المحرر موضوع: عزيز السيد جاسم عراقي ترحّل في الفلسفة والآداب والتاريخ لينتهي إلى مصير مجهول  (زيارة 1201 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Janan Kawaja

  • اداري
  • عضو مميز متقدم
  • ***
  • مشاركة: 31468
    • مشاهدة الملف الشخصي
عزيز السيد جاسم عراقي ترحّل في الفلسفة والآداب والتاريخ لينتهي إلى مصير مجهول
المفكر عزيز السيد جاسم استطاع بوقت قياسي وضع ميسمه على الفكر العراقي التنويري بما شكل عن جدارة ظاهرة ثقافية قدرات الأفراد الاعتيادية.
العرب/ عنكاوا كوم يحيى العريضي [نُشر في 2017/03/11،]

مفكر عروبي أراد مزج فكر السلطة بفكر المعارضة فاحترق بنيرانهما
إسطنبول- كانت فكرة راودتنا، نحن الذين كنا على مقربة من السلطة ذات يوم، وراودت الكثير من اليساريين والقوميين العرب سواء في العراق أو سوريا أو مصر أو غيرها. المزج ما بين الفكر العروبي والفكر الماركسي، لكن لم يكن مقدّرا لتلك المحاولات أن تنجح، وربما لو أن واحدة من بينها نجحت لوفّرت الكثير من الصراعات والكثير من الوقت على العرب.

وكان من بين هؤلاء الذين سعوا إلى ذلك، المفكر العراقي عزيز السيد جاسم حين تعاون مع القيادي البعثي عبدالخالق السامرائي لإيجاد امتزاج محتمل ما بين الفكر الاشتراكي العلمي والفكر القومي. لكن شقيقه الأكاديمي العراقي محسن الموسوي يقول، في مقال له بمجلة الجديد اللندنية في عددها السادس والعشرين الصادر في مارس الجاري، إن الفكرة “ضاعت مع تلك المحاولة باعتقال عبدالخالق السامرائي في صيف 1973 ومن ثم تصفيته وهو في السجن مع مجموعة كبيرة متضامنة مع أفكاره سنة 1979 تمهيدا للدخول في حرب مع إيران وإعلان حتمية القائد الوحيد الأوحد في ضوء ما اتفق عليه القائد الأوحد مع مجموعة مثقفيه الجدد بقيادة طارق عزيز وعضوية عبدالجبار محسن وآخرين”. عواقب ذلك الفشل كانت كبيرة على السيد جاسم. فقد منعت كتبه ووضعت عليها إشارة حمراء. وحتى في المكتبة الوطنية العراقية، كان بعض كتبه قد صنف ضمن “محدود التداول” أي أنه ليس متاحا لكل الناس.

يقول عزيز السيد جاسم عن حياته “في قرية الغازية الوديعة ـ ناحية النصرـ فتحت عينيَّ على الدنيا وكانت صورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معلقة على الحائط. تلك هي الصورة التقليدية الشائعة بألوانها الساخنة وبالمهابة المميزة لوجهه الكريم تحيط برأسه هالة نور. وكانت صورة الإمام حاضرة في البيت مثل البيت والأب والأم والأخ والأخت. فلم يكن ممكنا أن يكون البيت دون صورة”. ويضيف “بعد أكثر من ثلاثين سنة، هي رحلة طويلة في الكدح والمعاناة الذهنية، أهديت لي صورة لعلي بن أبي طالب مصورة عن متحف اللوفر بباريس وهي صورة أقرب إلى حقيقة علي من سواها، وربما هي من رسم أحد الرهبان. ففي الصورة شموخ عجيب وقوة هائلة واستقرار تاريخي. كان عليٌّ راكبا حصانه حيث ظهر أعلى من حجعة السرج. ولكنه بدا متبوئا مقعدا تاريخيا شديد العلو”.

أواسط الخمسينات كان السيد جاسم في دار المعلمين. غير أنه انتسب إلى الحزب الشيوعي وأصبح عضوا سنة 1958 وهو في عمر الـ15، وبعدها سريعا قاد التنظيمين الطلابي أولا ثم الفلاحي في قضاءي الشطرة والرفاعي. ومن هناك تبلورت عنده أفكار التنظيم اليومي للفلاحين، ونشط في حركة الإصلاح الزراعي، وتمكن الإقطاع من تدبير مكيدة مع السلطة المرتبكة حينئذ وسجنه لشهر واحد سنة 1960. ثم جاءت قطيعته مع الحزب الشيوعي. وكانت جريدة “اتحاد الشعب” الناطقة بلسان الحزب قد بدأت تنشر مجموعة من الردود القصيرة معنونة (إلى الرفيق موريس)، ترد فيها على ما تعدّه توجها يمينيا يعيد التفكير الأممي إلى خانة ضيقة من الوطنية والقومية. وهكذا بدأ صراع السيد جاسم يتخذ شكلا فكريا منذ البداية، وسيبقى هكذا حتى آخر لحظة في حياته.

مقارنة معمقة بين ما يكتبه الشقيق الموسوي عن شقيقه عزيز السيد جاسم وبين ما يرويه الآخرون عنه، تكشف عن الشخصية الفكرية الممزقة ما بين السلطان والرأي الآخر. غير أن الطرفين كانا يريان عزيز السيد جاسم وهو يسعى في مهمة اعتبرها جليلة ووطنية، ألا وهي "تأسيس الجبهة الوطنية والسعي الحثيث لحل القضية الكردية وإحياء التيار الماركسي داخل حزب البعث"

ما بين بداوة وحضارة
“علي بن أبي طالب: سلطة الحق” عنوان كتاب السيد جاسم، لكن كانت إلى جوار هذا الكتاب كتب حملت العناوين “أبوبكر الصديق: سلطة الإيمان” و”عمر بن الخطاب: سلطة العدل” و”عثمان بن عفان: التقي”. كان السيد جاسم ينظر إلى التاريخ بوصفه مادة علمية لبحث جذور الحضارة، وليس ساحة لتصفية الحسابات الطائفية. وقد ظهر هذا في مجموعة مقالاته التي نشرت في كتاب عام 1970 بعنوان “دراسات نقدية في الأدب الحديث”.

مقالات جمعت من منابر عديدة، كان أحدها مجلة الأقلام. التي شهدت رغبة جيل من المثقفين العراقيين بقول شيء جديد. ويذكر الموسوي في مقاله الموسوعي عن شقيقه، إن أحد هؤلاء المثقفين العراقيين كان السيد جاسم في مقالته المنشورة سنة 1965 التي جادل فيها علي الوردي ونظريته المشهورة حول ازدواجية الشخصية العراقية. ويقول الموسوي “من المنطقي أن يعارض عزيز ثنائيات الوردي التي اعتمد فيها على ما كان شائعا لدى أنثروبولوجيي جامعة شيكاغو في الأربعينات من القرن الماضي. أما بالنسبة إلى عزيز، والذي لم يزل شابا عجنته التجربة وعركته المعتقلات ولجان التحقيق، فإن الثنائية البنائية لا تستقيم أمام المكونات المتعددة للشخصية لا سيما في مجتمع مبني على مجموعة تعددية هائلة تجعل اختزاله ما بين بداوة وحضارة أمرا مجحفا وإن بدا مستساغا ولذيذا لما فيه من لوم وتقريع تستقبله الجماعات المقموعة بتلذّذ بينما تجد فيه الفئات النافذة تعويذة الخلاص من المسؤولية الإدارية والسياسية والاقتصادية”.

مثقف السلطة
كانت الهوية العربية والإسلامية جوهرا لفكر السيد جاسم. فقد رأى بتأثير الفكر القومي، أبعد مما رآه الشيوعيون حينها. ولذلك كان مهمّا بالنسبة إلى القياديين البعثيين، فقد كان صاحب قدرة هائلة على التأصيل، وبوسعه أن يجذّر الحراك الراهن ويجعله متصلا بالماضي المجيد من زاوية فكرية.

لنقرأ ما كتبه السياسي العراقي نبيل ياسين عن انتقال السيد جاسم إلى بغداد أواخر الستينات من القرن الماضي “جاء عزيز السيد جاسم في بداية عام 1969 من الناصرية إلى بغداد ليلتحق بجريدة الثورة، جريدة حزب البعث الحاكم في العراق. كان أخوه مترجما في الجريدة. بعد سنة أو أقل أصبح السيد جاسم رئيس تحرير مجلة الغد التي تصدر عن جريدة الثورة وأصبح متنفذا ومنظرا لحزب البعث قبل أن يصبح رئيس تحرير مجلة وعي العمال الناطقة باسم اتحاد نقابات العمال، الذراع القمعية لحزب البعث ضد عمال العراق. كتب كتبا كثيرة أكثر مما تفرخه الأرانب. في العام الواحد كانت تصدر له أربعة أو خمسة كتب. شوه الماركسية وجعلها صدامية، إنجازها أقل بكثير من إنجاز الفكر الصدامي. شوه الفكر القومي وجعله أقل مما فكر به صدام وحزب البعث. يدخل إلى اتحاد الأدباء مصحوبا بحارس لم يتورع عن ضرب الشاعرين عبدالأمير الحصيري ورشدي العامل بناء على أوامر مباشرة وسريعة من عزيز السيد جاسم الذي لم يطق إزعاج الشاعرين لجلسته”.

تفكير عزيز السيد جاسم بالتغيير من داخل السلطة كان أمرا منطقيا
ويضيف ياسين “كان عزيز آنذاك في أوج صعوده السريع والمتفوق، يجتمع بصدام كل أسبوع وأحيانا يطلب منه صدام المجيء أكثر من مرة في الأسبوع ليكتب له وينظر له فيخرج في الأسبوع التالي كتابٌ جديد لعزيز السيد جاسم متضمّنا وجهات نظر صدام في الحزب الشيوعي وفي الجبهة الوطنية وفي المسألة الكردية وفي الدين وفي الماركسية وفي القومية وفي موقع حزب البعث وفي قدرة الفكر البعثي على حل مشاكل العصر المعقدة”.

بعقد مقارنة بين ما يكتبه الشقيق الموسوي عن شقيقه، وبين ما يرويه الآخرون عنه، نجد الشخصية الفكرية الممزقة ما بين السلطان والرأي الآخر. غير أن الطرفين كانا يريان السيد جاسم، وهو يسعى في مهمة اعتبرها جليلة ووطنية ألا وهي “تأسيس الجبهة الوطنية والسعي الحثيث لحل القضية الكردية وإحياء التيار الماركسي داخل حزب البعث”، كل ذلك بالتعاون مع السامرائي.

ضرورة الحكم الوطني
كيف لا يفكر السيد جاسم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والبناء على ما هو قائم، وخصومه أنفسهم فكروا على النحو التالي “كان اعتقاد المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي آنذاك بأن صدام هو ضمانة العراق”. كما يبرهن الموسوي، مضيفا أن الاتحاد السوفييتي، كان أيضا يرى الرأي ذاته. على الرغم من أن المخابرات الروسية في العراق على علم بما ترتكب من أخطاء، لكن المسار الوطني كما تسميه الأدبيات الشيوعية أيام قاسم وصدام هو المهم، وليس الاعتبارات الأخرى، فما دام الحكم “وطنيا” لا يجوز السعي لتغييره.

بقرابة الأربعين كتابا كان السيد جاسم يواجه هذا كله. ما بين الفكر السياسي والأدب والنقد والتاريخ. فكانت أعماله رؤية بانورامية للزمن من المكان الذي وضع نفسه فيه. “محمد الحقيقة العظمى” و”متصوفة بغداد” و”الاغتراب في حياة وشعر الشريف الرضي” و”ديالكتيك العلاقة المعقدة بين المادية والمثالية” والعشرات غيرها.

يصعب على مفكر مثل السيد جاسم، اطلع على كل تلك المعارف وخاض تجارب مباشرة في الحياة، وكان قريبا من السلطة وصاحب القرار، ألا يلتفت إلى صنف شديد الحساسية والتأثير في القارئ العربي؛ الرواية. كان بإمكانه أن يضخ من خلالها ما يشاء من الأفكار على لسان الشخصيات، ويسلط الضوء على ما يرغب من خلال الحدث والحبكات. لذلك كانت رواياته “المناضل” و”الزهر الشقي” وقبلهما مجموعته القصصية “الديك وقصص أخرى”، أما “المفتون” فقد صدرت بعد سجنه واختفائه بأكثر من عقد من الزمان في العام 2003 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت.

في “المفتون” نرى الطبيب هارون ومريضه يوسف اليعقوبي وحواراتهما، يوسف المريض النفسي وهارون المناضل السياسي السابق الذي انزوى في عيادته المتواضعة رافضا الظلم. وكتبت رويتزر عن “المفتون” إن الرواية ما كانت لترى النور لولا سقوط نظام صدام حسين، حمل مخطوطاتها إلى دار النشر محسن الموسوي، شقيق عزيز السيد جاسم، والذي كان قد انتظر طويلا رحيل صدام حسين ونظامه ليدفع بالرواية إلى النشر. بالرغم من أن الموسوي الذي كان رئيسا لتحرير مجلة “آفاق عربية” ومديرا عاما لدار الثقافة والنشر الحكومية في بغداد، قد ترك العراق بعد أحداث انتفاضة عام 1991 ليعمل أستاذا في جامعة صنعاء اليمنية. يعرض السيد جاسم في رواية “المفتون” قدرة سردية جذابة وبمخيلة تنسج بخيوط الواقع علاقة جدلية بين عالم النفس والعالم الخارجي. وعندما يكون العالم الخارجي عبارة عن واقع سياسي اجتماعي قاس تسيّره شريعة القوى الغاشمة التي تتحكم بمصائر الناس وأحلامهم يتحول عالم النفس إلى مصنع لحالات وأحوال بل وشخصيات تجمع بين الغريب والرهيب.

عزيز السيد جاسم يرى اللحظة امتدادا لتاريخ طويل من التراكم الحضاري، مخالفا نظرية الثنائيات التي طرحها علي الوردي. يقول عن طفولته "في قرية الغازية الوديعة (ناحية النصر) فتحت عيني على الدنيا وكانت صورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معلقة على الحائط. وكانت صورة الإمام حاضرة في البيت مثل البيت والأب والأم والأخ والأخت. فلم يكن ممكنا أن يكون البيت دون صورة"
وتضيف الوكالة “تثير الرواية تساؤلا ربما يكون تقليديا، هل يخلق مجتمع الظلم والقسوة شخصيات غير سوية أم أن الشخصيات غير السوية هي التي تخلق مجتمعات من هذا النوع؟ لكن سرعان ما يكتشف القارئ أن العلاقة الجدلية التي رسمها الكاتب تصور سيفا ذا حدين وإن كان هناك تشديد على أن النظام السياسي الظالم هو أكثر قدرة على خلق العديد من حالات الخلل النفسي”.

سمكة كبيرة
الأكاديمي العراقي عبدالإله الصانع، استعمل التعبير الأكثر رهافة في وصف عزيز السيد جاسم، حين قال عنه إنه السمكة الكبيرة التي اختفت في حوض صغير. وكتب متسائلا “هو سمكة كبيرة جدا. سمكة غريبة الشكل والأطوار لم يستوعبها حوضنا الصغير. كنا نعلم أن كمية الأوكسجين ستنفد وجذوة روحه على المطاولة ستبرد. وكان الذي كان من حيث لا ينبغي أن يكون. رجل من قرية قصية في جنوبنا القصي. كيف استطاع بوقت قياسي وضع ميسمه على الفكر العراقي التنويري بما شكل عن جدارة ظاهرة ثقافية لا عهد لنا بمثلها ومؤسسة موسوعية لم تألفها قدرات الأفراد الاعتيادية. نبغ عزيز سيد جاسم مطلع ستينات القرن العشرين. فشغل الشارع الثقافي العراقي بكفاءة كما شغل الشارع العربي بمقدرة، فحققت أطروحاته شهرة عز نظيرها”.