المحرر موضوع: الفضاء الروائي في روايات برهان الخطيب  (زيارة 1662 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل أدب

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 308
    • مشاهدة الملف الشخصي


الفضاء الروائي في روايات برهان الخطيب


بغداد ـ العالم
نصف قرن وكاتبنا العراقي برهان الخطيب يواصل إبداعه، أخيرا تصدر مؤسسة شمس المصرية روايته (أخبار آخر العشاق). الخريف الماضي تناقش كلية الآداب ببغداد (الفضاء الروائي في روايات برهان الخطيب) دراسة ماجستير للباحثة مروج حسين، دراسة لها هيكل دقيق، التمهيد عن مفهوم الفضاء في الخطاب النقدي وتقسيماته: الفضاء النصي، الدلالي، الجغرافي، والفضاء كمنظور أو رؤية. تحت عنوان وظيفة الفضاء تتحدث الباحثة عن علاقته مع شكل الرواية، مع المضمون، عن تطور البناء الفني في روايات الخطيب، تقنياته السردية، موظفة في دراستها اثنتي عشرة رواية له، بدءا من (ضباب في الظهيرة) رواية عام 1968 عنها يكتب سعد البزاز، غسان كنفاني، حسن النجمي، إلى (اخبار اخر الهجرات) ثم (غراميات بائع متجول) من اعماله الحالية، مع تركيز على تشريح المكان، الزمان، علاقتهما بالشخصية. تقول الباحثة: لم يعد مصطلح الفضاء، اشكالية تحديده بمفهومه الواسع، مقتصرا على الزمكان الذي يركز عليه جيرار جينيت ومن يتبعه من الدارسين العرب. المكان له دور رئيس في حياة الانسان، منه ينطلق إليه نعود، أو ليست حياتنا ككل رحلة مكانية تبدأ برحم الأم تنتهي بالقبر، نقرأ ذلك عند نجيب محفوظ في صيغة (جئنا من ظلام نعود إلى ظلام) كاتبنا العراقي برهان الخطيب يختصر ينقل تلك الرحلة الوجودية شبه المحدودة للإنسان في روايته (الجسور الزجاجية) إلى صعيد الرمز الواقعي، من ظلام إلى ظلام نعم لكن من سجن حيث تبدأ الرواية إلى سجن آخر حيث ينتهي بطلها مزعل. في بدايتها (ولادة روحية) له وبعد رحلة ألم قصيرة بين المدن والتحديات والذوات يعود إلى الظلام مرغما محبطا مع حصيلة تجربة تلخص مسيرة وجود إنساني عريض يكسبها المرء خلال عمر طويل.
في روايته (ليلة بغدادية) يواصل الخطيب استلهام تجربة العراقيين في الشقاء يجدد رسم تلك الدورة الحياتية، من ظلام إلى ظلام، من عراك إلى عراك، تبدأ تنتهي بمطاردة سياسية لا تنتهي، ملخصا نمط العيش في منطقتنا نتيجة تغليب انفعالات على العقل، سهو على يقظة، محدودية تفكير على انفتاح.. ص 7 الأطروحة.
يؤثر المكان عند ب الخطيب على تركيب الاشخاص، ابن البادية غير ابن المدينة، ابناء المدن يختلفون باختلاف المدن، تغير المكان يؤثر على الشخصية، احسان مثلا في رواية الخطيب الجديدة (اخبار اخر العشاق) يتغير بعد انتقاله من العراق إلى المهجر، يمسح المهجر الفروق بين ابناء البلد الواحد حسب تعبير احسان: تتساوى القرعة مع أم شعر في الغربة.. تبهذلنا.. لا يتركوننا نعمر بلدنا يحركون غرور زعماء، أطماع أتباع، يثيرون الحروب نتشرد نقع في شِباك.
في التمهيد تستعرض الباحثة وجهات نظر نقاد معروفين في موضوعة الفضاء الروائي، ارتباطها بالمكان، من ياسين النصير، حميد لحميداني، ميشال بوتور، حسن بحراوي، عبد الصمد زايد، عبد الملك مرتاض، مراد عبد الرحمن، شاكر النابلسي، محمد شوابكة، محمد عزام، حسن نجمي، كريستال شولز، غيرهم، تؤيد تدحض تصل إلى استنتاج: مجموعة برهان الخطيب القصصية (الشارع الجديد) تشكل بمجموعها رواية، مؤلفها يفطن مبكرا إلى الفرق بين المكان والفضاء جيدا، في قصصها التسع عشرة (قدمها للوزارة عام 1979 "عشرون قصة" حذف الرقيب واحدة") ينوع المكان، مسرح الأحداث، عامدا متعمدا حسب تنوع جغرافية العراق، ينتقل عبر قصصه من حي المدينة في قصة (الشارع الجديد) إلى البادية في قصة (الهدف) إلى مواقع الفيضان في (الطوفان) إلى مواقع الجفاف في (أم الوز) إلى مكان تدريب العمال في (بأمر السيد المدير) إلى مواقع الغجر في (ولكن ليس كالريح) إلى القرية في (جزيرة الواق واق) إلى حمام المدينة في (سر اللعبة) إلى بيت لغز في (المأدبة) إلى البحر في (البحر) إلى مدينة ثلج متخيلة في (طائر الثلج) إلى مضيف العرب في (المضيف) يغطي جغرافية العراق برمتها خالقا من تنويع المكان فضاء فسيحا يسهل تحويله إلى روايته (أخبار آخر العشاق) هنا نرى العلاقة وثيقة متبادلة رغم التنوع بين الجزء (المكان) والكل (الفضاء) احدهما يؤثر في الآخر على خلق التنوع تناغمه لصالح الطرفين.. كأنه يقول تحت النص ان أي انفصال لأي جزء من تلك الفسيفساء الباذخة يدمر الصورة الكلية كما يضيّع الجزء ذاته صورته. تلك فكرة يضعها الخطيب في أساس عمله يكتشفها الباحث في يسر عند الانتهاء من قراءته، إنما يمكن لقارئ ذي خيال أبعد الحصول على امتدادات لها أبعد.   
الفصل الأول من الدراسة مكرس الى المكان الروائي، مبحثه الأول عن ثلاثة مواضيع: أهمية المكان في العمل الروائي، وظائف المكان، الوصف والمكان. تعرّف الباحثة المكان الروائي: هو العمود الفقري الذي يربط أجزاء العمل بعضها إلى بعض، أحيانا يكون الهدف، يجسد رؤى الكاتب. تحلل الباحثة آراء النقاد بهذا الشأن من سيزا قاسم، عبد الصمد زايد، سمر روحي الفيصل، صلاح صلاح، طاهر عبد مسلم، منال بنت عبد العزيز، محمد برادة.. تصل إلى القول أن برهان الخطيب يتمثل ذلك في رواياته، في رواية (شقة في شارع أبي نؤاس) بدءأ من العنوان حتى الانتهاء منها نجد المكان رمزا للعراق كله في فترة زمنية محددة عام 1963 لها تأثير كبير في تأريخ العراق، وجود الشقة ذاته في شارع اشتهر شارع حانات وملاه يبرز ما يمكن ان يخبر عنه المكان، في صور غير مباشرة، خلاله يوحي المؤلف قبل قراءة الرواية أنها تجسد حقبة استثنائية خارج نطاق تاريخ العراق المحافظ المعتاد. قراءة الرواية توضح بشكل ملفت جريمة اغتصاب، اعتقال، أحداث تنتهي بانقلاب أواخر عام 1963 مؤثرا مباشرة على شخصيات الرواية ومصائرهم، بل ان تنوع تلك الشخصيات من كردية وعربية، طلبة لهم انتماءات سياسية مختلفة، يعيشون في مكان واحد، شقة واحدة، عن اختيار بعد تمحيص من المؤلف، يجعلهم ممثلين للشعب العراقي برمته، هكذا يحصل المكان أقصى قدرة على استيعاب وظيفته الفنية في دعم السرد، إيصال الافكار إلى القارئ، من غير أن يبقى المكان منعزلا عن باقي عناصر السرد. على ذلك النهج يواصل الكاتب الخطيب باقي رواياته الأخرى، يختار لكل منها مسرح أحداث ذا دلالات متنوعة، يعبر عن أعمق وأوسع ما يريد توصيله من تجارب العراقيين. (بابل الفيحاء) مسرحها مدينة الحلة، يمكن عدها رواية الحدث العالمي، المعد محليا، إعداد حلف بغداد مع امتداده اليوم. أولا العنوان ذاته من شطرين، بابل أي التاريخ ضمنا المكان، يعقبه الحاضر أي الفيحاء، أي الزمن ضمنا المستقبل، تأكيدا على امتداد الحدث الروائي من حاضنته التاريخية إلى حاضنته في الاتجاه المقابل، ديمومة الخير. تستنتج الباحثة: المكان في هذه الرواية وغيرها من روايات الخطيب هيكل عظمي لبدن المجتمع العراقي، ذلك ربما لتطور تجربة الخطيب الروائية منطلقة من تجربة نجيب محفوظ وغيره ما يدل على ان العملية الابداعية في عموم الوطن العربي متصلة متصاعدة، بل تتصاعد حين تكون متصلة، متفاعلة ايجابيا. ثم تعرج الباحثة إلى رواية (ذلك الصيف في اسكندرية) للخطيب تبين اهمية احداثيات المكان الجغرافي، ضرورة تطابقها مع الواقع حين يجري السرد على تضاريس معينة، لا مجازية. عن قصة (سامية الاسكندرانية) تذكر: لقد قام شخص مبعوث من معهد الاستشراق الموسكوفي إلى الإسكندرية من قِبل مترجم القصة بوريس جوكوف بمطابقة اسماء المناطق والمحلات المذكورة في النص العربي وهي كثيرة مع اسمائها كما هي في الواقع، وجدها ذات مصداقية كاملة.
تنوع المكان في العمل الروائي يؤدي إلى تعدد وظائفه، إلى توسيع رقعة السرد، من وظيفة إيهامية، إلى تعبيرية، إلى تفسيرية، إلى رمزية.. المكان يُستحضر بواسطة الوصف غالبا، تراه الباحثة قد يقترب أحيانا إلى الوثائقية عند الخطيب دون الخروج عن السياق الفني، حتى أن قراء (بابل الفيحاء) و (الجسور الزجاجية) يتعرفون على مدينة الحلة من خلال الروايتين كأنهم يعيشون مع أهالي المدينة عمرا طويلا، ذلك كما جرى التعرف على الحي اللاتيني في باريس وغيره من خلال كتب سارتر، مونترلان، هيغو،  كما على اسبانيا من خلال همنغواي، كما على الصين من خلال اندريه مالرو، كذلك على الاسكندرية المصرية من خلال ما تقدمه عنها رواية الخطيب (ذلك الصيف..) أيضا على موسكو في روايته (حب في موسكو).. على المسيب وكربلاء اللتين يذكرهما في (نجوم الظهر) على الشام والسويد في (الجنائن المغلقة) غير ذلك مما يصل إلى حدود الرصد الطبوغرافي كما في روايته (غراميات بائع متجول) مع تحرك المكان وانتقالاته من خلال ترسباته في الشخصية الروائية، ذلك يتجلى في روايته (أخبار آخر الهجرات) حيث يحمل يوسف وزوجته تأثيرات المكان معهما إلى أرض الغربة، يبدأ صراع جديد، يصرخ يوسف فيها: اخرسي يا ساقطة.. ليس للسقطة حق الكلام! ترد زوجته: لا انت تقرر مَن الساقط مَن الشريف.. أنت لست رب العالمين.
ـ أنا رب هذا البيت في الأقل أقرر فيه ما السقوط ما الشرف.. فتنخرط زوجته في البكاء:
ـ اعترف يوسف لم تعد ربا لأي بيت ولا سيد نفسك ولا لي منذ لا تتمكن حماية بيتك القديم، منذ نترك الوطن!
 هكذا يتضح جبروت المكان، أهميته كجذر مغذ للإنسان، تفاعله سلبا ايجابا مع الشخصية الروائية، المؤلف يبقى على حياد المهندس إزاءه، تضيف الباحثة: ذلك غير جديد على الروائي الخطيب فهو مهندس في الأصل، تخضع كل رواياته إلى خطة، إلى بناء هندسي واضح الملامح، لا مساحة تخلو من فائدة لمجمل البنيان، ذلك جلي في روايته (ليلة بغدادية) يضغط كل أحداثها الجسام في ليلة واحدة، في بيتين متجاورين، في أشخاص لا يتجاوز عددهم خمسة أو أربعة، مقدما مرحلة كاملة من تاريخ العراق الحديث.