الى كنائسنا الشرقيه: رؤيه من علم الادارة
ينسب أول تشريع أو سن قوانين لتسيير وإدارة أمور البشر لحمورابي في بابل ولكن ربما سبقه النبي موسى عندما اخذ النصيحه من حماء المصري في تقسيم الشعب إلى عشرات يكون لها رئيس يحل مشاكلها ويدير أمورها وفوق هؤلاء رؤساء آخرين يكونون مراجع لرؤساء العشرات وفوق هؤلاء الرؤساء كلهم يكون النبي موسى لحل الامور المستعصيه - وهكذا منذ البدء عرف الإنسان أهمية التشريع والبناء الإداري لكي تسير أمور الناس بصورة صحيحة: هذه ربما هي نواة نشأة علم الاداره
الإدارة وإدارة الموارد البشرية:
في الوقت الذي أصبح علم الإدارة مطلوبا في يومنا هذا في كل مفاصل الحياة اثبت فرع إدارة الموارد البشرية أهمية متميزة لتخصصه في تحديد وظيفة ومهام ومسؤوليات الأفراد والجماعات ضمن كافة الهياكل التكوينية للمجتمع سواء ضمن المؤسسات الحكومية أو الاقتصادية أو الدينية أو الاجتماعية أو غيرها. ففي القطاع الحكومي يتمثل دور إدارة الموارد البشرية برسم حدود كل فرد في جميع المراحل من أعلى الهرم في السلطة الحكومية الى اسفله لكي يعرف الكل مسؤولياته ومهامه وواجباته والتزاماته. وكذلك في المؤسسات الغير حكومية ايضا. اما ما يخص المؤسسه الكنسيه فمنذ البدء وضع البشير بولس الرسول المعالم الرئيسية لشكل شخصية رجل الدين في رسالته إلى طيموثاوس, والتي اذكاهاالوقود الإيماني وتأثيرات البشارة المستقاة من الكتاب المقدس و التفاسير الكهنوتية, كل ذلك املا ان يتمكنوا الرعاة من قيادة رعاياهم للحصول على نعمة الغفران والحياة الأبدية. أما بخصوص الامور الدنيويه بالنسبة لجسم المؤسسه الكنسيه فكان ومازال على الكنيسة اتباع القواعد المنطقيه في علم ادارة الموارد البشرية في رسم الحدود والوظائف والمهام لجميع الأفراد على اختلاف مواقعهم ضمن جسم المؤسسة. فعلى سبيل المثال الكنيسة الكاثوليكية بدأت منذ نشأتها بسن قوانين وضعية حددت لكل من رأس الكنيسة أي الكرسي الرسولي إلى أسفل الهرم صلاحياته ومهامه و متطلباته وحقوقه وواجباته. قداسة البابا ليس شخصا خارقا رغم انه معضدا بالروح القدس على قدر ايمانه إلا أنه يبقى إنسانا له حدود وطاقات بشرية وعليه النظر على الدوام إلى كنيسة الرب بشكل عام ليقول للرب نعم ربي بعونك سأحاول ما استطعت ان ابقيها سائرة في سبلك المستقيمة كما اردتها وحين يرى شائبة هنا او هناك او نقطه ضبابية في مكان ما من جسم الكنيسة لا يهملها لعلها الخروف الضال ولكنه ايضا لا يذهب ليصلحها بل يعرف او يستشير ليعرف من ينسب ليقوم بتصحيح الخطأ. نأتي بمثال عن الفساد الاداري قبل عدة سنوات في الفاتيكان, شائبة رآها قداسة البابا فرنسيس ولكن لم يجلس في القسم المالي ليصلح الفساد ولكن كلف من هم قادرين على تصحيح الخلل وعاد ليتابع دفة السفينة في ابحارها في عالم مليء بالمظالم. وهكذا تأتي جميع نشاطاته وزياراته إذ يخطط لها و يتدارس بها مع الكثيرين من اخوته وابنائه الأساقفة والمفكرين والعلمانيين قبل كل خطوة يخطوها: وحتى الخطب والتصريحات والنداءات فقد يحررها معاونين ذو اختصاص بعد تنقيحها من قبله أو من قبل آخرين مختصين (وبالطبع ما يتناسب مع توجهاته وتوجيهاته ورؤيته)
مثال ومقارنه:
في احدى الكنائس, وصلت ثلاثة استفسارات الى كاهن الرعية خلال اسبوع واحد حول توقيتات التناول الاول لاطفال الرعيه. في الأحد التالي وأثناء الموعظة طلب الكاهن من ابناء الرعية إعادة تشكيل اللجنه المسؤوله عن التناول الاول حجته انها على ما يبدو لا توصل خدماتها الى ابناء الرعية ولذلك تأتي الاستفسارات إلى الكاهن فما علاقة الكاهن بالأمور التنظيمية للتناول الاول!.
كهنتنا في الكنائس الشرقية يمسكون زمام كل الأمور بيدهم وتستمر هذه الصفة معهم حتى مع كبر مسؤولياتهم ومناصبهم وارتقائهم سلم المسؤوليات الأكبر ولكونهم بشر عاديين ليسوا خارقين وقدراتهم الفكرية والتأهيلية ذات حدود فيصبح احيانا التقصير واضحا في بعض نشاطاتهم.
في هذه الخورنة كاهن واحد وشمامسة معدودين ولجان من ابناء الرعية حوالي ثلاثين شخص من الرجال والنساء. اما الابرشية فهي مؤسسه كبيره, فبالاضافة الى الاسقف هناك كهنة مساعدين ومستشارين وكهنة رؤساء لجان وكهنة احتياط وكهنة مندوبين يرسلهم الاسقف لتنفيذ مهام معينة وعلمانيين أكثر من مائة وخمسين شخص. للرعية موقع الكتروني و الأبرشية موقع اكبر وجميع المنشورات والمطبوعات تحصل على موافقة اللجنة المختصة بالنشر في الأبرشية. واردات الابرشية المالية أكثرها من نشاطات الكنائس وهي تكفي لتمويل كل احتياجات الكنائس التابعة للأبرشية وفائض للنشاطات الإنسانية داخل وخارج الأبرشية.
اما بخصوص كنائسنا في الشرق, وحيث انه قد تغيرت الأمور عن السابق, فقد أصبح الكل يعلم أهمية الجانب المالي لتسيير أمور الكنائس ففيما مضى كانت كلفة إدارة الكنائس بسيطه وحتى كلفة بناء الكنائس كانت قليلة فعلى سبيل المثال كنيسة الطاهرة الكبرى في بغديدا وهي كانت أكبر كنيسة في الشرق الأوسط تم بناؤها بدون دفع أجور عمل لأن كل الذين عملوا في بنائها عملوا ذلك مجانا. ولكن ليس الحال كذلك اليوم ولذلك أصبح الكل يعي واجبه والتزاماته المالية للكنيسة مقابل المشاركة في النشاطات الكنسية من عماذ وبراخ وتناول وغيرها.
ما ذكرناه يؤكد اهميه ان يكون في كنائسنا الشرقيه جهه مسؤوله عن تحديد كافة المناصب ورسم الخطوط العريضه لمهامهم وواجباتهم وصلاحياتهم. كما انه ان الاوان لتخليص رجال الكهنوت من المسؤوليات الغير دينيه وتسليمها بيد ابناء الرعيه بل وتسليمهم مسؤولياتها وتوسيع نشاطاتهم والاستفاده من امكانياتهم ومؤهلاتهم لتوسيع عمل الكنيسه من الناحيه الثقافيه والادبيه والفنيه والاجتماعيه وبذلك يكون قد اعطينا الفرصه لرجال الدين ليمارسوا عملهم الروحي المطلوب كما يراه القديس بولس الرسول من ناحيه ونكون قد ازدنا الوعي الديني والكنسي لدى ابناء الرعيه من ناحيه اخرى.
اما على مستوى الابرشيات والبطركيات, فبغية مواكبه العصر وتسيير الامور بالاساليب الحضاريه والاستفاده من العلوم الحديثه ومنها علم الاداره بالشكل الامثل, علينا تأسيس اقسام اداريه اذا لم يكن هنالك جهه مسؤوله عن هذه الناحيه ومتفرغه لهذه المهمه وحسب حجم المؤسسه فلربما كنيسه صفيره تكتفي بثلاثه اشخاص ولكن كنيسه كبيره كالكنيسه الكلدانيه قد تحتاج الى عشره او اكثر على سبيل المثال: اذ يجب ان يكون هنالك اساقفه مساعدين ومختصين ولكل نشاط يجب ان يكون اساقفه مؤهلين تقع عليهم المسؤليه المباشره لمتابعه ذلك النشاط وتقديم الاستشارات الى الاساقفه الرئيسيين, اما الاساقفه الرئيسيين فعليهم النظر من الاعلى لرؤية التوجهات الرئيسيه لكنائسهم.
القيادة والكاريزما
إن صفة القيادة مطلوبة في الكثير من الناس وليس في ما يعتقد أنها محصورة في القادة السياسيين وقادة الثورات وقادة الجيوش و الفيالق العسكرية. ان رئيس الحكومة قائد مؤسسه حكومية سلطوية ورب الاسره قائد تنشئة والمعلم قائد تربوي والكاهن قائد ديني والطبيب والمهندس ورب العمل ورئيس العمال والكل قائد في مجال ما بحدود معينة. ولذلك فإن ما يقال عن ان شخص ما يمتلك صفة قيادية في ما مضى أصبح اليوم علما يسمى علم القيادة يدرس الاسس والاساليب العلمية التي تساعد الانسان لإذكاء أهليه القيادة لتحقيق امور ايجابية كزيادة إنتاج صناعي او فكري.
تعددت المناهج القيادية في يومنا هذا, فهناك المنهج التشجيعي والتحفيزي والذي اثبت نجاحه في المجتمعات التي تبنت الفلسفات الغربية, وهناك المنهج الاستبدادي السلطوي نجح استعماله في المجتمعات النامية, والمنهج التواضعي أي تحمل الاخفاقات وعطف النجاحات للاخرين. ولكن على العموم فقد اعتمد الفرد/القائد على المنهج الذي ينسجم مع طبيعته الشخصية ونظرته للحياة وطريقة تفسيره للأمور. اضف الى ذلك فقد عرف عن بعض الاشخاص امتلاكهم الى ملكه اضافيه أعطت طابعا خاصا لذلك الشخص بحيث اصبح لحضوره تميزا خاصا سميت بالكاريزما: ما يتمتع به رجل الدين من هالة قدسية هي كاريزما من طراز خاص!
هناك امثله كثيره من القادة الذين امتلكوا هذه الكاريزما ولكن أكثر من عرفوا منهم هم من القادة السياسيين من أمثال هتلر وصدام حسين وجون كنيدي ومارتن لوثر كينغ وكذلك رواد مثل ستيف جوب وروبرت فورد. فلا بد أن يتذكر الكثيرين ارتفاع نسبة الانتاج والكفاءة في مواقع العمل وفي كافة الميادين في حضور صدام حسين وكذلك تأثير ظهور ستيف جوب حاملا الهاتف النقال الايفون على الملايين من الشباب وغيرهم في الولايات المتحدة وباقي أقطار العالم واسم مارتن لوثر كينغ في تغيير شكل المجتمع الأمريكي من مجتمع تتلاعب به افكار العبودية إلى مجتمع يحاكي ويغازل أسمى صور الديمقراطية
لقد منح الروح القدس رعاة كنائسنا ومع تقادم عظم مسؤولياتهم مسحة من هذه الكاريزما بانت واضحة على سبيل المثال بشكل جلي لدى البطريرك الكلداني لويس ساكو: كاريزما صقلتها علمانيته وافكاره النيره ونشاطاته الباهرة. هذه الكاريزما منحته قوة شخصية لحمل نير وثقل هموم المسيحيين على مساحة انتشارهم من مختلف الكنائس في العراق. ولكن الاعتماد على هذه الموهبة وحدها مع حجم المسؤولية التي يتبناها الأساقفة دون الاستفاده من الاساليب القيادية العلمانية الاخرى ومن ضمنها الاستفاده من الاساقفه الاخرين وإمكاناتهم تترك فسحة لانتقاد اية اخفاقات (متوقعة او غير متوقعه) تصاحب مسيرة نشاطاتهم. اضف الى ذلك انه مع الانفتاح الحديث بين الاديان ظهر شعاع بدا يخترق الحجاب القدسي الذي يحيط برجال الدين, لذا أصبح من الضروري على اساقفتنا الاجلاء التخلي عن الاعتماد على كاريزمتهم وان يتحلوا بمؤهلات الإدارة وتوزيع المهام على الجهات المساعده من رجال إكليروس وعلمانيين وكل حسب كفاءتهم وامكانياتهم ويقتصر دورهم على الاشراف والمراقبة والتوجيه وتقديم النصح للاخرين وتمكينهم وتشجيعهم وتقويتهم لأداء المهام المكلفين بها بالشكل المطلوب.
الكنيسة والتدخل بالأمور الدنيوية
كنائسنا اليوم لم تعد كما كانت أيام الرسل فقط لتقاسم الخبز والاشتراك في الذبيحة الالهية. كنائسنا اليوم اصبحت جزء من حياتنا تشترك معنا ونشترك معها في الكثير من النشاطات وحتى اليوميه منها تشاركنا اهتماماتنا و نشاركها اهتماماتها.
كنائسنا ممثلة برجال الاكليروس, تتأثر بأسلوب معيشة الشعب وتتفاعل معه وتتدخل في تفاصيله مثل نشاطاته الثقافية والتراثية والسياسية والتجارية وكل ما يتبع ذلك.
من اكثر الامور الدنيويه حساسية هي علاقه الكنيسه بالسياسه. ففي يومنا هذا, اصبح الحديث عن العلاقة بين الكنيسة والسياسة كلام دارج على لسان أبناء الشعب بمختلف ثقافاتهم وانتماءاتهم وغاياتهم ولم يعد يسمع صوت الحقيقة لأن ضجيج الكلام الذي لا يرتكز إلى المنطق قد ملأ الكون صراخا. أن كلمة السياسة هي مرادفة لكلمة الإدارة والمحاسبة فكلاهما يدخلان في كل النشاطات البشرية وجميع مفاصل الحياة. ولكن ما يقصده هؤلاء هو العمل الحزبي - اي أن تقوم الكنائس باستعمال سلطتها وتأثيراتها وامكانياتها لتأسيس أو تأييد أو مناصرة حزب او تنظيم او مؤسسة هدفها المشاركة في رسم شكل الحكومة التي تدير امور الدوله وليس التي هدفها المشاركة في رسم شكل الثقافة او الفن والتراث في تلك الدولة ذاتها. ففي الوقت الذي يعتبر تدخل رجال الاكليروس في النشاطات الحزبية منافي للصفات التي حددها القديس بولس الرسول لخادم الرب. فأن تأثر ومشاركة رجال الاكليروس أبناء رعيتهم في كل ما يمس أمور حياتهم شيء طبيعي وهذا ما معمول به في المجتمعات المتقدمة حيث لا يحق لرجال الدين الترشيح لمناصب سياسية ولكن لهم الحق بل ويجب عليهم انتخاب السياسيين وكذلك قد أوجب عليهم قبول الانتداب في المحاكم المدنية مثلا إذا طلب منهم ذلك.
لربما نكون اننا نكيل بمكيالين: عندما تقوم الكنيسة برعاية نشاطات لتقويه اللغه او الازياء او الثقافة او الفن او التعليم او مساعدة المحتاجين نتفق معها, واذا كان المجتمع بحاجة الى هكذا نشاطات ولم تفعل الكنائس ذلك فالويل والثبور والانتقاد نصيبها وخاصة اذا كان هنالك فراغ في هذه النشاطات كأن لا يكون هناك إمكانية لدى الحكومة أن تساعد المحتاجين او لا يكون هنالك منظمات انسانية مدنية لمساعدة الفنانين او انقاذ التدني الثقافي في المجتمع. ولكن اذا حصل فراغ في العمل السياسي للأحزاب العاملة (مثل ما يحدث الآن في خضم الاختلافات والتسقيطات السياسية بين احزاب شعبنا) ووجدت الكنيسة لزاما عليها النصح او قول كلام ما أو القيام على الاقل بمحاولة جمع الاحزاب تحت خيمة وئام فإن المتضررين والذين ليس في اهدافهم الحقيقية التوحد والالتئام سوف يقومون برفض هذا النشاط من جانب الكنيسة وسيكون بنظرهم تدخل من قبل الكنيسة في السياسة.
على كل حال, يبقى على اساقفتنا الاجلاء الحذر في التعامل مع موضوع السياسه والعمل الحزبي عمليا واعلاميا ويجب الاعتماد على العلمانيين التابعين للكنائس في تمرير الالتزامات التي تُحمّل الكنيسه نفسها فيما يخص الامور الدنيويه وخاصه ما قد يلمح له بأنه له علاقه بالسياسه للتخلص من الانتقادات وقذف التهم جهارا.