المحرر موضوع: الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان  (زيارة 1225 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
         الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان

 مُسَلسَلٌ بحلقات مُستلة مِن كتابي ( الكلدان والآشوريون عِبر القرون ) المُرتَقَب صُدورُه مطلع العام القادم بعون الله

                                               الحلقة الثانية

آثوريو اليوم ( دُعاة الآشورية ) هم مِن اصول كلدانية

كان النظامُ المُعتَمَدُ مِن قبل الممالك الكلدانية في إدارة شؤونِها ، نظاماً قَبَلياً يتزَعَّمُه رئيسُ العشيرة الأكبَر في القبيلة يُطلق عليه لقبُ الملك ، تسري سُلطتُه على كامل المُدُن والقرى الموالية  لتلكَ القبيلة ،  ولا زال هذا التقليدُ  مُتوارَثاً  ومعمولاً به في  زمنِنا المُعاصر في مناطق سُكنى  أبناء شعبنا الآثوري الكلداني  في منطقتَي هِكاري واورمية  وكان  قائماً الى  ما قبلَ تَعَرُّضِهم للمذابح  التي أفرزَتها عوامل الحرب العالمية الاولى  ولا زال قائماً ، فكانت هنالك قبائلُ عديدة هي : تياري العُليا وتياري السُفلى ، جيلو ، باز ، ديزا ، تخوما : ولكُلٍّ من هذه القبائل رئيس يُلقَّبُ ملكاً ، ويؤكِّدُ هذا التقليد بشكل لا يقبل الشك والتأويل ،  بل هو دليل  ساطع على كَون آثوريي اليوم هم أحفادُ الكلدان الذين قَطنوا المناطق الجبلية في أزمانٍ متفاوتة والذين كانوا جزءاً مِن أبناء كنيسة المشرق ، أصَرّوا على البقاء في المذهب النسطوري عِناداً ونكايةً  بمُعظمِ  إخوانهم الذين  نَبذوه  واستعادوا  مذهبَ  آبائهم  وأجدادِهم ( المذهب الكاثوليكي )  مذهب  الكنيسة  الجامعة المُقدَّسة  في مُنتصف القرن السادس عشر للميلاد ، وهذا كان الانشقاق الأعظم والأمَر الذي قَصمَ ظَهرَ أبناء كنيسة المشرق ومَزَّقَ جَسَدَها الواحد ،  وفي نهايات القرن التاسع عشر وبالتحديد في عام 1886 م ،  أُغريَ أبناء  اولئك الباقين على النسطرة  مِن قبل مُرسَلي الكنيسة الأنكليكانية ( الانكليزية ) الذين جَنَّدتهم مُخابراتُ المملكة الانكليزية لخدمةِ أهداف المملكة السياسية ،  بايجاد موطيء قدمٍ لها في الأراضي الواقعة تحت نفوذ الدولة العثمانية الذي كانت مظاهِر الضعف والانحلال قد بانت عليه ،  فأطلقوا عليهم التسمية الآثورية  وليس ( الآشورية ) مُرفقةً بوعدٍ كاذبٍ  هو إقامة  وطن  قومي لهم  تحت غطاء هذه التسمية ( الآثورية )  الى جانب وعود اخرى مُغرية ، وإزاء سِحر هذه المُغريات السرابية ،  تَنَكّروا لإنتمائهم القومي الكلداني ،  ووافقوا على عَرض البعثة  الأنكليكانية دون تقدير للأبعاد الخَفية مِن  ورائه ، وعلى اثر ذلك شمَّرَ  كبيرُ البعثة  وليم ويكرام عن ساعد الجِد  في نشر التسمية الآثورية وتأطيرها بشكل مُثير وجذّاب وإدخالها في القالب الديني ،  مُشيراً الى الظُلم  والاضطهاد الذي  يتعَرَّضُ  له هؤلاء المسيحيون النساطرة على أيدي العثمانيين والمُوالين  لهم مِن الأقوام المُسلمة المُجاورة لمناطق إقامتِهم ، ثُمَّ بدأوا بتحريضهم للتَمَرُّد على الدولة العثمانية عن طريق القيام بأعمال تَحَرُّشية   لا تجلبُ لهم إلاّ المزيد مِن المآسي وللإنكليز تحقيق مآربِهم الاستعمارية المُتمَثِّلة  في رَغبتِهم بالسيطرة على مناطق استرتيجية  داخل حدود الدولة العثمانية  على غِرار ما  قد  حَصِلت عليه  روسيا القيصرية ، فكانت تلك الخطوة سبباً لانتقام الدولة العثمانية التي قامت بإبادة ما قارب نصف مجموع  نفوس هؤلاء المساكين .

وليس هذا التقليد هو الدليل الوحيد الذي يُشيرُ الى خطأ تنسيب الآثوريين الكلدان المعاصرين الى الآشوريين القدماء ، كما  يُرَوِّجُ له  عُتاة  مُنتحلي التسمية الآشورية مُستندين الى فرضية لا أساس لها  مِن الصحة ،  لأنها تستندُ الى عاملين واهيَين  أولُهما اعتبار الذين تَمَسّكوا بالنسطرة ولبثوا عليها بعد الحرب العالمية الاولى هم  آشوريو الإنتماء ،  وهذا الأمر يدحضُه الواقع لأن المسيحيين في العراق والأقطار المجاورة ولا سيما الكلدان منهم كانوا نساطرة ، والعامل الثاني  الإعتقاد  لدى البعض  بأن كُلَّ الذين تركوا منطقة هيكاري لسبب أو لآخر قبل بداية القرن العشرين المنصرم أو بعده ،  وانتقلوا الى القرى الكلدانية المتنوعة الأماكن أو الى المدن العراقية الكبيرة هم آشوريو الأصل ،  وهذا تَصَوُّر خاطيء أيضاً ،  لأن الأمر لم يكن  إلاّ  عَودتهم  الى مواطن  آبائهم  واجدادهم الكلدان الذين فَرّوا تحت وطأة الاضطهادات القاسية في الأزمنة المختلفة عِبرَ الزمن الغابر ووجدوا ملاذاً في تلك المنطة ومناطق اخرى شبيهة . وهنالك  عامل  آخر  هو الموقع  الجغرافي المُتشَبَّث به  مِن قبل هؤلاء المُغالطين ،  والذي يشغله  الشعبُ  الكلداني  في بلداتِه  وقراه  الحالية  في منطقتي  السهل  والجبل ،  بأنه كان  ضمن الاقليم الآشوري  يوماً ،  ولذلك  فإن  سُكّانه  الحاليين  هم  آشوريون  ،  وهذا  مُنتهى  الغباء والجهل ،  لأن الاقليم الآشوري ،  وبعد  القضاء على  سكانه  الآشوريين  وإزالة  دولته  مِن الوجود  مِن  قبل الكلدان  وحلفائهم  الميديين ما بين  عامي 912 - 906 ق . م ،  لم يبقَ هنالك  مِن الآشوريين  ولا حتى  نَفاخ  نار  واحدٍ  في الاقليم  بكامله ،  وإذا  استطاعت  فلولٌ  ضئيلة  الإفلاتَ  مِِن  أفواه السيوف  والنيران  والنفاذَ   بجلدها  والإلتجاءَ  الى  بُلدان الأقوام  المجاورة ،  فقد  ذابت  وانصهرت كلياً في مُجتمعات تلك الأقوام ، ولذلك  قام بشغل مناطق الاقليم   أبناء الكلدان  المُنتصرين  لأنه أصبح  جزءاً  مِن المساحة الجغرافية للإمبراطورية  الكلدانية .

هنالك العديدُ مِن الأدِلة التاريخية  لحقبتي ما قبل الميلاد  وما بعده ، تؤَكِّد بأن آثوريي اليوم ( أدعياء الآشورية ) يعودون باصولهم العِرقية  الى الكلدان ، ولا صِلةَ لهم مِن أيِّ نوع كان  بالآشوريين القدماء ما عدا انتحالهم لتسميتهم زوراً في العقود القليلة المتأخرة مِن القرن الميلادي العشرين ،  ومِن تلكَ الدلائل والآراء ما يلي :

1 - الرأي الأكثرُ قبولاً أنهم أحفاد الأسرى الكلدان المُرحَّلين خلال عهود ملوك آشور الطغاة للفترة الواقعة بين عامي 745 - 625 ق . م ، والذين كان يزيد عددهم عن نصف مليون فرد كما يذكر المؤرخ حبيب حنونا في كتابه ( الكلدان والتسمية القومية )  و  يُمكن  الإشارة  الي ما يؤَيِّدُ  هذا الرأى  بما يلي  :

أ - كان الملوك الآشوريون قد أقاموا مُعسكرات للأسرى الكلدان في  الشمال الأقصى لإقليم آشور وفي شمالَيه  الغربي والشرقي ، بحسب المصدر السابق ( الكلدان والتسمية القومية ) وكانت تُسمّى ( بيث شيبا ) وتعني بيت السبايا ، وبعد سقوط الدولة الآشورية  وخضوع كُل مناطقها  لسطوة الدولة الكلدانية ، قام هؤلاء الأسري بتحويل تلك المُعسكرات الى مُجمَّعات ووحدات سكنية .

ب -  تَقبُّلُهم لبشارة الخلاص المسيحية بيُسر وسهولة  لدى انتشارها بفضل لغتهم الكلدانية  ، حيث أن لغة المُبشِّرين التي كانوا يتحدثون بها  كانت اللغة الكلدانية  ذاتها  ، وقد تعلَّموها مِن آبائهم وأجدادهم الذين كانوا قد أتقنوها أثناء تواجدهم في بابل أثناء مدة السبي البابلي .

ج - استمرار حَملهم للتسمية  واللغة الكلدانية  طَوال القرون الماضية وحتى العقد الأخير من القرن التاسع عشر  ومطلع القرن العشرين ،  حيث أغراهم  رئيس بعثة اسقف كانتِربَري عميل المُخابرات  الانكليزية  باستبدالها  بالتسمية الآثورية  كما  نوَّهنا  أعلاه .

د - تَشَبُّهم بالتقليد القَبَلي  الذي أشرنا إليه أعلاه  ، الذي كانت تُمارسُه القبائل الكلدانية بإطلاقها على شيخ القبيلة  بلقب ( الملك ) ولا زال هذا التقليدُ  معمولاً به لديهم ،  بينما لم يكن هذا التقليد معروفاً لدى الآشوريين  بدليل عدم الإشارة إليه من قبل أيِّ مصدر تاريخي ، بالإضافة الى مزجهم  بعضَ المُعتقدات الدينية البابلية  بطقوسهم المسيحية  ولا سيما  بعد إصرارهم على البقاء  في المذهب  النسطوري  خروجاً  عن  إجماع الغالبية  من إخوتِهم  باستعادة مذهب آبائهم  وأجدادهم ( المذهب الكاثوليكي )  مذهب الكنيسة الكاثوليكية  الجامعة  في مُنتصف القرن السادس عشر ،
وقد أشار الى هذا المزج وليم ويكرام مُرشدُهم الروحي الجديد ، وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الآراء ،  فإن مسألة عدم انتسابهم الى الآشوريين القدماء هي حقيقة  ثابتة  بعيدة عن الجِدال باعتراف كافة المصادر التاريخية النزيهة والمُحايدة .

إذا كانت الشواهدُ على مُجريات التاريخ تؤَكِّدُ انقراضَ الآشوريين بعد سقوطِ  نينوى المأساوي عام 612 ق . م  والقضاءِ المُبرم بعد ثلاث سنوات على بقاياهم الذين استطاعوا الإفلات مِن ألسنة السيوف والنيران واللجوءَ الى المدينة الغربية حرّان ، ومِن ثمَّ زوال اسمهم مِن ذاكرة التاريخ ،  كيف يا تُرى ظهر إسمُهم ثانيةً  وعلى حين غَرَّةٍ بعد اختفائه لمُدَّةِ خمسةٍ وعشرين قرناً ووُجدَ له أتباع ؟ أليسَ وراءَ أكَمةِ هذا الظهور المُفاجيء لُغزٌ ؟ أجلْ ، إنها الدوافع الخفية  لتحقيق أهدافٍ تسعى إليها  جِهة دولية  قوية هي المملكة الانكليزية المُتحدة ! أرادَت مِن إحياء هذا الاسم وإطلاقه على جزءٍ عزيز مِن شعبنا ( السرياني المشرقي ) الكلداني المعروف بالنسطوري والقاطن في منطقة آثور الجبلية ( هيكاري ) لجعلِه كبشَ فداءٍ لتقويةِ نفوذِها الاستعماري ، حيث كان التنافسُ على أشُدِّه  بين الدول الإستعمارية ( انكلترة وفرنسا وروسيا وألمانيا ) في أواخر القرن التاسع عشر للإستحواذ على أوسع رقعةٍ جغرافية مِن المناطق الخاضعة للنفوذ العثماني ، ومِن أجل هذا الغرض كانت تتسابقُ كُلُّ واحدةٍ مِن هذه الدول على التدخُّل في  شؤون الدولة العثمانية الهَرِمة والتي لُقِّبت ( بالرَجُل المريض ) حيث كان الإنحِلالُ قد دَبَّ في أوصالها ،  ورأت أن قيامَها بايقاظ النعرات القومية والطائفية والدينية  بين أبناء الشعوب الرازحة تحت حُكم هذه الدولة العاتية هو الوسيلة الأسرع لزرع الشك وانعدام الثقة بين بعضهم البعض فعمدت الى ايقاد نار الفِتَن بينهم ، وقد لعبت البعثات التبشيرية الاوروبية دوراً بارزاً في تهيئةِ مناخ مُساعد لإستثارةِ النزعات القومية والدينية ،  وكان دورُ  بعثة الكنيسة الانكليكانية  ( بعثة اسقف كانتِربري ) الأشَدَّ خِداعاً وتخريباً بين أدوار البعثات الاخرى ،  حيث يُشيرُ  أحمد سوسة الى هذا الدور في كتابه  ( مفصل العرب واليهود في التاريخ ص . 596 - 597 ) <  وَفَدَت الى جماعة مار شمعون بعثة تبشيرية انكليزية ، وحاولت  تحويل هذه الجماعة  مِن مذهبهم النسطوري الى مذهبها البروتستانتي ، غيرَ أنها لم تُفلح ، ولكنها نَجَحَت في إقناعهم بأن ( النسطورية  -  النساطرة ) لا تليقان بهم ، وعليهم استبدالهما بلفظتي ( آثور -  آثوريين ) لكي ترفعا شأنهم في الأوساط العالمية ، ويكون بالإمكان في هذه الحال نَسبُهما الى الآشوريين القدماء ، ويُضيفُ سوسة  ، لم يذَّخِر رئيسُ البعثة  وليم ويكرام وِسعاً في لعب دور دِعائيٍّ كبير لنشر هذا الاسم ( آثوريين ) وتعريف العالَم بالمأساة التي تعرَّضَ لها مَن دعاهم ( أحفاد شلمَنَصَّر ) ، بينما لم يكن هؤلاء النساطرة يعرفون هذا الاسم إلا بعد قدوم هؤلاء المُبشِّرين .

ومِن أهمِّ الأهداف التي سعت المملكة المتحدة لتحقيقَها عن طريق هؤلاء النساطرة الذين أثورتهم  بالإضافة الى جانب أيجاد  موطيءِ قدم لها في لُبِّ السلطنة العثمانية ،  ومنافسة نفوذِ  روسيا القيصرية في فرض رأيها بشؤون السلطنة ، كان سعيُها الى ايقاف المد الكاثوليكي الذي كادَ يكتسح منطقة نفوذ مار شمعون ،  فاستخدمت لتحقيق هذا الغرض مبعوثي كنيسة كانتيربري الأنكليكانية وأسطع بُرهان على ذلك ما أوردته  مجلة النجم في عَدَدِها الخامس لسنة 1929م : <  كانت بعثة رهبانية كاثوليكية دومنيكية قد حَلَّت في منطقة رعايا مار شمعون السريان المشارقة الكلدان المعروفين بالنساطرة ، قامت بأنشطةٍ متنوِّعة حيث أنشأت مدارسَ لهؤلاء النساطرة الكلدان ووَفَّرَت لهم مُختلف الخدمات الطبية ، فنالت التقديرَ والثناء مِن لَدُنهم وأقبلوا على اكتساب العِلم والثقافة فشكَّلَ ذلك غضباً وامتعاضاً لدي المبشرين الأنكليكان لسبَبَين أولهما  رفض النساطرة لمطلبهم بتغيير مذهبهم النسطوري الى الأنكليكاني البروتستانتي ، والثاني خِشيتهم مِن  ضياع الفرصة على الانكليز في استغلالهم لتحقيق أهدافهم الإستعمارية عن طريقهم فيما لو تكثلكوا حيث سيُصبح تَوَحُّدُهم تحت راية الكنيسة الام الجامعة مفروغاً منه تلقائياً ، ولَما أفلحوا في ايجاد تسمية قومية دخيلة لهم بدلاً مِن تسميتهم القومية الكلدانية الأصيلة ، فصَمَّموا على فعل كُلِّ ما بوسعهم لقلب المعادلة لصالحهم بأيِّ ثَمَن وبأية وسيلة .

وعِبر مُخططهم هذا علموا بأن مار شمعون روبين طلب مِن شقيقِه وابن عَمِّه أن يُسافرا الى الموصل ، ويطلبا مقابلة البطريرك الكلداني الكاثوليكي  للبحث في موضوع توحيد شطرَي الكنيسة ، وفي أثناء وجود مبعوثي مار شمعون في الموصل يتفاوضان بشأن الوحدة ، وافت مار شمعون المَنِيَّة عام 1903م  ، فاستغَلَّ الانكليزُ غيابَ إبن عم مار شمعون المُرشَّح لخلافتِه لوجوده في الموصل ، وقاموا ببذل جهودٍ مُضنية لتشجيع وإقناع النساطرة لنصب إبن شقيق مار شمعون الثاني بطريركاً بدلا ً عنه ، وبذلك استطاعوا إضاعة فرصة قيام الوحدة ، وكانت تلك ضربةَ قاصمة  >

يقول  جون جوزيف في كتابه ( النساطرة ومُجاوروهم الإسلام / ط . 1961م ) <  إن الإرسالية التبشيرية الانكليزية التي استفردت بالنساطرة الكلدان في منتصف القرن التاسع عشر ، كانت تُلَقَّب بِبِعثةِ رئيس أساقفة كانتيربيري الى المسيحيين النساطرة ، وهي أول مَن أطلقَ عليهم تسمية ( آثوريين )  >  .   وفي كتابه  ( خُلاصة تاريخ الكُرد وكُردستان )   يقول الباحث أمين زكي بك  <  إن الآثوريين هم أحفاد كلدانيي بلاد ما بين النهرين ، الذين هَجَروا بلادَهم الأصلية بسبب اضطهاد الغزاة والفاتحين ، ولجأوا الى جبال منطقة هيكاري منذ عهدٍ قديم جداً >  ويقول المؤرخ أحمد سوسة <  إن الانكليز هم الذين ابتدعوا قضية العلاقة بين مَن أطلقوا عليهم ( الآثوريين ) وبين ( الآشوريين ) .

يُؤَكِّدُ السيد كيوركيس بنيامين بيث أشيثا في كتابه ( الرئاسة / طبعة شيكاغو 1987م ) والذي عاش هذه المأساة  فتكونُ شهادتُه أدمغ وأصدق حيث يقول :  <  إن كُلَّ هؤلاء الكُتّاب الأجانب الذين كانوا يأتون لزيارة ديارنا لم يستخدموا أبداً اسم ( الآثوريين ) الذي نتداوله نحن اليوم ، بل كانوا يقولون عنا , أو  يدعوننا بالكلدان ولو كُنا نختلف بالمذهب ، وإن إسم ( الآثوريين ) أبتدأَ بتداولِه الانكليزُ منذ نهاية القرن التاسع عشر ، عندما وصل المبشرون الانكليز مِن انكلترة الى ديارنا سنة 1884م >

يقول المؤرخ العراقي عبدالرزاق الحسني في كتابه  ( تاريخ الوزارات العراقية / المجلد الثالث ص . 254 - 255 ) < إن الانكليز وحدهم فقط يُطلقون على النساطرة اسم( الآثوريين ) بينما الجميع يُدعونهم ( تيارية ) ويُضيف ولا علاقة عِرقية لهؤلاء النساطرة بآشوريي نينوى، وإنما هم نساطرة مسيحيون ، دَمَّرَ تيمولنك كنائسَهم ، فتبَدَّدَ شملُهم فاحتوتهم المنطقة الجبلية الواقعة في شرق تركيا ، ولدى استيلاء الروس على ولاية وان الارمنية في تركيا سنة 1915 م أغروا هؤلاء النساطرة بالتمرد على الأتراك وأغدقوا عليهم السلاح للقيام بالثورة ضدهم،إلا أن الفشل الذي مُني به الروس أدّى الى انسحابهم ، مِما وَفَّرَ للأتراك فرصة للفتكِ بهم وتكبيدهم آلاف القتلى ، أما الناجون منهم فقد لجأوا الى المناطق الشمالية مِن ايران .

ويذكر توفيق السويدي في ( مذكراته ص . 243 ) بعد انتهاء الدور الروسي بالنسبة الى هؤلاء النساطرة ، ابتدأ معهم الدور الانكليزي ، حيث تلقَّفتهم المملكة المُتحدة ، وأرسلت إليهم يعثةً عسكرية فاجتمعت بهم في اورمية ودَعَتهم للثأر مِن الأتراك ، وتمَّ الإتفاقُ بين الجانبين وبناءً الى ذلك الإتفاق ،  بادرت بريطانيا بشحن كميةٍ كبيرة مِن الأسلحة الى هؤلاء النساطرة في شهر تموز مِن عام 1918 م ولكن الأتراك فاجأوا النساطرة بهجوم على اورمية قبل أن تصل إليهم الأسلحة ، مِمّا أدّى الى قتل عددٍ كبير مِن هؤلاء النساطرة ، فاضطرَّ الانكليزُ الى نقل الناجين منهم الى منطقة بعقوبة العراقية ، وكان عددُهم التقديري خَمسينَ ألفِ نسمة بضمنهم عشرة آلاف مِن نسطوريي ايران عادوا الى ايران بعد اتهاء الحرب ، وخمسة عشر ألف أرمني ونحو خمسةٍ وعشرين ألفاً مِن نساطرة تُركيا لم تقبل تركيا  بعودتهم إليها مُتَّهِمةً إياهم بالخيانة ، فكان لزاماً على الانكليز مُساعدتَهم على العيش في العراق لأنهم كانوا السبب في إغرائهم لخيانة بلدهم ، فاستخدمت الرجال منهم بأعمال الطرق ، وأقامت مُخَيَّمات لسُكنى عوائلهم .

ويُضيفُ عبدالرزاق الحسني في الصفحة 256 مِن المجلد الثالث لكتابه ( تاريخ الوزارات العراقية ) بأن الكولونيل الانكليزي ( ليجمان ) عَنَّت له فكرة إسكان هؤلاء النساطرة في القرى الكُردية الواقعة على الشريط المُحادِد لتُركيا عقاباً للأكراد الذين أعلنوا العصيانَ عليهم مَرَّتَين ، وقد نالَ الإقتراحُ تأييدَ  ن.ت.ولسن الحاكم الملكي البريطاني العام في العراق ، حيث أجرى اتصالاً بَرقياً بهذا الخصوص مع وزير الحربية البريطاني في شهر آب مِن عام 1920م ، وقد إستَهَلَّ رسالتَه البرقية كما يلي : < سَتَتَوَفَّرُ لدينا فرصة تُتيحُ لنا إنصافَ الطائفة الآثورية بشكل يُرضيها ويُرضي الأفكار الاوروبية مِن حيث الحَقِّ والعدل ، وتُساعدُنا على ايجاد حَلٍّ لأَعسر مُشكلةٍ تَخُصُّ الأقلية الدينية والعِرقية في كُردستان ، وتجعلُنا في مأمنٍ مِن خَطر قد يُهَدِّد السِلمَ في شمال الفُرات ، وفي ذات الوقت نكون قد عاقبنا مُثيري إضطرابات العمادية ، إنها فرصة لن تعودَ ثانيةً >   وقد تَمَّ تكليف المُبَشِّر وليم ويكرام ذي الخبرة الواسعة بشؤون هؤلاء النساطرة للإشراف على تنفيذ هذه الخِطة ،  ولكن الامور لم تجر كما كان متوَقعاً لها ففشلت نتيجة التَحَرُّك التركي ونشوب اضطرابات في ضواحي الموصل .

يتحَدَّث يوسف إبراهيم يزبك في كتابه ( النفط مُستعبد الشعوب ص . 233 - 234 ) بأن الكولونيل الانكليزي ليجمان وأثناء تواجُدِه في الموصل ، كَلَّمَ سُكّانَها مِن العرب قائلاً لهم ، إنكم مِن اصول الآثوريين ، وإني لَمُستغرب مِن عدم دِرايتِكم بتاريخ أجدادِكم ولا عِلمَ لكم بكونِهم أحفاد الآشوريين الذين شَيَّدوا مجدَ نينوى ، فرَدّوا عليه قائلين : نحن أحفاد عرب الفتوحات ونعلم جيداً أن أسلافنا عند مجيئِهم الى الموصل لم يجدوا فيها سوى الفرس المجوس يسكنون في محلة ، والمحلة الثانية كان يسكنُها المسيحيون الجرامقة . ومِن المعروف تاريخياً أن الجرامقة هُم تَشَعُّبٌ مِن تَشَعُّبات الكلدان المُتعدِّدة ، و قد أشار الى الموضوع ذاته  القس سليمان الصائغ ( المطران لاحقاً ) في كتابه ( تاريخ الموصل / الجزء الأول ص . 51 - 52 ) . ويَروي السيد يزبك في الصفحة 236 و237 و 238 و 242  مِن نفس الكتاب ، بأن ليجمان طلبَ مِن مُحَرِّر جريدة الموصل وهو صحفي كلداني أن ينشر خَبراً عن زيارة ( سورما خانم ) التي لَقَّبَها بأميرة الآثوريين الى لندن ، للمطالبة بتحقيق الوعود التي تَعَهَّدها الانكليزُ لقومها ، بإقامة وطن قومي للآثوريين في شمال العراق ، فأجابَه الصفي بذهول مُستغرباً مِن كلامه قائلاً : لم يسبق لي أن سمعتُ بوجود قوم باسم الآثوريين وله أميرة ، ثمَّ أردف الصحفي بأن هؤلاء النساطرة الذين تتحدَّث عنهم لا علاقة لهم بالآشوريين ،  ولكن الكولونيل الانكليزي ليجمان أصَرَّ على رأيه ،  وبحُكم موقعه كقائدٍ  بريطاني مُطالَبٍ  بالعمل على تحقيق طموحات مملكته كان يضغط  مِن مصدر قوة على مُحَرِّر الجريدة لينشُرَ أخباراً عن الآثوريين  ، وقد فاجأَ مُحَرِّرَ الجريدة بقدومه يوماً الى مقر الجريدة وأملأَ عليه ما يلي :  <  انشُر أخباراً عن الآثوريين  وعن أميرتهم   ( سورما خانم )  صاحبة السمو عمة مار شمعون ، وفي عددِك لهذا اليوم ،  انشُر  بأن صاحبة السمو الأميرة  سورما موجودة في لندن منذ بضعة أيام وقد قامت بزيارة عددٍ مِن كبار المسؤولين الحكوميين ، وقابلت أصحابَ الشأن الكبار مُطالبة إياهم بتحقيق الوعود التي  قُطعت مٍن قبلهم لمُواطنيها أثناء الحرب  بإقامة وطن قومي للآثوريين والكلدان في المنطقة الشمالية مِن العراق وبالتحديد مِن شمال الموصل وحتى الحدود التركية ، وكَرَّرَ الصحفي مرة ثانية استغرابَه مِن أقوال ليجمان نافياً وجود قوم باسم الآثوريين تتزعمُهم أميرة ، واسترسلَ بشرح الحقيقة له ، بيدَ أن ليجمان نصحه بعدم تكرار ما سمعه منه لأن ذلك برأيه  يُؤدّي الى حدوث انشقاق بين مسيحيي الموصل ومُسلميها  ،  ويواصل المُؤلف الكلامَ قائلاً بأن الإستعمار البريطاني تمَيَّزَ بدهاءٍ نادر في  لعبه مع التياريين النساطرة الذين أطلقَ عليهم اسمَ الآثوريين عَمداً لتسخيرهم في خدمة  مصالحه ،  وأوعز الى وسائل أعلامه لنشر كُلِّ ما يُثير اهتمام العالَم في سبيل كسب رأيه وعطفه  لمُساندة هؤلاء المسيحيين المُضطهدين مِن قبل الأكثرية المُسلمة ، ويُضيف  بأن صفحات كتابه لا تتسع سطورها لوصف الأحداث التي قام بتنفيذها التياريون المدعوين خطأً بالآثوريين ، تلك القبائل الساذجة التي جنى عليها الإستعمار البريطاني ، وجعل منها حطباً لموقد مطامعه ، فهي لم تَكن تعرف عن آشور شيئاُ ولا خَطَرَ في بال أبنائها يوماً بأنهم ورثة  الآشوريين القدماء إطلاقاً .  ومن أطرفِ ما رواهُ الكاتبُ عَمّا كان يجري بين الانكليز والنساطرة ،  بأن كاهناً كاثوليكياً مِن أبناء الموصل مشهوداً له  بعِلمِه ونزاهتِه ووطنيتِه  عَلَّقَ قائلاً : إن المُستعمِرين ويقصد بهم الانكليز قد أعطوا اهتماماً كبيراً لجماعة مار شمعون ، وبوجهٍ خاص إنصَبَّ اهتمامُهم بِعَمَّتِه  ( سورما )  وقال بالنَص  "  فأَثْوَروها وما زالوا بها حتى ثَوَّروها  "  .


وفي حاشية الصفحة 257 مِن المصدر ( تاريخ الوزارات العراقية / المجلد الثالث ) ورد نقلاً عن التقرير البريطاني ما يلي : < قام الانكليز بتجنيد ما يُقاربُ ألفي فَردٍ مِن هؤلاء النساطرة ، إستعانوا بهم في قمع ثورة العشرين 1920 أطلقوا عليهم ( الجيش الليفي ) ،  لقد سَئِمَ النساطرة العيشَ في المُخيّمات فانتشرَ التذَمُّرُ بين صفوفهم ، ولتهدِئَة غضبهم ومعالجة خيبة أملهم في قياداتهم  وفي الانكليز كذلك ،  إقترح القائد الكبير  أغا بطرس إقامة حكومة آثورية تمتدُّ حدودُها مِن شمال الموصل وحتى الحدود التركية، لاقت الفكرة ترحيبَ الانكليز واستحسانَهم لرؤيتهم فيها خِدمة لأهدافهم وتقويةً لاستراتيجيتِهم فنقلوا المُخيّمات الى منطقة ( مندان ) الواقعة شرق جبل مقلوب بين الموصل وعقرة ، ولكن نصيبَ هذه الخطة كان الفشل . لم تتوانى كتائب الليفي النسطورية في إسداء خدمةٍ كُبرى للإنكليز حيث كانت تتصَدّى لكُلِّ مَن يُحاول المساسَ بمصالح المملكة المتحدة مِن العرب والأكراد .

جاءَ في كتاب ( القضية الكُردية والقوميات العنصرية في العراق ص . 97 - 98 لمؤلِّفِه لوقا زودا ) بأن دوائر الإستخبارات الانكليزية لم تألُ جُهداً في جمع مَن أطلقت عليهم اسم ( الآثوريين ) في منطقة نينوى عاصمة الآشوريين القدماء وتشكيل جيشٍ مِن عشائِرهم يَكونُ نواة لصيانة الوطن القومي المُقترح إنشاؤه لهم تمهيداً للوصول الى إعلان الإستقلال لدولة آشور الموعود بها مِن قبل البريطانيين ، عندما نجحوا في  إقناعِهم للقتال الى جانبهم ، ولكن الانكليز كانوا يُتقنون اللعبَ على الحَبلين بادائِهم دوراً مُزدوجاً ، ففي الوقت الذي يُحَرِّضون النساطرة على المُطالبة بالإستقلال ، في الوقت ذاته يوشونَ بهم لدى الحكومة ويدفعونها للقيام بقمع حركتِهم . أما مؤلفا كتاب ( العراق في التاريخ / الفصل الثاني ص. 661 - 662 ) الدكتور مظفر عبدالله والدكتور جهاد صالح ، فيُشيران الى تَوَرُّط النساطرة المُتأثورين ، بقيامهم بحركةِ تَمَرُّدٍ في شمال الوطن في عهد الملك فيصل الأول وقبل وفاته بفترةٍ قليلة ، وقد قام بكر صدقي باعتباره قائد الجيش العراقي وبالإتفاق مع وليِّ العهد العراقي الأمير غازي ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني ووزير الداخلية حكمت سليمان بقمع التَمَرُّد بشكل عنيف في شهر آب 1933م ، وجرى ذلك أثناء غياب الملك فيصل خارج الوطن . وقد تَكَبَّدَ النساطرة عددأ كبيراً مِن القتلى رجالاً ونساءً وأطفالاً والتجأ الناجون الى القرية الكلدانية العريقة ألقوش فاحتضنتهم وامتنعت عن  تسليمهم للجيش رغم كُل التهديدات بقصف القرية وسُكّانها ،وتلك لَعَمري مأثرة كلدانية خالدة للكلدان وللأسف تناساها العنصريون مِن بقاياهم الذين هاجروا الى الديار السورية والذين مكثوا في العراق على السواء ، إنه لنُكران للجميل ما بعده نُكران ! والى الحلقة الثالثة قريباً

الشماس كوركيس مردو
في 28 # 2007