الروحانية في زمن الأزمات
المطران يوسف توما
"لا جديد تحت الشمس" يقول مؤلف سفر الجامعة. إنها لحقيقة أن كل ما يسبب لنا القلق والسخط أمام الفساد والعنف وعدم احترام حقوق الإنسان، وما إلى ذلك... كان قد وجد دائما. لكن الفرق هو أننا كنا نعيش قبلا في عزلة، في قرية صغيرة. ولم يكن هناك في الماضي أي وسائل للإعلام التي تحولت إلى عولمة المعلومات.
في بداية تدربي على العمل الصحافي – الذي جئت إليه متأخرا نسبيا – تعلمت أن الكلب الذي صدمته سيارة على الطريق أمام البيت الذي أسكنه يستحوذ على اهتمامي أكثر من آلاف المساكين الذين قتلوا في الزلزال الذي وقع في هايتي. وبالتالي صرت أرى بأن الأزمات التي تعصف ببلدي ومدينتي تعني لي أكثر بكثير، وأن هذه الأزمات قد تؤثر على حياتي الروحية أيضا. فأصير أكثر انفعالا وعدوانية وتشاؤما. وأسمح للعواطف أن تتهيج عندي بدلا من الاعتماد على هداية العقل.
لدينا جميعا روحانية تربينا عليها، حتى لو لم يكن عندنا إيمان ديني عميق. إذ لا ينبغي الخلط بين الروحانية والديانة. فالروحانية هي التجربة التي نحصل عليها من الحياة؛ أما الدين فهو المؤسسة. وهناك ممارسات دينية ليست مصدرا للروحانية، كما بالمقابل هنالك روحانيات لا تنتمي إلى الأديان، كالبوذية على سبيل المثال أو الشعوب التي تعتمد الأخلاقية أكثر من الأيديولوجية الدينية.
وإذا أردنا تعريف الروحانية نقول: إنها القوة الداخلية التي تتطور من خلال الصلاة أو التأمل، هذه القوة تبقى معنا ما دمنا على قيد الحياة وهي التي تغذينا. كما أنها تتغذى ممّا نقدمه من أعمال المحبة التي تشدّنا نحو أعضاء الأسرة، أو ما نقوم به من أعمال فيها مهنية واحترام للذات، ثم – مع الوقت -يمكن للروحانية أن تصير قيما تحكم سلوكنا وترسم آمالنا وأحلامنا ومشاريعنا... الخ، وهكذا تدفع بنا للتحرك بخطى حثيثة نحو المستقبل.
مع ذلك، يبدو أن الأمور تختلف في أوقات الأزمات، وأن كل النماذج التي لدينا تبدو مهددة بالانهيار. فالبطالة والفقر يهدداننا بعمق، وتبدو لنا السياسة كخدعة واستغلال، ونرى الأفق البعيد بسوداوية وحزن وتفقد القيم مصداقيتها. عندئذ سنكون مثل ركاب طائرة تتعرّض لمطبّات هواء مخيفة: نحن جالسون مربوطون بأحزمة السلامة لكن ليس لدينا أي سيطرة على الموقف، ولا نعرف متى ستنتهي وأينما نظرنا لا نرى سوى فراغ هائل ...
يحكي لنا الكتاب المقدس الكثير من حالات مماثلة لما يحدث اليوم لبلدنا وعالمنا. وقد كتب اثنان من الأسفار يصفان بوضوح كيف تكون الروحانية في أوقات الأزمات: سفر الجامعة وسفر أيوب.
يدعونا مؤلف سفر الجامعة إلى عدم أخذ أي شيء على محمل الجد. فيبدأ بجملته الشهيرة: "باطل الأباطيل، وكل شيء باطل". كل شيء زائل، متغير ومتحوّل. والكثير من المؤلفات والقصص تنتهي بهذه الحقيقة، مثل اللازمة التي تكررها بطلة ألف ليلة وليلة في نهاية كل قصة: "حتى أتاهم هادم اللذات ومفرّق الجماعات" -أي الموت-”الممر"، العبور الذي لا يسمح لأحد بالتوقف، في حين كنا نريد أن نقول مع الرسل يوم التجلي: "حسن لنا أن نبقى هنا" (مر 9/5). أي، كلما قبلنا بالخسارة وإطلاق سراح الأمور أن تذهب، كلما قلّت معاناتنا، وهذا أبسط درس نتعلمه مع التقدم في السن ومن كل الحكماء والعقلاء عبر التاريخ.
أما السفر الآخر من الكتاب المقدس الذي يتناول المعاناة الأعمق، فهو أيوب، الذي كان ضحية لأزمة حادة أطاحت بذريته، وأصدقائه، وأمواله وصحته. ولكنها لم تتمكن من نسف الأمل لديه. كل ما بقي عنده هو الثقة بالله. فكان يرى الجانب السفلي من لوحة الحياة، لكنه بقي يعتقد أن هنالك أجزاء أخرى تتجاوزه، وهي تشكل تصميما جميلا خفي عن عينيه. وبذلك الموقف الشجاع استطاع أيوب أن يواجه الواقع من زاوية أخرى خفيت على زملائه. وأصبح الله، الذي كان مجرد سماع عنه وعن وجوده فقط، تحوّل الله إلى موضوع حبّ حاضر في حياته، فيختم السفر بهذه الكلمات المدهشة: "سمِعتُ عنكَ سَمْعَ الأُذُنِ، والآنَ رأتْكَ عَيني" (42/5).
ما ينبغي معرفته هو أن الأزمة ليست حدثا حادثا على الطريق. بل إنها جوهر الطريق. كما يقول بولس الرسول "فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتعاني من آلام المخاض" (رو 8/22). لذلك من أجل مواجهة الأزمة، نحتاج إلى قيم روحية تعطي الدعم والشجاعة، ونستخلصها من دروس التاريخ، كما فعل يسوع مع تلميذي عماوس وهو يسير معهم ويشرح لهم الكتب (لو 24).
عندما أنظر إلى ما حولنا وأرى ما يحيط بنا من بؤس وفقر وإرهاب واغتيالات وتفجير وسيارات مفخخة بذكاء شيطاني، أتذكر قصة حدثت عام 1944 في معسكر الاعتقال في أوشفيتز في بولندا، عندما دفعت المأساة أحد الساخطين أن يرفع قبضته نحو السماء ويصرخ: "يا رب، أين أنت؟ لماذا تبقى صامتا ولا تفعل شيئا؟"، فجاء صوت من خلفه، من أحد المسجونين يقول له: "نعم فعلتُ، لقد خلقتُكَ أنتَ!". لو فهمنا هذا لاتضحت صورة المسيح على الصليب ولماذا نؤمن بأنه الصليب هو خلاصنا.
باريس 25 تموز 20