المحرر موضوع: في نستولوجيا المثقف اليساري  (زيارة 826 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل عبد الحسين شعبان

  • عضو مميز
  • ****
  • مشاركة: 1287
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني


في نستولوجيا المثقف اليساري

عبد الحسين شعبان(*)

الزمان مكان سائل، والمكان زمان متجمّد
ابن عربي
- I -
ما الذي تبقّى من المثقف اليساري في مجتمعاتنا؟ فهل انقرض أم خفّ وزنه أم ضَعُف تأثيره، وشغلته ظروف الحياة ومشكلاتها عن أحلامه وطموحاته، أم أنه يمكن أن يستعيد دوره وموقعه وألقه؟ أتراه أصبح جزءًا من الماضي وتراثه، ومجرّد ذكريات يحنّ إليها بعضنا بين الفينة والأخرى، أم أن حضوره الحالي والمستقبلي، على الرغم من محدوديّـته، هو جزء من معركته بشكل خاصّ لإثبات وجوده وتأكيد استمراره، وكذلك جزء من معركة اليسار بشكل عامّ، الذي ما بات يعاني من حالة انحسار وانكماش بسبب أزمته الخاصّة وأزمة الحركة اليسارية والتحرّرية بشكل عام؟
يمكن هنا تسليط الضوء على ما ذهب إليه "ميشيل فوكو"، وخصوصاً في مقالته التي تحمل عنوان "المهمّة السياسية للمثقّف" ردّاً على سؤال وجِّه له: "هل بوسع المثقف اليساري أن يفعل شيئاً بوصفه فاعلاً، وبوصفه الوحيد القادر على الفعل داخل حراك اجتماعي؟"، وكان جوابه: "إنّ الرأي الذي يقول إنّ تدخّل المثقّف بوصفه مُعلّماً أو صاحب رأي، لا أتبنّاه... لأنني أعتقد أن الناس ناضجون بما يكفي كي يقرّروا...".
   ولعلّ نظرة مثل هذه، تشكّل خروجاً على الفكرة التبشيرية لدور المثقف في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تلك التي كانت تعطيه دوراً ريادياً في تبصير الناس وتنويرهم وتوجيههم نحو التحرّر.
   لقد أعلن فوكو بذلك "نهاية المثقّف"، خصوصاً عندما اعتبر مفهوم المثقف ذاته غامضاً وعائماً، فالمثقف مذنبٌ حين يصمت وحين يتكلّم وحين يكتب وحين يستقيل، لأن وظيفته الجديدة، بحسب فوكو، هي النّضال ضد مسلّماته، فهو إما أن يكون ملتزماً أو مزيفاً، وهو ليس وسيطاً عقارياً بين آيديولوجيات، لأنه ينبغي أن يكون صوت المظلومين والصامتين والمهمّشين.
   وقد كان "أنطونيو غرامشي" صاحب فكرة "المثقف العضوي"، وهي المقولة الأثيرة التي ظلّ أصحابنا الماركسيون واليساريون يستخدمونها بمناسبة ومن دون مناسبة، وقد عني بها الاقتراب من الجماهير، والعمل وسط المواقع الدقيقة للحركات الاجتماعية، بل التماهي معها.
لا يتحدّث بعض مثقفي اليسار، ولا سيّما العربي في الكثير من الأحيان، عن الحاضر أو المستقبل، لكنه يغوص في الماضي ويستغرق فيه مستذكراً بشغف أيّامه الجميلة كما يسمّيها أحياناً، يوم كان دوره مؤثّراً وصوته هادراً وإبداعه راقياً. ربما يجد في تلك النستولوجيا "الحنين إلى الماضي" تعويضاً عن حاضر باهت ومستقبل مجهول وأحلام مُنكسرة، وقد يرجع ذلك إلى شعوره بأنّ الماضي معروف، وهو يستحضر جزءه المشرق، أما الحاضر فلا يزال ملتبساً والمستقبل لا يُبشّر بالخير حسب معطياته.
في نبرة المثقف اليساري تشعر أن ثقته بالمستقبل ضعيفة، بحكم موقعه المتواضع والتابع أحياناً، لذلك يتشبّث بالتاريخ وبالماضي، كجزء من محاولة البقاء، وهي سمة عامة لنا نحن العرب، الذين نتحدّث عن ماضينا "التليد"، أكثر ممّا نتحدّث عن حاضرنا ومستقبلنا.
وبالطّبع تختلف مهمّات المثقف اليساري الراهنة عن مهماته السابقة، وكذلك وسائل وأساليب تحقيق أهدافه، ناهيك بأدواته، وهي أمور لا بدّ من أخذها بنظر الاعتبار عند تناول دور المثقف وأفقه المستقبلي في ظلّ الأزمة الراهنة وسُبل الخروج منها.
صحيح أن التراجع والانكسار والخذلان والخيبة هيمنت على المثقف اليساري، أو مثقف التحرّر الوطني، كما يطلق عليه بعضهم، باستثناء قلّة ظلّت متشبّثة بممانعتها ومقاومتها ورفضها لمشاريع ومخطّطات تريد فرض الأمر الواقع على شعوبنا وبلداننا، وعلى الثقافة والمثقفين من جانب جهات متسيّدة ومتنفّذة خارجية وداخلية، لكن حتى بعض هذه القلّة يعيش هو الآخر في الماضي، ولا يريد تطوير أدواته لمواجهة الحاضر واستشراف المستقبل. والبقية الباقية ليس لديها الوسائل والمستلزمات الكافية للمواجهة بسبب اختلال موازين القوى وتشتّتها "شيعاً وأحزاباً"، لكنها ظلّت حريصة على أن يبقى صوتها مستقلاً ونقدها مستمراً.
تحاول الجهات المتنفّذة على الثقافة والمثقفين فرض منهجها، تارةً باسم "العولمة" وتارةً أخرى باسم "التغيير والدمقرطة"، وفي تارة ثالثة تحت عنوان "مواجهة التغريب والاستكبار" ولكن من موقع السلفية والماضوية، وبين هذا وذاك من المشاريع الكبرى، يتم إلغاء أو تحجيم فردانية المثقف، وتحويل إبداعه إلى مجرّد دعاية وترويج لمصلحة الحاكم أو صاحب القرار أو السياسي المتسلّط، بما فيها في المعارضات أحياناً، سواء بزعم مواجهة العدوّ الخارجي والخطر الأجنبي الداهم، وأخرى باسم المصلحة الوطنية العليا وأهداف الثورة، وثالثة باسم الدّين، أو باسم المذهب أو غير ذلك من التبريرات التي تعود إلى مرحلة ما قبل الدولة.
وإذا كان النضال ضدّ الإمبريالية وربيبتها الصهيونية، ومن أجل الاستقلال والانعتاق والتحرّر الوطني والوحدة الكيانية العربية والعدالة الاجتماعية، هي الأساس الذي اعتمده المثقف اليساري في مرحلة التحرّر الوطني في الأربعينات والخمسينات من القرن الفائت وما بعدهما، فإن هذا النضال اتّخذ أشكالاً جديدة، وإنْ كانت محدودة، لكن مرجعيتها الفكرية أخذت بالاتّساع والعمق، ويمكن أن تكون نواة أوّلية لما أسماه "أنطونيو غرامشي" بـ"الكتلة التاريخية" التي تحتاج إلى جهود جبّارة من المثقفين للوصول إليها في إطار أجواء حوار ومصالحة بعد مصارحة بين التيارات المختلفة.
- II -
أهي نهاية المثقّف العضوي؟
نعود إلى السؤال: أين المثقف اليساري، الماركسي والقومي العربي والليبرالي الوطني؟ وكيف يمكن توظيف إبداعه ليستعيد دوره؟ ومن حقنا، بعد الارتكاس والتقهقر الذي تعرّض له المثقف، أن نصوغ السؤال الملغوم: أهي نهاية للمثقف العضوي بحسب غرامشي؟ وهل بإمكان "تفاؤل الإرادة" تغيير "تشاؤم الواقع"، أم ثمة عوامل ينبغي استكمالها لتحقيق ذلك؟ وهل صعود مثقف العولمة والمثقف النيوليبرالي هي نهاية للمثقف اليساري؟ أم ثمة دور يمكن أن يضطّلع به المثقف اليساري في إطار مشروع نهضوي عربي جديد، يقوم على مرتكزات أساسية هي الاستقلال السياسي والاقتصادي والتنمية المستقلة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والوحدة العربية والتجدد والانبعاث الحضاري، ومرّة أخرى أين رمزية مثقف الأربعينات والخمسينات وكارزميته من رمزية مثقف اليوم؟
لقد أسهمت الحقبة البترودولارية في إضعاف المثقف اليساري ومحاصرته، وأدّت تدريجياً إلى نكوص دوره أو انكفائه أو شعوره بالانكسار والخذلان في ظل توازن قوى ليس لمصلحته، وخصوصاً فشل المشروع الاشتراكي واليساري والتحرري عموماً، وانهيار النموذج "البلدان الاشتراكية" التي يمكن أن نطلق عليها "أنظمة الأصل"، وتقهقر بلدان التحرّر الوطني أي "أنظمة الفرع".
الأمر لا يعود إلى هشاشة أو ضعف مناعة بعض المثقفين اليساريين فقط، وإنما ينبغي التوقف عند الدور التدميري الخطر الذي لعبه مثقف العولمة في تدهور مكانة الثقافة والمثقف بشكل عام، وخصوصاً إزاء محاولة تزييف الوعي وتزيين الواقع ورسم صور وردية، عن النظام العالمي الجديد، والتبشير بقيمه تحت عناوين الدور الريادي لليبرالية الجديدة، وهو ما دعا إليه "فرانسيس فوكوياما" في نظريته "نهاية التاريخ" وصموئيل هنتنغتون في أطروحته "صدام الحضارات".
لقد حاول "إدوارد سعيد" أن يفحص بدقّة الدور المتغيّر للمثقف العربي، من خلال مقاومة إغراءات الجبروت والمال، وفي تعريفه للمثقف يقول: "هو شخص يواجه القوة بخطاب الحق"، ويصرّ على أن وظيفته هي أن يُخبر مريديه ونفسه بالحقيقة، وقد جمع بذلك عمق معرفته، وصرامة أدواته البحثية، وأخلاقية ما يقوم به من أفعال سياسية.
وفي ظل الصراع الآيديولوجي العالمي، استُخدمت وسائل متعدّدة من الدعاية البيضاء والسوداء للتأثير على المثقف وجرّه إلى حلبة الصراع، وخصوصاً أن وتيرته الدعائية كانت تسير بكثافة وسرعة لامتناهية. وتعرّض الكثير من المثقفين، في فترة الحرب الباردة، في كلا المعسكرَين المتصارعَين، إلى التنكيل والتهميش إن لم ينصاعوا إلى الإرادات السياسية، وكان بعضهم بين مطرقة الغرب وسندان الشرق.
وهكذا كان المثقف عموماً، واليساري خصوصاً، عرضةً للتجاذب بين الاعتراض والمقاومة والممانعة وبين الخضوع والاستسلام والمُسايرة. وحين انهارت الكتلة الاشتراكية، تبدَّل كثير من خرائط بعض المثقفين اليساريين، فوجدوا في العولمة والخصخصة وازدراء الاشتراكية واعتبار الليبرالية "الجديدة" مفتاح الحلول في العالم المعقّد!
كيف تمكّنت القوى العولمية، باسم الحداثة وما بعد الحداثة، من إقناع المثقف اليساري الذي كان يعتبر الإمبريالية والصهيونية العدوّ رقم واحد للشعوب، بأنها "مُحرّر الشعوب" وفاعل الخير المخلّص والمُنقذ من أنياب الدكتاتوريات والأنظمة المستبدّة، لبناء مجتمع الخير والرفاه والوفرة والحرّيات والمساواة، أي مجتمع الحليب والعسل والرفاه، كما هو "العالم الحرّ"؟!
وأخيراً، ما هو السبيل لاستعادة دور المثقف، باعتباره فاعلاً ومؤثراً، وليس تابعاً أو مُلحقاً أو مُستزلماً وخانِعاً؟ وما هي الوسائل الجديدة لمجابهة ثقافة العولمة، وخصوصاً في ظلّ واحدية إطلاقية تكاد تكون شاملة في الميادين المختلفة؟ هل الاكتفاء بالشعارات والصّيغ القديمة، كفيل بمواجهة العولمة بوجهها المتوحّش، أم لا بدّ من وسائل جديدة تستند بالدرجة الأساسية إلى العِلم واستثماراته، وخصوصاً في جيل الشباب، لتنمية العقول والمدارك، واستيعاب مُنجزات الثورة العلمية – التقنية بما فيها من تكنولوجيا الإعلام والمواصلات والاتصالات والطفرة الرقمية "الديجيتل"؟.
والأمر يتعلّق بضرورة مراجعة المثقف اليساري لتجربته، ونقدها، والتخلّص من الجمود التي صاحبها، وخصوصاً التجارب الشمولية التي قادت إلى الإقصاء والتهميش والانتقاص من قيمة الحرّية والفرد والفردانية، على حساب الشعارات الكبرى ذات الرنين العالي، كالمساواة، وإن كانت ذات طابع شكلي، والعدالة التي كانت ناقصة ومبتورة في ظلّ شحّ الحرّيات، علماً بأن واقع الأمر كان يسير في اتجاه آخر.
ويحتاج الأمر كذلك إلى وضع قضية الحرّيات في موقعها الصحيح، ولا سيّما حرّية التعبير وحرّية الاعتقاد والحق في تشكيل الأحزاب والجمعيات السياسية، والحق في الشراكة في الوطن الواحد والمُشاركة بتولّي المناصب العليا في الدولة والمجتمع من دون تمييز لأي سبب كان، سواء إثنياً أو دينياً أو طائفياً أو بسبب الجنس أو اللغة أو الأصل الاجتماعي. فالتحوّل الديمقراطي المنشود لن يتمّ من دون تأمين مستلزمات احترام سيادة القانون واستقلال القضاء وتداول السلطة سِلمياً، وتلك من واجبات المثقف بشكل عام، والمثقف اليساري بشكل خاص.
ولا بدّ للمثقف أن يعمل على إعادة تفعيل دور الجامعات، وإعادة النظر بالمناهج التربوية ومؤسسات البحث العلمي، وتجسير الفجوة بين المثقف وصاحب القرار، أي أن يمارس دوره كقوّة اقتراح وليس كقوّة احتجاج فحسب، فضلاً عن مطالباته بتحسين الخدمات الصحية والتربوية والبلدية، وجعلها في خدمة الجميع، وكذلك تحسين أوضاع الناس وتقليص الفجوة بين المتخومين والمحرومين، وبين مَن يملكون ومن لا يملكون، ولن يتم ذلك سوى بنضال سلمي مدني طويل الأمد، يلعب فيه مثقف اليسار، الماركسي والقومي، دوراً مهماً في المُمانعة وفي مواجهة تغوّل القوى الدولية والمحلية وهضمها للحقوق والحرّيات الديمقراطية، ومحاولاتها فرض الاستتباع عليه بالوعد أو الوعيد، بالترغيب أو بالترهيب، خصوصاً بتجديد منهجه وأساليب عمله، مستفيداً من الإعلام ومستخدماً إياه، إلى جانب الدور الذي يمكن أن يقوم به المجتمع المدني على هذا الصعيد.
- III -
بين أُمميَّـتَيْن
إن المثقف اليساري في المرحلة الجديدة، هو أقرب إلى المثقف الكوني، فالحدود أمامه مفتوحة، والجسور موصولة، وجميع وسائل الاتصال والتكنولوجيا يمكنه استخدامها للتواصل مع مثقفي العالم من موقع التضامن والتساند والأهداف المُشتركة والطرق المختلفة لتحقيق تلك الأهداف لكل منهما، بحسب ظروف كل بلد وخصائصه وتطوّره ودور اليسار فيه، وتلك النظرة الأممية الجديدة مختلفة عن الأممية الشيوعية أو الاشتراكية السابقة، التي قامت على وجود مركز مقرّر وفروع تابعة له.
هل نحن أمام أمميّة جديدة؟ وما الفرق بينها وبني الأمميّة القديمة؟ ثمّة أممية جديدة في طور الإنشاء أو في مخاض للتأسيس، وخصوصاً في جانبنا الفكري والثقافي، وصولاً إلى أممية ثقافية كونية طوعية واختيارية، قائمة على أساس التفاهم والتضامن والمساواة، ومن دون قسر أو إكراه أو إملاء للإرادة، فالمثقف اليساري اليوم، لا يستطيع تحقيق أهدافه العامة والخاصة، من دون انخراط في حركة واسعة ومرنة لليسار العالمي، وخصوصاً لمواجهة التغوّل الإمبريالي العولمي وذيوله المحلية.
وإذا كانت هذه نظرتنا إلى مثقف اليسار، وما تبقى منه، وصولاً إلى المثقف الكوني، كأحد عناصر المُجابهة لتحقيق التنمية والرفاه والتقدّم، فهي رؤية عدد من المثقفين اليساريين الآخرين، بلورها "إدوارد سعيد"، الذي شكّل الصورة الحضارية للمثقف الفلسطيني في أفضل رموزه، باعتباره مثقفاً كونياً مُنحازاً للإنسانية، يعيش عصره على نحو جدلي، ويحلّل الظّواهر بعقل معرفي ومنهجية فكرية أساسها النقد، وهو معني بكشف هذه الظواهر وتحليلها وتفكيكها واستنطاقها، مثلما فعل "هابرماز"، و"دريدا"، و"تودروف"، و"آلن تورين" وغيرهم، وتتجلّى مرجعيّـته الأساسية الموجِّهة لعمله في الممارسة النقدية التي تتعرّض لفكّ التداخل بين الظواهر التي يدرسها.
في كتابه "الاستشراق" لم يتّهم إدوارد سعيد مثقف السلطة فحسب، بل السلطة ذاتها التي تقولب "المثقفين"، ولكنه دافع عن المثقف وعن الاختلاف والمُغايرة، وذلك ما بحثه تفصيلياً في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، مُعتبراً الثقافات والحضارات تتلاقح وتعيش بعضها على بعض، وبخصوص الهويّة، فقد عبّر سعيد عن ازدواجيتها، فمن جهة هي هويّة مختلفة، ومن جهة أخرى هي هويّة مؤتلِفة.
إن كتاب "خارج المكان" هو محاولة لإحياء الذاكرة، أي إبقائها حيّة، والبحث في التفاصيل الصغيرة، التي تشكّل عوالمها مهمّة أساسية يستعيدها المنفيّون واللاّجئون. وهو بهذا المعنى بحث في الهويّة، على الرغم من العواصف، والتنقّلات والهجرات والثقافات. فالهويّة ظلّت تشكّل الهاجس الذي يطلّ برأسه ويلوح بصورة عفوية، من دون استحضار مسبق. وقد سبق لـ"أمين معلوف"، الروائي اللبناني العالمي الذي مُنح أعلى وسام فرنسي، أن تحدّث عن موضوع الهوّية في كتابه "الهوّيات القاتلة"؛ وقد مثّل هو شخصياً هذا البُعد المُتحرّك في الهويّة، بحمله الثقافتين العربية والفرنسية، وقدرته في أن يكون جسراً للتواصل، من دون أن يعني ذلك تجاوز المعاناة الإنسانية الفائقة، ولا سيّما في التعبير عن تلك الهويّات المزدوجة، بل المتعدّدة والمتنوّعة.
أما "أدونيس"، ففي كتابه "موسيقى الحوت الأزرق" يُناقش فكرة الهويّة، ويستهلّ حديثه بالعبارة القرآنية التي تضيء، بقِدَمِها نفسه، حداثتنا نفسَها على حدّ تعبيره، وأعني بها التعارف، أي الحركة بين الانفصال والاتصال في آن، من خلال "رؤية الذّات، خارج الأهواء"، ومنها بخاصة الآيديولوجية، ويمكن أن نضيف إليها الدينية والقومية وغيرها، بمعايشة الآخر داخل حركته العقلية ذاتها، في لغته وإبداعاته وحياته اليومية.
وتستند هذه الرؤية إلى إحلال الفكر النقدي التساؤلي، محلّ الفكر التبشيري - الدّعائي، حيث يصبح الوصول إلى الحقيقة، التي هي على طول الخط تاريخية ونسبية، وصولاً يُشارك فيها الجميع، على الرّغم من تبايناتهم إلى درجة التناقض أحياناً، وهذا يعمّق الخروج إلى فضاء الإنسان بوصفه أولاً، إنساناً، ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر. ثانياً وثالثاً يكشف لنا أن الهوّية ليست معطى جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها مُتحرّكة ومُتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله دائماً في إطار مُنفتح بقبول التفاعل مع الآخر. وإذا كانت ثمّة تحوّلات تجري على الهويّة على صعيد المكان - الوطن، فالأمر سيكون أكثر عرضة للتغيير بفعل المنفى وعامل الزمن وتأثير الغربة والاغتراب.
وكان إدوارد سعيد قد قال بعدم وجود هويّة صافية، وإنما الهويّات جميعها مُركّبة من عناصر مختلفة وتراثات متنوّعة، وعليه فالهويّة كما يقول أدونيس: ليست بركة مُغلقة، وإنما هي أرخبيل مفتوح، أي أنها، بحسب سعيد، ليست ثابتة أو جامدة أو نهائية. إنها حيوية وديناميكية تغتني باستمرار مع عناصر ثقافية متجدّدة، وهذه هي شخصية سعيد ذاته، فهو فلسطيني أمريكي الجنسية، يرى ذاته في الآخر، ويرى الآخر في ذاته، من دون أي وقوع في التبسيط أو السذاجة.
ولذلك يقول سعيد في كتابه "خارج المكان" إنه "عربي أدّت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وأن تلك الثقافة، إذْ تلقي ظلال الشكّ على الفكرة القائلة بالهويّة الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات".
وفي آخر حوار معه أجرته صحيفة "الرأي العام" الكويتية في 27 سبتمبر/أيلول العام 2003 قال: "هناك تهديد للمشروع الحضاري العربي، وللأسف يُسهم العرب في هذا التهديد. ثمّة نوع من الانتحارية العربية تنعكس في السياسة العربية، وهي لا تؤدي إلى مستقبل إيجابي، وهناك تغييب في المفاهيم العربية، وأنا شخصياً أعاني من ذلك في الغرب"، وقصد سعيد من ذلك الدعوة للحوار والتسلّح بالحضارة والعِلم والتعليم.
من هو المثقف الكوني؟
ونعرض هنا وجهتَي نظر متميّزتَين لمثقفَين يساريين، الأولى لمثقف يساري اشتراكي حاول تقديم قراءة جديدة ونقدية بجرأة وشجاعة للتراث العربي – الإسلامي، من خلال مفهوم  مُستحدث للمثقف الكوني، ونعني به الباحث العراقي "هادي العلوي"، والثانية لمثقف يساري واشتراكي أيضاً، قرأ التطوّرات الجديدة بعد انهيار الكتلة الاشتراكية من زاوية نقدية، وعمل على المشاركة في تقديم تصوّر حقوقي لمواجهة تداعيات مثقف التحرّر الوطني وتصدّعاته، وذلك بطرح مفهوم المثقف الكوني، ونقصد بذلك الباحث المصري المجدّد "محمد السيد سعيد".
- IV -
المثقف الكوني، بحسب هادي العلوي، هو "المتصوّف أو التاوي"، الذي يتميّز "بالتجرّد الكامل واللاّتشخّص واللاّحدود واللاّتناهي". ويقيم على الوحدة المطلقة "بإلغاء المسافة بين الخلق والخالق والتوحّد معهما". ويضيف العلوي صفات أخرى إلى "المثقف الكوني" الذي يُفترض فيه "عمق الوعي" المعرفي والاجتماعي معاً، و"عمق الروحانية" (السلوك الروحاني وليس الفكر الروحاني "الغيبي")، وهذه الصفات هي: القوّة أمام مطالِب الجسد والترفّع عن الخساسات الثلاث السلطة والمال والجنس.
إنّ نموذج المثقف الكوني هو أقرب إلى التماهي مع أهل الحق في الإسلام "فقهاء القرن الأول والمتكلّمون والأحبار المستقلّون المعدودون في الطّور قبل الصوفي، ثم المتصوّفة أقطابهم من دون صغارهم..." ويمثّل "التاوي" و"المسيح"، كما ورد في كتابه "المرئي واللاّمرئي في الأدب والسياسة": التماهي مع روح الخالق، بعيداً عن السلطة والتعفّف عن المال، مردّداً قول السيّد المسيح حين دعا إلى إخراج الأغنياء من ملكوت الله. ويمنح العلوي مثقفه الكوني: هوّية مُعارضة، أي لقاحية، كما يسمّيها، لمواجهة التشخّص والمحدودية والتناهي. وبذلك يفسح في المجال أمامه لاختيار الطريق للوصول إلى الله/ الحق، والانحياز ضدّ مركزية الدولة والدّين المُمأسَس والأغنياء.
من "تكوينات المثقف" الكوني لدى العلوي: "التعالي على اللذائذ"، بحيث يأخذ من الحياة ما يفرضه دوامها، فيأكل عند الحاجة، وينام عندما يغلبه النوم، "ولا يملك شيئاً لئلاّ يملكه شيء، وهو كبير وقوي وحاكم" (المقصود حرّ وغير خاضع لسلطة)، وليس صغيراً أو ضعيفاً أو محكوماً. ويوجّه العلوي نقداً للمثقفين المعاصرين العرب، ولا يستثني أحداً، وذلك وفقاً لقياساته المسطرية حين يقول: "المثقفون مأخوذون بالخساسات الثلاث ويجعلونها من صميم العمل الثقافي". ويمضي إلى القول "لقد سبقني إلى مُعاداة المثقف شيخنا فلاديمير لينين، حين اتّهمهم بالرخاوة والروح البرجوازية".
لقد أطلق عليهم العلوي اسم "شيوعية الأفندية" (الأفندي السيد الكبير باللغة التركية) وقَصد بذلك نمطاً من الشيوعية يقوم على الآيديولوجيا الصّرفة المُجرّدة من اليوتوبيا المقطوعة عن ساحة الصراع الطبقي. ويعتبر هؤلاء "مثقفين وشيوعيين يحاربون الشيوعية"، وهو ما سمّيناه في كتابنا "الصراع الآيديولوجي في العلاقات الدولية" الماركسلوجيا مثلما هناك "إسلاميون يحاربون الإسلام".
ويعتبر هادي العلوي أن المثقف الصوفي ومَن حكمه متروحِنْ بعلاقة مزدوجة مع الروح الكونية، التي يسميها الباري أو الحق أو التاو، مع الخَلق في آن واحد.
وبتلك "الرَوْحنة" يكتسب المثقف، بحسب العلوي، الطاقة الاستثنائية التي تضعه في مواجهة السلطات الثلاث: سلطة الدولة وسلطة الدين وسلطة المال. وفي هذا الطّور الأعلى من الاستقطاب، يتخلى المثقف الكوني عن "اللذائذية"، باختلافه عن عـالم الدين وربما عالم الطبيعة. إنه بذلك يعّبر عن نكران ذاته وتخلّيه عن حقوقه لمصلحة الإنسان (الآخر)، وهو يردّد قول عبد القادر الجيلي "أفضل الأعمال إطعام الجياع"، حين يتمنّى أن يملك الدنيا ليوزّعها على الفقراء، فتلك كانت رؤيـة العلوي الحقيقية إزاء الفقراء، فقد كان لا يريد بقاء الامتيازات محاصصة – بين "أهل الدولة" و"أهل الدين"، بل تساوياً مع العامة.
ووضع العلوي أعداء المثقف الكوني في دوائر أربع سمّاهم "الأغيار الأربعة" وهم: الحاكم والمثقفون والرأسمالية والاستعمار، معبّراً في بياناته المشاعية وعلاقاته الروحانية عن تحدّيهم، وخصوصاً أنه كان يعيش بفكره مع شيوخ الصوفية الذي يقول عنهم : "أنا أعيش بينهم وأكلّمهم، وأنا دائم الحديث مع النّفس في الخلوات... من لاوتسه إلى ابن عربي".
وإذا كان العلوي لا يعتبر "التملّك" غريزة لدى الإنسان، بل صفة مكتسبة، فإنه بحسب تقديري، رغبة منه في النزوع إلى الحق المطلق "المثالي" والوقوف ضدّ الاستغلال من زاوية إنسانية "مطلقة"، ولكنني أعتقد أن الرغبة في التملّك متأصّلة في الإنسان وفي النفس البشرية، فضلاً عن أنها حق شخصي للإنسان، ولذلك ورد ذكرها في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الصادر عام 1948 (المادة السابعة عشرة) التي نصّت على: "أن لكل شخص حق التملّك ولا يجوز تجريد أحد من ملكه تعسّفاً".
وعندي أن ذلك أقرب إلى طبيعة النفس البشرية على مرّ التاريخ، ولهذا السبب انشغل علماء الاجتماع والقانون والاقتصاد والسياسة في بلورة الآراء والتوجّهات بخصوص تنظيم الملكية، في بحث مستديم عن العدالة الاجتماعية، الهاجس الذي يبحث عنه بنو البشر على مرّ العهود. كما كرّست الدساتير والقوانين والأنظمة على مرّ العصور الكثير من حقولها لتنظيم الملكية وتحديد وظيفتها، سواءً الملكية الفردية أم الاجتماعية، بحيث تعود بالخير على المجتمع ككل، وكان هذا جوهر الصراع أيضاً بين المدارس الفكرية والفلسفية، المثالية والمادية.
أما "الجنس" الذي يعتبره العلوي غريزة يتساوى في طلبها المثقف الشرقي مع الحاكم الشرقي، فمن خصائص المثقف الكوني، بحسب العلوي، الابتعاد عنه، لأنه من الخساسات الثلاث، أو طلب القليل منه والاكتفاء بحدود الوظيفة، في حين أن الحاكم لا يرتضي بالكثير، بينما لا يطلب مثقفه الكوني سوى القليل.
وهنا أيضاً أجد اختلافاً مع الطبيعة البشرية، فالجنس حاجة إنسانية يتساوى في طلبها المثقف والحاكم، وإشباع هذه الحاجة يتساوى فيها الغني مع الفقير، والحاكم مع المحكوم، والمثقف مع غير المثقف. صحيح أن الظروف الاجتماعية ودرجة التطوّر والوعي والوفرة المالية، قد تحدّ أو تزيد من مدى إشباع هذه الغريزة أو الرغبة، لكن الأساس فيها يبقى هو الحاجة الإنسانية، بغض النظر عن عناصر الاختلاف الأخرى.
أخيراً، أقول إذا كانت نزعة التصوّف قد استوطنت العلوي واحتلّته احتلالاً، فإنه استحلاها واستطيَبها، وعاش معها ليؤنس، "الإله" في ذاته المغتربة عن العالم.
- V -
مثقف التحرّر الشامل
أما "محمّد سيّد سعيد"، فإنه يتناول بزوغ ظاهرة "المثقف الكوني" أو "الكوكبي" الذي من خصائصه الأداء الداخلي الناجح في مجالات النمو (التنمية) والتقدّم كافة، وكل إنجاز داخلي في ميادين "الصحة" و"التعليم" و"التكنولوجيا" و"الثقافة" و"الاقتصاد" يصبّ في هذا الاتجاه، وخصوصاً باختلاف المضمون الحقيقي لمشروع التحرّر الوطني، فلم يعد هذا المشروع ينهض على الصّدام مع الغرب (الاستعمار والإمبريالية سابقاً)، بل عملية تحرّر عملاقة من علاقة الضدّية الحاكمة (على نحو عكسي) بين تجربة وطنية ما من ناحية، والغرب من ناحية أخرى.
يقول سيد سعيد في مقالة بعنوان "نهاية مثقف التحرر الوطني" (جريدة الحياة 3/9/1994): "يستحيل أن تُستكمل عملية التحرّر هذه بالعودة إلى المنطق الطبيعي لأي اختيار، أي قياس عائد وتكلفة أي اختيار، ومدى اقترابه أو ابتعاده من قيَم سامية لعموم الإنسانية. ويدعو سيد سعيد إلى ولادة عربي جديد "مثقف التحرّر الشامل" الذي هو "مثقف كوني" بالضرورة، لأنه يُدرك أن عملية التحرّر هي فعل عالمي، وهو بالتالي "يتصوّر فاعليته في إطار تحالف عالمي، فضفاض نسبياً، من أجل السلام والمساواة والرفاه للعالم كله". ويعرّف محمد السيّد سعيد مثقف التحرّر الوطني، بأنه ذلك الكائن الذي تفتَّح وعيه الكوني على صدمة الاستعمار والهيمنة الغربية على عالَمه القومي.
بهذا المعنى، فإن مثقف التحرّر الوطني يقف ضدّ التجزئة، ويناضل لبناء دولة الوحدة وليس تحقيق "الاستقلال الوطني". إنّ مثقف التحرّر الوطني هو وليد "اتفاقية سايكس بيكو" العام 1916، وأضيف إليها منذ العام 1948 بُعد جديد جوهري، هو نشوء "الدولة العبرية" واغتصاب أرض فلسطين، فلم يعد نضاله يقتصر بحسب سيد سعيد على قيام دولة الوحدة وضدّ التجزئة، بل يناضل (بالضرورة) ضدّ المشروع الصهيوني الاغتصابي - التوسعي. وهو بالطّبع نضال ضدّ الغرب الداعم لقيام إسرائيل.
ويصل السيد سعيد إلى استنتاجات مثيرة، منها أن المثقف العربي سجن نفسه في الإطار التكنوقراطي البحت، الأمر الذي أدّى إلى تعقيم (من العُقم) طاقاته الفكرية والإبداعية وأفقده الخيال الجسور، بحيث انهمك في تحسين أداء ما هو قائم ولترقيع ما هو مهترئ ومختوم. (وهو يقصد بذلك مثقف السبعينات والثمانينات وما بعدها، علماً بأن مثقف الأربعينات والخمسينات ولغاية الستينات كان دوره مختلفاً وريادياً).
لقد أصبحت للغرب دعامتان أساسيتان في المنطقة: الأولى – "ضمان تدفّق النفط" بأرخص الأسعار والثانية – "ضمان أمن إسرائيل" ودعم مشاريعها التوسعية والعدوانية. وأصبح مثقف التحرّر الوطني نفسه، أسيراً لشعارات الصراع الآيديولوجي القديمة ولفترة الحرب الباردة، فأصبح دعم الاتحاد السوفييتي "ضرورة تأريخية"، بغضّ النظر عن التعقيد الجديد في تلك العلاقة، بما فيها نخبة مثقفي التحرّر الوطني والشعارات التي كانت ترفعها "القوى الاشتراكية" التي تُبشّر بأفول النظام الرأسمالي، بسذاجة عالية ودعائية تبسيطية "غير علمية"، بحسب تعبير السيد سعيد، وكانت تلك أحد مصادر أزمة المثقف العربي في فترة ترييع الاقتصاد وصعود عنصر النفط، وتجديد الرأسمالية خلاياها وتجاوز بعضها أزماتها. كما يذهب إلى ذلك المفكر المصري "محمود عبد الفضيل" في كتاب جماعي "المثقف العربي – همومه وعطاؤه" (من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية).
لقد أبدى مثقف التحرّر الوطني إعجاباً شديداً بالنموذج الاشتراكي، ودعا إلى تقليده، وخصوصاً بعد إسهام الاتحاد السوفييتي في القضاء على الفاشية، وغضّ الطرف عن النظام الشمولي، وعدم الإقرار بالتعددي، وإهدار الحقوق والحريات، ولذلك وقف مذهولاً عند الأزمة الطاحنة التي عاشها النموذج الاشتراكي في مطلع الثمانينات، حتى أطيح به في أواخرها، وانهار الاتحاد السوفييتي في العام 1991، لدرجة أن "إيمانيته" العمياء تلك أوقعته ضحية، وهو الأمر الذي دفع الخطاب التقليدي المُنتَج في نهاية الحرب العالمية الثانية في أزمة حقيقية، سواء على الصعيد النظري أم على الصعيد العملي، وازداد الأمر تعقيداً في ظلّ العولمة والثورة العلمية التقنية والاتصالات والمواصلات، لدرجة أن إشكالية "الأصالة والمعاصرة" تعقّدت في جدول أعمال المثقف العربي منذ ربع قرن من الزمان، دون حل مرضٍ.
ولم يكتمل مسار التطوّر الفكري والثقافي، وظلّ يعاني من عدم استقرار ويفتقد في الكثير من الأحيان إلى الحيوية والدينامية. ومع ذلك، وبحسب" محمود عبد الفضيل"، فقد كانت هناك مشاريع فكرية جادة سبحت ضدّ التيار، منها كما يذكر:
1.   ثلاثية محمد عابد الجابري (المغرب) حول بنية العقل العربي .
2.   ثلاثية جمال حمدان (مصر) حول عبقرية المكان وأبعاده الاستراتيجية .
3.   دراسة طارق البشري (مصر) حول إشكالية "الوافد" والموروث.
4.   دراسة حسين مروّة (لبنان) عن النزعات المادية في الإسلام .
5.   مشروع محمد سلمان حسن (العراق) في إعادة بناء الاقتصاد السياسي في ظل أطروحات أوسكار لانكه وكاليستكي.
6.   ثلاثية محمد حسنين هيكل (مصر) عن حروب 1956، 1967، 1973.
ويمكن إضافة مشروع "علي الوردي" (العراق) في دراسة المجتمع العراقي وطبيعة الشخصية العراقية، ومشروع "هادي العلوي" في دراسة التراث ومخالفة ما هو سائد في الكثير من الأحيان، وهناك حقول مهمّة في الأدب والرواية والشعر والفن والعمران، أسهمت في تقديم رؤية للمثقف العربي.
انحسار دور المثقف
لقد انحسر دور المثقف العضوي بحسب مفهوم غرامشي، وهو المثقف الذي يعبّر عن هموم الناس ووجدانهم وحلمهم، والحلاّل لمشاكلاتهم، وسواء أكان مثقفاً يسارياً أو مثقفاً للتحرّر الوطني، فإن المثقف الراهن، توقّف عن إنتاج المعرفة، بل أصبح جلّ همّه هو إعادة توزيعها ترجمةً أو تأليفاً.
وكان المثقف العضوي أو المثقف اليساري والعروبي يدافع عن قيَم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والمساواة وتحرير الشعوب والوحدة الكيانية العربية والتنمية المستقلة، فإذا به الآن يتحوّل إلى قطري، وفي بعض الأحيان محلّي، وخصوصاً في ظلّ مواصفات ما قبل الدولة الطائفية والإثنية والعشائرية والجهوية والمناطقية، ويؤيد التطبيع بحجة الواقعية السياسية، ولا يرى الخطر في الصهيونية والإمبريالية.
هكذا يحاول بعض المثقفين اليساريين تمييع الفروق وإضاعتها. وبحجة فشل القطاع العام وسياسة التخطيط السابقة، يستمرىء البعض الدعوة للخصخصة وبيع القطاع العام، وهكذا بدأت صورته تهتز عند الناس، وخصوصاً بدعوة البعض للتدخل الأجنبي أو التعاطي معه، كما حصل في احتلال العراق، حيث عمل بعض المثقفين مستشارين لقوات الاحتلال، وتعاقد بعضهم الآخر مع البنتاغون، وبرّر آخرون مثل هذه المواقف بحجة وجود نظام دكتاتوري قمعي.
وبقدر ما كان المثقف اليساري أحياناً يدافع عن الدكتاتوريات ويبرّر ممارساتها القمعية، بزعم مصلحة الاشتراكية أو الثورة، فإنه اندفع بعد الانكسارات والتراجعات إلى الدفاع عن التدخّل الخارجي وتبيض صفحة الإمبريالية باعتبارها قادرة على الإطاحة بالدكتاتوريات وتحقيق التغيير المنشود، وخصوصاً بانسداد الآفاق، وتحت حجة الواقعية السياسية والعولمة وغيرها.
وبعد كل ذلك فهل سيتمكّن المثقف اليساري استعادة الدور الريادي والطليعي الذي كان يمثله ويلتحم بالأحداث بقلبه وعقله ووسيلته الإبداعية، أم يبقى ملحقاً بالسياسي وتابعاً له ويبرّر خطابه ويزّين مشروعه ويؤدلج سياساته ويدافع عن انتهاكاته؟
خللان رئيسان ألمّا بدور المثقف اليساري أو مثقف التحرّر الوطني وسلوكه وإنتاجه الفكري، الخلل الأول: هو توجّهه نحو التكنوقراطية والزعم بالحيادية والانصراف عن الشأن السياسي أو الشأن العام، لذلك هَزُلَ منجزه وحيويته وقوته ولونه الخاص، وبعضه صار جزءًا من تزويق الخطاب السياسي الرسمي للحاكم أو للسياسي المتنفّذ، وأحياناً لامتدادات خارجية تحت باب "الدّمقرطة" و"اللّبرلة".
أما الخلل الثاني: فإن الدعاية والتحريض أصبحا جزءًا من الخطاب السائد على حساب المُنتج الفكري والثقافي العميق، واستُخدم ذلك في الصراع السياسي، سواءً للتيارات الدينية والسياسية من جانب المثقف الممالىء للسلطة، أو بما يتوافق مع الجهات المتنفّذة في المعارضة، وهكذا انحسر دور المثقف العضوي أو دور الطليعة الثقافية وخرج من دائرة التأثير والفعل، إلى التبرير والتسويغ، سواء عبر تطويعه بالقمع السياسي البوليسي أم بالقمع الآيديولوجي الفكري لتبنّي خطاب السلطة أو المعارضة السائد بحيث يكون بوقاً لهما.
الجدب وشحّ الإنتاج
لذلك، فإن الجدب وشحّ الإنتاج شمل الكثير من المثقفين، بحيث إننا لم نشهد نشوء مدارس فكرية جديدة، كتلك التي نشأت في الأربعينات والخمسينات مثلاً في الشعر الحديث والأدب والفن والمسرح والسينما والفن التشكيلي والنحت والموسيقى والغناء وغيرها، فضلاً عن الإنتاج الفكري.
وعاش الكثير من المثقفين عزلتهم الفردية أو عملوا في إطار دكاكين ثقافية، ومن ضمن جماعات صغيرة، في حين كان مثقفو السلطة يتبخترون، حتى دون منجز ثقافي، وهكذا كان حصاد الفكر خلال العقود الخمسة الماضية محدوداً، مثلما هو في الجانب الأكاديمي والجامعي، الأمر الذي أوقع الثقافة وإنتاجها في أزمة عميقة، وحلّ محل أصحاب الإبداع الحقيقي بعض المقاولين والسماسرة الفكريين الذي يملكون الصحف والمجلات ووكالات الأنباء والإذاعات والمحطات الفضائية ومراكز الأبحاث والدراسات، يساراً ويميناً، وبعضها أنشئ بدعم خارجي بهدف تقديم خدمات للجهات المموّلة. ولم تنحسر الفجوة بين صاحب القرار والمثقف، بل ازدادت هوّة وعمقاً، واضطرّت أعداد من المثقفين إلى الهجرة.
وإذا كان، بحسب المفكر والباحث المغربي "علي أومليل" من يتأسّف لعدم الاعتراف بدور المثقف العربي الريادي الذي يطمح إليه، فإن فكرة أخرى انتشرت في السبعينات عن الدور السلبي لسلطان المثقفين في الغرب. فقد راجت فكرة تضخّم سلطة المثقفين، وخصوصاً صنّاع الآيديولوجيات، لكن الأمر ليس موحّداً، فهناك أيضاً من يتحدّث في الغرب عن فقدان العرش الذي كان يتربّع عليه المثقفون منذ قرنَين من الزمان بصعود الحركة التنويرية. (كتابه "السلطة الثقافية والسلطة السياسية").
إذا كان لا بدّ من دور ريادي للمثقف اليساري، فلا بدّ أن يؤكد المثقف أنه يستحقه وجدير به، وخصوصاً بانحيازه لقيم الحرية والديمقراطية والتنمية واحترام حقوق الإنسان والسلام والخير والجمال.