روسيا... أين موقعها في ميزان العمل السياسي الآشوري؟؟
نظرة مقارنة بين الماضي والحاضر
=============================================
أبرم شبيرا رجاء:
-----
أرجو من القارئ اللبيب أن يدرك بأن إستخدامي للمفردة القومية "الآشوري" هنا ينطلق من حقائق موضوعية تاريخية ومعاصرة لأن أولاً: تاريخياً، نشؤ الحركة القومية في مجتمعنا عموما جاءت بهذه التسمية القومية التاريخية وشارك فيها ضمن هذه التسمية عدد كبير من أبناء الطوائف والتسميات الأخرى بل كانوا رواداً لها وقدموا شهداء في سبيلها. وثانياً: الواقع المعاصر يؤكد بأن الأحزاب السياسية والتنظيمات القومية التي تتسمى بهذه التسمية القومية، رغم تبنيهم للتسميات المركبة هي أكثر نشاطاً وبرزواً على السطح السياسي، المحلي والإقليمي والدولي، وتحديدا ما يخص موضوع بحثنا. وهذا كله لاينفي وبتأكيد مطلق إيماننا الراسخ بوحدة أمتنا بجميع تسمياته التاريخية والحضارية، الكلدانية والسريانية والآشورية.
الآشوريون والبحث عن حليف في وقت الأزمات والحروب:
--------------------------------------
عندم تعصف الأزمات والمصائب بأية أمة أو دولة خاصة وقت الحروب وإشتدادها لا بد مثلما لها عدو ومصدر هذه المصائب والحروب يكون لها أيضا حلفاء وأصدقاء لأن لهم مصالح عامة مشتركة من هذه الصداقة أو التحالف. وهذا هو حال كل الحروب المعروفة في التاريخ، خاصة الحروب المعاصرة حيث من النادر جداً أن نرى دولة تدخل حرباً لوحدها بل يكون لها حلفاء وعلى نفس الجبهة. وحروب التاريخ خاصة المعاصرة كالحرب العالمية الأولى والثانية وحتى الحروب الإقليمية هي شواهد على ما نقوله. عصفت الرياح الهائجة للحرب الكونية الأولى بشعبنا في موطنه الأصلي، هيكاري وما جاورها من مناطق أخرى، ووضعته في دوامة الدمار والتشرد والفناء فكان على زعامة الأمة المتمثلة في المؤسسة البطريركية، وعلى قمتها الشهيد الخالد مار بنيامين شمعون البطريرك الأسبق لكنيسة المشرق الآشورية وأخته سورما خانم وشقيقه ربخيلا (قائد القوات) داود، البحث عن سبيل منقذ للأمة ولم يكن هناك إلا خيارين ممتين، أما البقاء في مواقعهم والتعرض إلى المزيد من المذابح وبالتالي الفناء الكلي أو الوقوف مع دول الحلف البريطاني الفرنسي الروسي ضد الدولة العثمانية. فكان الخيار الثاني أهون الخيارين وأقل مرارة رغم النتائج المأساوية التي كانت متوقعة الوقوع على شعبنا من جراء ذلك. فمن المعروف وبشكل عام بأن القيادة الآشورية في تلك الفترة وضعت كل البيض في السلة البريطانية ويتمادى بعض المؤرخين والكتاب القول بأن المؤسسة البطريركية أرتمت بالتمام والكمال في أحضان بريطانيا فأستغلتها لتحقيق مصالحها في الحرب ضد الدولة العثمانية وبعض العشائر الكوردية المتحالفة معها.
أن طرح مثل هذه التعميم على القيادة الآشورية غير صحيح لأنه يفتقر إلى تفاصيل العلاقات والتوجهات والأفكار التي كانت سائدة بين أفراد القيادة الآشورية. صحيح كل الصحة بأن سورما خانم وربخيلا داود كانا من أشد المناصرين للتحالف والتعاون مع بريطانيا ولكن على العكس من هذا بالنسبة للشهيد البطريرك مار بنيامين شمعون. كثيرا كتبُ عن عظمة الشهيد مار بنيامين وإيمانه القوي وحبه المفعهم بالأحترام لأبناء أمته وكنيسته وضخامة تضحياته ولكن قليلاً، أن لم يكن معدما، أية كتابة عن فكره الإستراتيجي في التحالف مع الآخيرين ضمن معطيات تعتمد على الظروف الموضوعية والواقعية. ففي خضم الصراعات السياسية والمصلحية والدينية والكنسية والتبشيرية التي كانت تنهش بجسم كنيسة المشرق، كان الشهيد مدركاً كل الإدراك بأن وضع روسيا غير ذلك ومختلف بعض الشيء. فبالنسبة للتبشير بين أبناء أمته وكنيسته، كانت الكنيسة الروسية الأرثوذكسية أقل شراسة في التبشير، أن لم يكن محدودا جداً أو معدوماً، في مقارنة مع تبشير الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية الإنكلكانية والأمريكية. فالخلفية التاريخية للكنيسة الروسية في تعاملها الإنساني مع مئات الألاف من أتباع كنيسة المشرق الذين نقلوهم هرباً من الإضطهادات العثمانية وحلفاءها في منتصف القرن التاسع عشر وأستقروا في المناطق الجنوبية لروسيا في جورجيا وأرمينيا وتحت رعاية هذه الكنيسة والذين عوملوا كمواطنين شكلت هذه الخلفية مصدر ثقة للبطريرك تجاه روسيا وكنيستها الأرثوذكسية خاصة وأن هذه الكنيسة هي أرثوذكسية بكل معنى الكلمة ولم يظهر فيها هرطقات أو إنحرافات كما هو الحال مع الكنائس الغربية. وعلى الجانب الآخر الموضوعي والجغرافي، أدرك البطريرك وبنظرة جيوسياسية بأن روسيا بلد شاسع وقريب من موطن الآشوريين لا بل محاذي له وتُمثل قوة إقليمية في المنطقة. فمثل هذه الجيرة والعلاقة الجيوسياسية، كعامل موضوعي ثابت على مدى الدهر كثبوت الجغرافيا، يكون عادة مصدراً لمصالح ثابتة ومستديمة للطرفين. على العكس من بريطانيا وفرنسا فأن بعدهم الجغرافي عن موطن الآشوريين وشراستهم الإستعمارية جعل من العامل الجيوسياسي والجغرافي غائباً كلياً في خلق مصالح ثابتة ومستديمة للطرفين بل كان حال كلا الدولتين كحال اللص الذي يأتي من مكان بعيد ويسرق البيت ثم يهرب، لهذا السبب عندما حقق الدولتان مصالحهما الخاصة في المنطقة تركا الآشوريين للذئاب المفترسة.
كان الشهيد مار بنيامين عظيماً في فكره الإستراتيجي عندما حاول الإقتراب والتحالف مع روسيا وللأسباب المار ذكرها، ففي أكتوبر من عام 1917 زار البطريرك حكومة روسيا القصيرية في القوقاز ومنح وسام القديسة آن من الدرجة الأولى وكما منح 200 ميدالية القديس جورج للمقاتلين الآشوريين الذين شاركوا مع القوات الروسية ضد القوات العثمانية والفارسية وبعض العشائر الكوردية. يؤكد بعض المؤرخين، خاصة الروس منهم، بأنه لولا قيام ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917 وإنسحاب القوات الروسية من المنطقة ومن ثم عقد لينين زعيم الثورة معاهدة برست ليتوفسك عام 1918 مع الألمان وخروجها من الحرب لكان الأمر مختلف ولكان التحالف الإستراتيجي الآشوري – الروسي أستمر وحقق نتائج غير تلك النتائج المأساوية التي جاءت من التحالف مع بريطانيا. صحيح إذا كان عامل إنسحاب الروس من المنطقة والحرب وترك الآشوريين في ظروف صعبة جداً وماحقة سبباً لإنهيار مثل هذا التحالف الإستراتيجي فأنه علينا أن لا ننسى أيضاً عامل داخلي مهم وحاسم وهو عدم الإتفاق أو الخلاف بين الآشوريين عن الجهة أو الدولة الواجب التحالف معها، خاصة بين البطريرك مار بنيامين مع روسيا من جهة وسورما خانم وربخيلا داود مع بريطانيا من جهة أخرى. فعندما تفعل الظروف المأساوية والمميتة باي شعب أو أمة تبدا الدسائس والمؤمرات بين بعض من ضعفاء النفوس وتحديدًا على مستوى القيادة أو المتنفذين، وهذا حال جميع الأمم بما فيها أمتنا خاصة في ظروف كظروف الحرب العالمية الأولى. ففي تلك الفترة كانت بريطانيا، الداعم الرئيسي لسورما خانم وربخيلا داود تتخوف جداً من ميل الآشوريين بقيادة مار بينامين إلى روسيا والتحالف معها ومن ثم قلب موازين القوى في المنطقة وإعاقة طريق تحقيق مصالحها الخاصة. لذلك لم ترغب بريطانيا القضاء مباشرة على البطريرك خشية من فقدان العلاقة مع سورما خانم وربخيلا داود ومن ثم إنفراط خيط التحالف معهما بل كل ما رغبته هو جذب وتوريط البطريك للوقوف في الحرب معها ضد الدولة العثمانية وحلفاءها لذلك تم تدبير رسالة مزورة بتوقيع البطريرك وفيها طلب منه إلى القوات البريطانية لمساعدته في حربه ضد العثمانين ووضعت الرسال في قطعة خبر وحملها شخص لتوصيلها إلى ضابط إنكليزي فتم إبلاغ السلطات العثمانية بالأمر فقبض على المراسل ومعه الرسالة مما سبب ذلك هجوما كاسحاً على الآشوريين ومن ثم إضطرارهم الإنضمام إلى القوات البريطانية. في كل الأزمان والأماكن إن إنعدام الإتفاق بين أعضاء القيادة من جهة والخيانة من جهة أخرى كانا عاملان حاسمان في إستحالة تحقيق مطامح الأمة وبالتالي دفعها نحو دوامة الصراعات حول المصالح الخاصة بعد ضياع مصلحة الأمة في متاهات هذه الصراعات والإنهيارات. ومن الملاحظ بأن هذا العامل الموضوعي الجغرافي في التحالف مع روسيا تتبين أهميته من خلال عدم تأثره بالمبادئ السياسية والفكرية الشيوعية التي كانت تحملها الثورة البلشفية حيث أستمر البطريرك الشهيد التراسل مع لينين زعيم الثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر عام 1917 من أجل ضمان التحالف معها ضد العدو المشترك.
ليس هذا وعلى مستوى تحالف مار بنيامين مع الروس فحسب، بل كان له بعد جيوسياسي على المستوى المحلي حيث كان يرى في الكورد، وخاصة القبائل القوية والفاعلة على الساحة السياسية مثل قبيلة شيكاك بزعامة شيخها إسماعيل أغا المعروف بـ (سمكو) حليفاً إقليمياً. فالجغرافيا كانت العامل الموضوعي والواقعي يفرض قوته على الآشوريين وبقيادة بطريركهم للتحالف معهم وتشكيل قوة مؤثرة في المنطقة وكان الروس من المؤيدين له في هذه الخطوة فكان ضباط منهم يرافقون البطريرك أثناء محادثاته مع سمكو غير أن خدر وخيانة وخسة المجرم سمكو وقيامه بإغتيال البطريرك أفشل كل مخططات الآشوريين في التحالف معهم. لقد ثبت كون الدولة الفارسية من وراء دفع المجرم سمكو لإغتيال البطريرك، لكن مثل هذا الإغتيال صب في مجرى تحقيق المصالح البريطانية في المنطقة حيث أصبح الآشوريين بدون قيادة وضاعوا في متاهاة التهجير والضياع والإنسياق نحو "أبو ناجي". حقا أصاب كبد الحقيقة عندما قال الأديب الكبير والمؤرخ الشماس كوركيس بنيامين أشيتا في كتابه ( رؤساء الآشوريين في القرن العشرين) المكتوب باللغة الآشورية الحديثة "بأن لو لم يكن الآشوريون قد فقدوا مار بنياميــن في تلك الفترة لربمـا كانت مسيرة تاريخ أمتنا قد تطورت بشكل آخــر، ومن دون أدنى شــك كانت بشكل احسن مما هو عليه الآن لأنه بالتأكيد ما كان يسمح للانتهازيين أن يلعبوا لعبتهــم كما فعلوا بعد الحرب العالمية الأولى وكما يفعلون اليوم" (ص25).
على الجانب المدني أو العلماني ظهر المفكر العبقري القومي التقدمي الشهيد فريدون أتورايا وهو مفعماً بتأثير العامل الجيوسياسي في عمله القومي السياسي. فإذا حسبنا الشهيد مار بنيامين على الجانب الديني واليميني فأن الشهيد فريدون أتوراياً هو محسوب على الجانب التقدمي اليساري ولكن بين اليمين واليسار كان هناك عامل قوي يجمع بينهما وهو التحالف والعمل مع روسيا ثم الإتحاد السوفياتي بالنسبة لفريدون أتورايا وكلا الشهيدين أدركوا إدراكاً عميقاً أهمية تحقيق المصلحة القومية من خلال هذا الإدراك والبناء عليه تحالف ومصالح دائمة ومستديمة. ففي بيانه المعروف بـ "منفستو أورمي" – أي إعلان أورمي لعام 1917 – أنظر عزيزي القارئ تأثيره بالماركسية وب "منفستو" المنشور تحت عنوان "يا عمال العالم أتحدوا" من قبل كارل ماركس وزميله فريدريك أنجلز – دعا فيه إلى تأسيس دولة آشورية حرة موحدة ورسم حدودها من منطقة أورمي مروراً بشريط حدودي فاصل بين تركيا والعرب إلى إنطاكية على البحر الأبيض المتوسط يجمع جميع جميع طوائف وكنائس أمتنا. وتجلى فكره الإستراتيجي في ضرورة وجود منفذ للدولة الآشورية على البحر لتكون رئة تتنفس من خلالها نحو العالم الخارجي. وحتى بعد قيام الثورة البلشفية أستمر المطالبة بمشروعه في قيام الدولة الآشورية وضمن جمهوريات الإتحاد السوفياتي. غير أنه مرة أخرى يعود عامل الخدر والخيانة والخسة المنبعث من بين أخاديد بعض الخونة في مجتمعنا وبنفس أسلوب التخلص من مار بنيامين. ففي عام 1925 عثرت السلطات الستالينية على رسالة مزورة وبتوقيعه يطلب من السلطات البريطانية التدخل لمساعدته فألقي القبض عليه وأعدم في عام 1926 بتهمة التجسس لصالح بريطانيا. وقد دلت الأحداث فيما بعد بأن المؤسسة الكنسية وعلى رأسها سورما خانم وربخيلا داود ومن وراءهم بعض البريطانيين كانوا وراء تدبير هذه الرسالة المزورة للإيقاع به والتخلص منه ومن مشروعه القومي في بناء كيان قومي آشوري ضمن جمهوريات الإتحاد السوفياتي، لأن بالنسبة إليهم كان الشهيد فريدون أتورايا شيوعيا وغوغائيا وفوضويا يسعى لسلب الزعامة من البطريرك والمؤسسة الكنسية. حقاً لو أفترضنا مجازا بأن الآشوريين كانوا قد قبلوا بمشروع فردون أتورايا وتحقق كما فعل الأرمن في تلك الفترة لكان في هذا اليوم للآشوريين دولة مستقلة حالها حال دولة أرمينيا.
البيروستروكيا وكنيسة المشرق الآشورية:----------------------------------
كان البطريرك الشهيد مار بنيامين في إتصال دائم مع الآشوريين في روسيا وجمهوريات القوقاز حتى بعد قيام الثورة البلشفية في أكتوبر عام 1917. غير أن إستشهاده في بداية شهر آذار من عام 1918 حالت خلال هذه الفترة القصيرة دون بناء أسس قوية ومستمرة لهذه العلاقة في ظل النظام الجديد. ثم جاءت مأساة الحرب والتشرد والضياع وهيمنة بقية أفراد العائلة البطريركية الموالين لبريطانيا على مقدارات الآشوريين وما تلاه من نتائج مأساوية مضاعفة مثل مذبحة سميل لعام 1933 ونفي بطريرك الكنيسة وعائلته خارج العراق في الوقت الذي كان ستالين يشدد من قبضته الإستبدادية على السلطة ويقضي على معارضيه والمشتبهين بهم فشمل هذا إعدام العشرات من كبار المثقفين والأكادميين والقوميين الآشوريين بمن فيهم الشهيد فريدون أتورايا. كل هذه العوامل فعلت فعلها القوي في قطع علاقة الآشوريين في الإتحاد السوفياتي مع غيرهم من الآشوريين خاصة مع أخوتهم في بيت نهرين فأندمجوا في المجتمع السوفياتي وأصبحوا بحكم الآشوريين المنسيين إن لم نقل الضائعين.
البيروستروكيا ((Perestroika والتي تعني إعادة البناء كان المنهاج الإقتصادي للرئيس الأسبق لجمهوريات الإتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف في الثمانينات من القرن الماضي والتي كانت البداية التي هزت العالم وإحدثت تغييرات جذرية سواء على المستوى السوفياتي أو العالم. فتأثيرها كان شاملاً وعاماً على جميع شعوب ودول العالم ولم يستثنى منها حتى الآشوريين ومؤسساتهم في الإتحاد السوفياتي وعلى كنيسة المشرق الآشورية في العالم أيضا. وفعلاً فقد تم إعادة بناء هيكلية المجتمع الآشوري في الإتحاد السوفياتي والجمهوريات المنضوية في رابطة الدول المستقلة (Commonwealth of Independent States ) وإختصارا بـ (CIS) التي كانت في السابق من جمهوريات الإتحاد السوفياتي. فعندما تسنم البطريرك الراحل إلى الأخدار السماوية قداسة مار دنخا الرابع كرسي البطريركية وضع نصب عينيه أهمية الإتصال بالآشوريين في الإتحاد السوفياتي وإرجاعهم إلى كنيسة أبائهم. وفعلا قام قداسته في عام 1982 بزيارة إلى الآشوريين في الإتحاد السوفياتي ثم تكررت الزيارة في عام 1988. وفي المجمع السنهادوسي للكنيسة المنعقد في سدني – أستراليا في شهر آب من عام 1994 أسندت مسؤولية الإهتمام بالآشوريين ولم شملهم حول الكنيسة إلى قداسة البطريرك مار كوركيس الثالث صليوا (في وقتها كان مطربوليت للكنيسة في العراق) الذي زراهم في شهر مايس من نفس العام ووعدهم بإرسال كاهن ليقدم لهم الخدمة حسب طقوس كنيسة المشرق. وفعلاً وفي شهر كانون الثاني من عام 1995 زار قداسته وبصحبته القس خامس هرمز، حاليا مار أسحق خامس أسقف دهوك، معظم الآشوريين في روسيا وبعض دول رابطة الكمونولث فأقاموا القداديس حسب طقس كنيسة المشرق بعد إنقطاع طويل دام أكثر من قرنين ونصف القرن. وكنتيجة لذلك فقد أعترفت السلطات الروسية بكنيسة المشرق الآشورية وسجلت ككيان كنسي في وزارة العدل الروسية. وبفعل التبرعات السخية الضخمة لبعض الآشوريين تم بناء كنيسة مريم العذراء الضخمة في موسكو التي أصبحت الخيمة الجامعة للأشوريين المتحمسين للعودة لجذورهم. وفعلاً شاهد شخصياً أثناء زيارتي لموسكو في شهر مايس من عام 2002 القداس الذي أقامه القس/الأسقف مار أسحق في هذه الكنيسة الضخمة التي أحتشد فيها المئات من أتباع الكنيسة فكانت فرحتهم لا توصف ولا تقاس عن مدى تعلقهم بكنيستهم وأمتهم الآشورية.
البيروستروكيا والآشوريون القوميون:-----------------------------
قد أكون أسرفت بعض الشيء في بيان دور كنيسة المشرق الآشورية في إعادة معظم الآشوريين في روسيا ودول الكمونولث المستقلة إلى إيمانهم بكنيستهم الأم بعد أكثر من قرنين. وهذا الإسراف في هذا الدور ليس القصد منه إلا بيان مدى تأثير ذلك على الجانب القومي والمدني للأشوريين هناك. فعلاً فقد كانت البيروستروكيا أعادة كاملة وواسعة وجذرية لبناء المجتمع الآشوري في الإتحاد السوفياتي نحو التحول من المجتمع السوفياتي الشيوعي إلى الساحة القومية الآشورية. ففي شهر تشرين الثاني من عام 1990 عقد في موسكو أول مؤتمر آشوري للجمهوريات السوفياتية الإشتراكية المعروفة بـ (USSR) فكان أول نافذة جديدة يطل من خلالها عدد كبير من المثقفيين القوميين وكبار الإكادميين الآشوريين. قد يستغرب القارئ الكريم عندما أقول بأن عدد الأكادميين الآشوريين وحملة لقب البروفسور موجودون في روسيا وجمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة أكثر بكثير من جميع الأكادميين وحملة لقب البروفسور ليس في موطن الآشوريين التاريخي، بيت نهرين، إيران، تركيا وسوريا، بل في جميع أنحاء دول المهجر أيضا. فللكثير منهم بحوث قيمة جداً وعلمية في دراسة تاريخ الآشوريين ومن نواحي مختلفة ولهم كتب ونشرات غنية في البحث الموضوعي معظمها مستمدة من الأرشيف الروسي الخاص بتاريخ الآشوريين الذي يعد أكبر وأعظم أرشيف في العالم فحتى مركز الوثائق البريطانية الذي في معظمه وثائق وتقارير لا يضاهيه في مجال البحوث الموضوعية والدراسة العلمية والأكاديمية لتاريخ الآشوريين. وقد يكفي هنا أن أشير إلى مجلة (ملثا) التي يصدرها النادي القومي الآشوري باللغة الإنكليزية، والتي كان يحررها مجموعة من العلماء والبروفسوريين الآشوريين وعلى رأسهم البروفيسور الدكتور سركيس أوسيبوف، ففي كل عدد منها نجد بحوث سياسية قومية في غاية الأهمية قلما نجد مثيلا لها وتجلت أهمية بعضها في ترجمة العديد من البحوث التي كتبت بالروسية خاصة التاريخية منها المحفوظة في الأرشيف الروسي.
في شهر مايس من عام 2002 أستلمنا أنا وبعض من زملائي دعوة لحضور المؤتمر الآشوري العالمي الذي نظمه الإتحاد الآشوري في موسكو (خويادا) وبتعضيد ومشاركة هيئة تحرير مجلة (ملثا) الذي أنعقد في موسكو لعدة أيام حضره عدد كبير من الآشوريين المثقفيين من دول المهجر وشاركوا ببحوثهم القيمة فيه وشاهدنا فيه عجب العجب من المستوى الراقي للوعي القومي والعلمي للآشوريين الذي حضروا من روسيا ومن دول كومنولث المستقلة وشاركوا ببحوثهم التاريخية والقومية القيمة، حقاً أقولها وبصراحة كان مستواهم الفكري والعلمي والقومي يفوق كثيراً المستوى الذي نعرفه في موطننا الأصلي وفي بلدان المهجر... ولكن... ولكن أين نحن من كل هذا... أين نحن من فهم الأهمية الجيوسياسية لروسيا وبقية الدول كومنولث المستقلة والأكثر من هذا التساؤل هو أين قياداتتنا السياسية والحزبية من هذا العامل الفكري والجيوسياسي في علمهم السياسي القومي؟؟؟؟
اليوم... أين "القيادة الآشورية" من هذا الفكر القومي والجيوسياسي؟:---------------------------------------------------
عاملان مهمان، الذاتي والموضوعي أو الفكري والواقعي، يشكلان عنصران حاسمان في كل ظاهرة ومنها الظاهرة السياسية وتحديداً لكل حركة قومية سياسية بما فيها الأحزاب والمنظمات القومية، وهو الموضوع الذي يخصنا هنا. أسهبنا بعض الشيء في أعلاه عن هذان العاملان: الموضوعي المتمثل في الموقع الجيوسياسي لروسيا وبقية دول كمونولث المستقلة، خاصة جورجيا وأرمينا حيث عدد كبير من الآشوريين هناك، وعن العامل الفكري المتمثل في المستوى الراقي للوعي القومي الصميمي لمعظم المثقفيين والمفكرين الآشوريين في هذه الدول. ولكن مع الأسف الشديد بأن قيادتنا السياسية والقومية تتجاهل مثل هذه العوامل أو لا تدرك أهميتها في العمل السياسي خاصة عندما ننظر إلى الموقع الجغرافي لموطننا الأصلي المحيط بدول وشعوب مختلفة عن شعبنا من جوانب عديدة وكثيرة وضرورة البحث والإعتماد على العاملين المذكورين للخروج من المأزق الجغرافي لوطننا. اليوم تضع قيادة أحزابنا السياسية وتنظيماتنا القومية كل البيض في السلة الأمريكية ودول الغرب كما فعل قادة الأمس عندما وضعوا كل البيض في السلة البريطانية والفرنسية ولم يجنوا منها غير الدمار والتشرد والضياع. ألا يتعلم قادتنا من التاريخ... ألم نقل في السابق من يتعثر بحجر مرتين فهو جاهل. أفهل حقاً قادتنا جهلاء ويجهلون العوامل الفكرية والموضوعية المهمة في مسيرة كل حركة قومية؟
اليوم يهرع معظم قادة أحزابنا السياسية وتنظيماتنا القومية إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأحياناً إلى الدول الأوربية وأستراليا ويلتقون بأبناء أمتنا هناك ويعقدون الندوات المباشرة والتلفزيونية ويجتمعون، إذا سنحت الفرصة، مع مسؤول حكومي أو غير حكومي ويبدأ الكلام والحديث عن الوضع المأساوي في الوطن عن دور حزبه أو تنظيمه في مواجهة التحديات هناك ثم يعدون إلى الوطن وليس في جعبتهم غير التصفيق والكلام المنمق والمديح الذي لا يمكن صرفه في المصرف القومي لحساب أمتنا. في هذه الأيام الحديث يدور وبسخونة عن تحرير سهل نينوى و "الأخوة الأعداء" في تسابق نحو الحصول على حصة من الكعكة، فيما إذا ترك الكورد أو الشيعة أو السنة او غيرهم، جزءاً منها لنا. أعود وأكرر أسفي الشديد عن جهل قادة أحزابنا لمسألة مهمة وهي خلق التوازن في العمل السياسي فوضع البيض في سلة واحدة هو أمر خطير يحشر الأمة في زاوية واحدة وضيقة لا خيارات لها ولا إرادة حرة. من هنا يستوجب البحث عن خيارات أخرى لخلق توازن في العملية السياسية مع الغير ولم نجد حالياً طرف مؤثر في خلق التوازن غير روسيا والمثقفين الآشوريين القوميين هناك. فعلى قادة أحزابنا السياسية وتنظيماتنا القومية إعادة الوصلة مع أبناء شعبنا هناك وبناء أسس للولوج نحو الجهات الرسمية والتنظيمات غير الحكومية واللقاء بهم كما يفعلون مع شعبنا والمسؤولين في الولايات المتحدة وأوربا وأستراليا. أتذكر في صيف العام الماضي وبينما كنًا مع مجموعة من المثقفين الآشوريين مجتمعين في الجمعية الآشورية الأمريكية في شيكاغو ذكر الناشط القومي والمحلل السياسي نمرود سليمان (أبو طارق) بأنه سيشارك مع وفد المعارضة السورية لزيارة موسكو واللقاء بوزير خارجيتها سيرغي لافروف وطُلب منه أن يقدم جدول بالمطالب الآشورية للوزير فكان رد فعلنا إيجابيا بضرورة تزويده بمثل هذه المطالب والإستفادة من هذه الفرصة التي قد لا تتكرر. وكعادتنا الدائمة خرجنا من اللقاء ولم يحصل أبو طارق غير نتيجة هذه المعادلة (طلب X صفر = صفر).
في السياسية هناك حقيقة واضحة بأن الفرد الواحد لايمكن أن يكون مؤثرا ويحقق نتائج على المستوى القومي ما لم تكن جهوده عبر منظمة أو حزب سياسي، فاللاعب الأساسي في السياسة هي أحزاب وتنظيمات وكتل وإتحادات وغيرها. ولما كان "تجمع التنظيمات السياسية الكلدانية السريانية الآشورية" لا زال، رغم علاته وعثراته، هو الموجود حالياً كتنظيم سياسي قومي لعدد من الأحزاب والتنظيمات، عليه نقترح أن يقوم وفد من هذا التجمع لزيارة أبناء شعبنا في روسيا وجورجيا وأرمينا وتاترستان وغيرهم واللقاء بهم وبتنظيماتهم وإيجاد السبل للقاء مع المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين وطرح وضعنا المأساوي لهم ومحاولة كسب بعض الدعم المعنوي والمادي منهم ليصب في نهاية المطاف في لعبة توازن القوى المطلوب في التعامل مع الدول المختلفة.
لقد سبق وأن ذكرنا في مناسبات سابقة بأن في السياسة لا صديق دائم ولا عدو دائم بل مصلحة دائمة وهذه لا تقوم لها أسس الدوام والإستمرارية مالم يتوفر لها العوامل الذاتية والموضوعية التي سبق وأن ذكرناها. للولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوربية مصلحة خاصة في منطقتنا تأسست منذ زمن طويل، منذ مرحلة الإستعمار الكولينيالي والحرب الباردة. وروسيا لها مصلحة خاصة في المنطقة أيضا ولكن تسعى لتعزيزها وتوسيعها، أي بما يعني بأنها لازالت تبحث عن رقعة أوسع لثتبيت قدمها بعد أن ثبتها مع إيران وسوريا وحتى تركيا. وهنا من المهم أن ندرك أيضا الأهمية الإستراتيجية لهذه الدول الثلاث لكونها محيطة بأرضنا ووطننا التاريخي في شمال بيت نهرين. ولكن يجب أن نعرف جميعاً، وأولهم قادة أحزابنا وتنظيماتنا، بأن "الخبر الحار والمكسب" في السياسة ليس ببلاش بل له ثمن. فهل نملك الثمن لكي نشتري مثل هذا الخبز ... أي بعبارة أوضح هل لنا ثمن نعطيه للمقابل حتى يتحالف معنا على المصلحة المشتركة ونحقق مطمحنا القومي بالعمل معه وليس له. فالتحالف السياسي قائم على الأخذ والعطاء أفهل لنا شيئاً نعطيه حتى نأخذ بمقابله ما يفيد أمتنا؟؟؟ طبعاً الجواب بكل صراحته هو كلا ... لا نملك أي شيء حتى نكون قوة مؤثرة تجلب أنظار الغير نحونا بجدية وفاعلية. لا أنا شخصياً ولا أنت عزيزي القارئ ولا أحد في العالم يرغب أن يعقد صفقة مع شخص مفلس وغير متسق ومنتظم في حياته وعمله. هكذا هو الحال مع الدول والأحزاب والتنظيمات أيضاً فلا أحد منهم ينظر بجدية وفاعلية على مطاليبنا القومية ولا يسمعون صراخ أبناءنا في الوطن مالم تكون قوية ومدوية.. فأين نجد هذه العوامل التي تجعل من أمتنا شيئا أو بضعة غرامات من الوزن في ميزان القوى السياسية ونحن أمة فقيرة لا سند لنا ولا قوة ؟؟؟ دعونا نعيد مرة أخرى صرخة المثلث الرحمات مار روفائيل بيداويد البطريرك الكلداني الأسبق عندما قال:(لا خلاص لنا إلا بالوحدة... فبالوحدة نحترم أنفسنا ويحترمنا غيرنا). إذن إذا توحدنا سوف نحترم أنفسنا ويحترمنا غيرنا وهذا هو بيت القصيدة نحو الغير لكي ينظر إلى وضع أمتنا وطموحاتها بنوع من الأحترام والجدية والتعامل السوي وإلا فالمأساة والفواجع والتهجير ستظل تلاحقنا لسنوات وسنوات.