الدون كيشوت المسيحي يحارب الشياطين في العراق
===============================
أبرم شبيرااليوم معركة الدون كيشوت المسيحي ضد الشيطان في العراق حول قرار البرلمان العراقي بتحريم بيع الخمور محتدمة على أشدها وعلى مختلف المستويات، أعضاء الكتلة "المسيحية" وأحزابهم وكتابهم ومثقفيهم وسياسيهم وأيضا معظم مواقعهم الألكترونية. وبالأمس كانت المعركة أيضاً على أشدها فيما يتعلق بموضوع قانون البطاقة اللاوطنية والتي لازالت نيرانها مشتعلة ومتداخلة مع معركة اليوم. وبعد أمس كانت المعركة من طراز آخر قائمة ضد إبتلاع بعض القوى السياسية حق المسيحيين الكامل من الكوتا الخاصة بهم. ولو ذهبنا قليلا أبعد نرى بأن الحروب القائمة على مفهوم "ضد المجهول" أو تحت مسماة رنانة دراماتيكية مثل "محاربة الإرهاب" وهم الأرهاب بذاته، كانت أكثر مأساوية ودموية إبتداءاً من مجزرة سيدة النجاة فصعوداً نحو تشريد المسيحيين من مناطقهم في البصرة والعمارة والدورة وبغداد وموصل وخطف وإغتيالات رجال الدين وفي مقدمتهم الشهيد المطران فرج رحو، رحمه الله في فسيح جناته. أما معارك التغيير الديموغرافي والتجاوزات على أراضي شعبنا في مناطقه التاريخية فلها طابع آخر مرتبط بقلعه من جذوره وتشريده في أركان الدنيا من دون أرض أو أساس تاريخي للأباء والأجداد. والحديث عن جحيم داعش وما قبله من مذابح الأنفال وصورية وسميل وسيفوا كلها حلقات متشابه في مضمونها ضمن سلسلة مترابطة رسم تاريخ العراق الدموي وبشكل واضح وجلي. من يعتقد بأن من أقر ووافق على قانون تحريم الخمور والبطاقة اللاوطنية وبالعي الكوتا المسيحية ومرتكبي مذابح سيدة النجاة وصورة وسميل ومجرمي داعش مختلفون فهو واهم مثل الواهم الذي يضع الفرق بين (حسن كجل وكجل حسن). إعتذاري الشديد من أسم حسن المستخدم في هذا المثل العراقي.
لقد دخل أباؤنا وأجدادنا معارك كثيرة ضد الظلم والإستبداد، وأن كانت في معظمها خاسرة عسكريا إلا أنها كانت معارك لها نتائج مرتبطة بالوجود والثبات لأنهم دخلوها بكرامة وعزة النفس وعبر ساحات مختلفة عن ساحات مضطهديهم وبأسلحة وأفكار وأهداف مختلفة ميزتهم عن غيرهم من عدة نواحي دينية وقومية وحضارية وإنسانية فكانت وأصبحت الأساس الذي أعتمد عليه وتواصل معها وجودنا التاريخي في أرض الأباء والأجداد وحتى يومنا هذا. ولكن مما يؤسف له أن "أبطال" معاركنا في هذه الأيام يدخلون المعارك من نفس ساحات مضطهديهم ومستخدمين أسلحة "فاشوشية" غير قادرة على مقاومة قوة وسطوة شياطين الطائفية والحقد والكراهية وتكفير المختلف. أمر يعرفه أجهل الجاهلين بأنه عندما يجلس عضو برلمان مسيحي تحت نفس القبة مع زعماء الطائفية والحقد والكراهية والتكفيرية فأنه لا محال منه مهما أختلف عنهم وأعترض على قرارتهم فأن الحكم النهائي هو للـ "الديموقراطية" العراقية، الأول من نوعها في تاريخ الفكر السياسي. فالخضوع لحكم الأكثرية الإستبدادي أمر يقره نظام البرلمان العراقي وديموقارطية العراق الطائفي. لهذا لا مفر أمام "ممثلي" شعبنا المسيحي إلا الخضوع المهين لقرار الأكثرية سواء صوتوا ضده أم كانوا معه، فالأمر سيان في كلا الحالتين.
من هذا المنطلق فأن كل الحروب التي دخلها المسيحيون في العراق كانت خاسرة وكانت خسارتها معروفة مسبقاً. واليوم الحالة تتكرر نفسها مع نفس سلسلة الإضطهاد التي يستخدمها البرلمانيون زعماء الطائفية والحقد والكراهية في ضرب المسيحيين في العراق وقلعهم من جذورهم التاريخية وحضارتهم العتيدة. وكل الدلائل الفكرية والسياسية تؤكد بأن السلسلة لا تتوقف عند بطاقة اللاوطنية وتحريم الخمور، بل إنطلاقاً من هذه الدلائل فمن المتوقع جداً بأننا سنرى يوم غد تشريع يحرم المسيحيين من تسمية أبناؤهم وبناتهم بالأسماء المسيحية أو الحضارية ومنع السفور على النساء المسيحيات وفرض الحجاب والبرقع عليهم، لا بل وتحريمهم من قيادة السيارات وإختلاط الجنسين في المدارس والأماكن العامة. وليس مستبعداً أبداً أن يصبح موضوع فرض الجزية وإعتبار المسيحيين ذميون، ليس لأن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع في العراق بل لأن الطائفية الممقوتة وتكفير المختلف مبادئ أساسية متمركزة في فكر المتسلطين على الحكم والسياسة في العراق ويحكمون الأمور طبقاً لها وعلى الآخرين أن يخضغوا لها.
أنه من المؤسف أن نقول بأن كل الحروب التي يخوضها المسيحيون ممثلين ببرلمانيوهم فيما يخص موضوع تحريم الخمور هي حروب خاسرة حالها مثل حال حروب ضد البطاقة اللاوطنية وغيرها من التشريعات والسياسات والممارسات الإستبداية بحق المسيحيين طالما هم جالسون بجانبهم على نفس كراسي البرلمان وتحت نفس القبة ويستخدمون نفس الأسلحة "الفاشوشية" ويلعبون في نفس ساحتهم الحربية. وبإختصار العبارة نقول وبملئ الفهم بأن جهودهم ضائعة بين أمواج العاصفة الطائفية الإستبدادية وأنهم يسبحون بعكس التيار الجارف، ولا محال لهم، إن كانوا صادقين في عملهم ويسعون إلى خير هذه الأمة، إلا ترك ساحة الإستبدادية وترك البرلمان والخروج منه نحو أبناء أمتهم والجلوس تحت قبة الوحدة القومية والدينية وهو ما دعينا إليه سابقا إلى تشكيل (المجلس القومي للكلدان السريان الآشوريين) من جميع "ممثلي" شعبنا في البرلمانين المركزي والإقليمي هذا على الجانب القومي السياسي وأيضاً على الكانب الديني الكنسي تشكيل (المجلس الأعلى للمسيحيين في العراق) من رؤساء جميع كنائسنا المشرقية في العراق... ولكن، كما قال ذات يوم أحد أصدقائي عندما طرحت مثل هذا المقترح (بالمشمش – كما يقول المصريون) ولا يخرجون من هذا المشمش إلا عندما تكون المصالح الشخصية والتحزبية والطائفية المسيطرة على نشاطاتنا السياسية والدينية أضعف من عوامل الحب والتفاني والإخلاص لهذه الأمة ولكنائسها المشرقية.
وفي الأخير، رغم أن هذا الموضوع مطروق في السباق إلا أنه أرتئينا أن نعيده ولكن بصيغة وأسلوب آخر فوجدت في موضوع كتاب دون كيشوت للكاتب الإسباني ميجيل دي سيرفانتش (1547-1616) والذي كتبه في عام 1605 ميلادية حالة دراماتيكية لحروب وهمية تشبه في جوانب منها حروب "ممثلي" أمتنا في البرلمان العراقي. ولتجنب الإطالة وجدت في ملخص رواية دون كيشوت التي كتبها الأديب والشاعر عماد تريسي سبيلاً للإختصار.
دون كيشوت الرجل الذى حارب طواحين الهواء معتقدا بأن الشياطين تسكن فيها. فهو رجل نحيف طويل قد ناهز الخمسين - بورجوازي متوسط الحال يعيش في إحدى قرى إسبانيا في القرن السادس عشر , لم يتزوج، ومن كثرة قراءاته في كتب الفروسية كاد يفقد عقله و ينقطع ما بينه و بين الحياة الواقعية ثم يبلغ به الهوس حداً جعله يفكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين و ذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الأرض و يخرجون لكي ينشروا العدل وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل و اليتامى والمساكين فأعدَّ عدته للخروج بأن استخرج من ركن خفيٍّ بمنزله سلاحاً قديماً متآكلاً خلَّفه له آباؤه فأصلح من أمره ما استطاع، وأضفى على نفسه درعاً، ولبس خوذة و حمل رمحاً وسيفاً وركب حصاناً أعجف هزيلاً. وانطلق على هذه الهيئة شأن الفرسان السابقين الذين انقرضوا منذ أجيال .ثم تذكر وهو سائر في طريقه فرحاً مزهواً أن الفارس الجوال لا بد له من تابع مخلص أمين، فعمد إلى فلاح ساذج من أبناء بلدته و هو سانشوبانزا ففاوضه على أن يكون تابعاً له و حاملاً لشعاره و وعده بأن يجعله حاكماً على إحدى الجزر حين يفتح الله عليه ، وصدَّقه سانشو ووضع خرجه على حماره و سار خلف سيده الجديد.
معركة طواحين الهواء :
أول المعارك التي سعى هذا الفارس الوهمي إلى خوضها كانت ضد طواحين الهواء إذ توهم ولم يكن قد شاهد مثلها من قبل أنها شياطين ذات أذرع هائلة و اعتقد أنها مصدر الشر في الدنيا، فهاجمها غير مصغٍ الى صراخ تابعه وتحذيره ورشق فيها رمحه فرفعته أذرعها في الفضاء ودارت به ورمته أرضا فرضَّتْ عظامه .
معركة الأغنام :
ثم تجيء بعد ذلك معركة الأغنام الشهيرة، فلا يكاد دون كيشوت يبصر غبار قطيع من الأغنام يملأ الجو حتى يخيل إليه أنه زحف جيش جرار، فيندفع بجواده ليخوض المعركة التي أتاحها له القدر ليثبت فيها شجاعته ويخلد اسمه و تنجلي المعركة عن قتل عدد من الأغنام وعن سقوط دون كيشوت نفسه تحت وابل من أحجار الرعاة التي رموها بها فيفقد فيها بعض ضروسه .
و تتوالى مغامرات دون كيشوت الذي يجرجر وراءه تابعه المغلوب على أمره وتتوالى هزائمه في كل المعارك التي خاضها وهو في كل مرة يدرك أنَّه قد هزم بالفعل، و لكنَّه لا يفسر الأمر على الوجه الصحيح فيرجعه عن جنونه، إنما يفسره على أن خصومه من السحرة قد أرادوا حرمانه من نصر مؤكد فمسخوا بسحرهم العمالقة الشياطين الى طواحين هواء و مسخوا الفرسان المحاربين إلى أغنام ....
هذه القصة قدمت الصراع الدائم بين الخير والشر- الحياه و الموت -الواقعية و المثاليه، و بين واقع عملي نفعي يفرض وجوده على البشر فدون كيشوت كان قصده الأصلي أن ينشر الحق و العدل والقيم النبيلة، لكنه سار فى الطريق الخطأ وهو طريق الأوهام و انتهى عمله إلى لا شيء، وتحولت الأمور إلى الأسوأ .بينما تابعه سانشو بانزا يمثل الواقعية التي تطلب الفائدة الملموسة و النفع القريب .
والرواية تبيِّن كيف أنَّ الإنسان يمكن أن يتصارع مع أوهام و خرافات، وهو مؤمن بها و في النهاية لا يكسب شيئاً، بل يخسر أشياء كثيرة منها حياته.
-----------------------
وأخيرا، المثل يقول بأن الإشارة تكفي اللبيب، ولكن هنا أقول من خلال سردي مختصر لقصة الدون كيشوت بأن الإنسان البسيط تكفيه هذه الإشارة ليفهم المقصد.