيحية ، تبعثروا في الغربة كما تطلق يد الزارع البذور في في ذات اليمين والشمال قدّامه او كما تذهب أعز قصائدي " نينواي " وتقول رعية فقدت راعيها وتشتت فمن يجمع!! لقد اجتمع مخلص وأبيه وكل واحد في عالم مختلف ، الأبن يعيش عالم الجسد والأب هو في عالم الروح، ومهما كانت ايماننا يا اخواننا فإن هذا هو مبعث حزن ونحيب. وهنا لا بد من ذكر ان اخت المرحوم المدعوة لوسية التي تعيش في كندا بسبب الفيزا لم تتمكن من الحضور في قداس الجناز المهيب والعزاء الشامل لكل محبي أخيها الذي لم تراه في أواخر أيامه .
المنگيشيون النجباء وآل صنا عشيرة الرئاسة في المنتصف الأول من القرن الماضي وعائلة السخاء في منگيش الحبيبة اعدوا وكما هي العادة الجارية في منگيش ليأتوا بكل ما لذ وطاب من المأكولات فيما كنا نسميها " صفرة الموتى " هكذا جلسنا وأكلنا سوية ونحن نعيش على الأرض وتشاركنا في السماء روح الراحل الشماس اوشانا جونا الصنا. وهنا أيضاً وقعت عيني على الأبن الأكبر للراحل اوشانا الا وهو جوني الذي هو الآخر قدم من ألمانيا ليأكل من صفرة الموتى مع اقربائه و محبي ابيه، وشكراً للصدفة انه جلس قريباً عني لأسمعه يقول لأحد أصدقائه انه قد أسمى طفله الصغير المُعمذ قبل أشهر " اوشانا" . هذا ما نسميه " منحومي ” اي التخليد وهي عادة جارية في قرانا الجميلة وهي الطريقة التي تمكننا من الحفاظ على وجودنا ك " سورايي" أينما كنا. وهنا اود ان اجمع الشذرات في هذا المقال لما سبق وان سمعته من المرحوم اوشانا ابو جوني حينما لقيته لأول مرة في أمريكا وسألته كيف تغير و غدا شماساً لأَني كنت اعرفه علماني يحب قريته منگيش اكثر من اي شيء آخر. أجابني الشماس المعتد بدرجته الجديدة ( درغا ) قوله كان لا بد من تخليد " منحومي " الشماس ايشو ليّا وهو من أعمامه وكان ذَا صوت جميل.
هذا هو التراث الذي تركه لنا اوشانا الصنا- نحن العلمانيون على الأقل- ان نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا ونحب بَعضُنَا بعضاً. لقد غادرنا ابو جوني المُحِب لقريته وأبنائها وافترق عنا، ولكن ليس قبل ان يجمع كل أبناء قريته المشتتين في مدن أمريكا وكندا وبعضهم لم يرى الأخر لعقود طويلة .
لن ننسى ذكرى والتراث الذي خلفه لنا المرحوم اوشانا جونا الصنا وسنبقى اوفياء لذكراه سائلين الرب ان يسبغ عليه الرحمة الأبدية ويقبله في ملكوته السماوي، آمين.
حنا شمعون / شيكاغو