المحرر موضوع: سينمات بغداد.. جناني المفقودة..  (زيارة 4314 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل Salim Matar

  • عضو فعال
  • **
  • مشاركة: 69
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
مقاطع من سيرة عراقية*:
سينمات بغداد.. جناني المفقودة..
سليم مطر ـ جنيف
     
 
  قد تستغربون يا اصدقائي، لو اخبرتكم بأني في طفولتي ومراهقتي، دفئ الامومة المفقودة وجذور الانتماء الوطني الغائب، وجدته في قاعات السينما! تقريبا طيلة السنوات العشرين التي عشتها في بلادي، كان العالم بالنسبة لي منقسم الى قسمين: العالم الطبيعي خارج السينما، وهو عالم قاسي متعب مذل، ثم عالم السينما، وهو عالم طيب رطب مريح شاسع حر بلا حدود فيه الفن والمتعة والمحبة والكرامة والجمال.  منذ الطفولة، في كل مرة كنت ادخل فيها الى قاعة السينما كانت تسري في بدني قشعريرة شوق وخوف ولذة والفة كأني اعود من جديد الى (بيت الرحم). حتى الآن وانا في جنيف، ما ان تطئ قدماي قاعة السينما، تعود بي روحي الى سينمات بغداد، فأشتاق الى دفئ وعتمة وعبق روائح اليفة هي خليط من ذرة مشوية (الشامية) ومشروبات باردة ودخان سيكاير وتعرق وعفن، وانفاس اناس باحثين عن متعة واحلام.
   اتذكر المرة الاولى، ربما في سن الخامسة (عام1961)، اخذني ابي الى (سينما ميامي) في ميدان الباب الشرقي في وسط بغداد. كان فلم (طرزان في الغابة) مع محبوبته جيني وابنه وقرده(الشيتة). كان ذلك اليوم بالنسبة لي اكتشافا عظيما لا يضاهيه اهمية الا اكتشافي لمجلة(سوبرمان)، بعد عام او عامين.
     ليست الافلام وحدها، هي التي كانت تشدني الى السينما،انما تلك الاجواء العجيبة الغريبة المحيطة بها في القاعة نفسها: العتمة والترقب وتعليقات المشاهدين وتحذيراتهم للبطل(الولد) من المخاطر التي تحيق به:(لك دير بالك.. ترى راح يغدر بيك العصابجي.. لك الحية وراك عيني را ح تلدغك.. آخ يابا.. اويلاخ الملاعين التمو عليه..)). ثم حماستهم في كل مرة يحقق فيها البطل(الولد) انتصارا على اعدائه، فيتصاعد التصفيق والصفير وصرخات الفرح:( لك عيني فدوه اغديلك.. حيل .. يابا شوف شبعة كتل.. لك عوافي عليك .. تستاهل.. عيني بوسها وبوس ابوها وياها... )). واشد اللحظات حزنا وغضبا كانت عندما ينقطع عرض الفلم فجأة لخلل ما، وما اكثره، فينفجر الصفير والزعيق وصرخات الاحتجاج والشتائم: (لك اعور.. لك اعور.. ))، وما ان يعود العرض حتى تتصاعد صرخات البهجة والتشجيع والتصفيق، ثم يعم الهدوء لمتابعة الفلم.
  كانت فترة انتظار بدأ الفلم، من اكثر الاوقات توقا وتململا. لا ادري لماذا كانت جميع السينمات تقريبا تبث اغاني ام كلثوم اثناء فترة الانتظار تلك. لعلي لهذا السبب لم اتعلق بصوت هذه المغنية الكبيرة، لأنها ارتبطت بفترة الانتظار المملة هذه. اما لحظات انقطاع الغناء ودق جرس الانذار وبدء انطفاء الاضوية، فأنها كانت من اجمل اللحظات واكثرها متعة وتشويقا وحماسا، وعندما تبدأ الستارة بالانفتاح وتتكشف بالتدريج الشاشة البيضاء وسط العتمة الهابطة، اشعر حينها كأن قوى سحرية ترفعني وتطير بي وسط نسيم من نور الهي مفعم برحمة لذيذة لا توصف.
 بقيت حتى سن العاشرة اذهب للسينما مع ابي واخي الاكبر (قيس) واخي (راضي) الاكبر مني مباشرة، كذلك احيانا مع اختي الكبيرة (ليلى) لمشاهدة افلام (العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ). كانت اختي تأخذني معها خصوصا من اجل حماية نفسها من ضنون الناس وتحرشات الشبان. واتذكر حتى الآن فلم(الخطايا) في (سينما روكسي) في شارع الرشيد، والزحام الشديد والتدافع واعتداءات الشبان لإستغلال الفرصة والتحرش(الطبق على البنات). وحدوث الشجارات العديدة وحالات الاختناق للحصول على التذاكر. بقي في ذاكرتي فلم(ام الهند) الذي شاهدته مع اخي واختي في (سينما البيضاء) الصيفية( بلا سقف حيث نشاهد نجوم السماء) في مدخل شارع الكفاح، وكان ذروة الافلام العاطفية الهندية التي تجعل المشاهدين يبكون ويشهقون بأصوات عالية.
 كنا انا واخي راضي، مثل غالبية فتيان العراق، السينما هي تسليتنا الاولى ايام العيد. كنا نشاهد عدة افلام في اليوم الواحد. نأخذ عيديتنا التي لا تتجاوز بضعة دراهم، ونذهب الى سينما السندباد وبعدها الى سينما الخيام، ثم الى سينما ميامي، وهكذا دواليك. وكل سينما تعرض فلمين بآن واحد، فكنا نعود الى البيت منهكين ثملين سينمائيا وقد اختلطت علينا مشاهد الافلام وتداخلت ملامح (هرقل الجبار محطم السلاسل) مع العصابجي (رنكو ومسدسه الذهبي) مع (شامي كابور في باريس). وطبعا لا تكتمل متعة سينما العيد الا مع سندويشات الفلافل والبيض والعنبة.
 مع مرور الزمن واستفحال مشاعر الحرمان والغربة ومعاناتي من شغلي في حانوت ابي وما يفرضه علي من مشاهدات يومية لعذابات المعتقلين في دائرة الامن العامة، بالاضافة الى مصاعب المدرسة وتفاقم احساسي بالعار من فقر اهلي ومن اصلي الشرگاوي(جنوب شرق العراق)، بدأت احس بالسينما هي ملاذي ومخدري الذي يجعلني انقطع تماما عن واقعي. ما ان تنطفئ الاضواء ويعم الظلام وتشع الشاشة بكونها اللامحدود حتى انتقل الى عالم جديد من احلام البطولة والمحبة والتضحية التي افتقدها في حياتي اليومية.  الى الآن وانا في جنيف، كلما دخلت قاعة السينما، يسري في نوع من خدر طفولة ورهبة عابد يدخل الى معبده، فأشرع بتمتمة تعويذات مبهمة بألفة وتبجيل لمعبودي الذي أدعوه ان لا يخيب املي، ومعبودي انا هو الفلم الموعود.
  في سن العاشرة بدأت اذهب الى السينما وحدي. احيانا قليلة بعلم ابي، واحيانا كثيرة من دون علمه. استغل اية فرصة للغياب عن الحانوت، فادخل الى السينما. كنت اجمع النقود من عملي احيانا بتنظيف السيارات، بجانب عملي في الحانوت، كذلك كنت اضطر احيانا الى اكمال المبلغ المطلوب( 60) فلسا، بسرقة بعض من ارباح الحانوت. كنت استغل خصوصا المناسبات التي يبعثني بها ابي لاشتري له من شارع السعدون بطاقات اليانصيب، او الى ساحة النهضة لاشتري له(دجاج مي). وكثيرا من الاحيان كنت اضطر الى عدم اكمال الفلم خوفا من عقاب ابي على تأخري. واظل انتظر اية فرصة للعودة لنفس السينما، فقط لمشاهدة الجزء الاخير الذي فاتني. حتى الآن، أحيانا يراودني ذلك الشعور المزدوج الممزوج باللذة والقلق، لذة مشاهدة الفلم والقلق من العقاب المنتظر. 
كانت قاعات السينما منقسمة الى درجات واسعار مختلفة: في الامام قرب الشاشة هو الارخص، ثم يليه القسم الوسطي، ثم القسم الاخير، بعدها القسم الاعلى(اللوج) وهو الاغلى ومفضل من قبل العشاق والعوائل. طبعا انا وامثالي(ولد الملحة)، كنا دائما في القسم الارخص قرب الشاشة، ولا زلت حتى الآن في جنيف، رغم ان السعر واحد في كل القاعة، افضل ان اكون قريبا من الشاشة لكي اشعر بأني داخل الفلم تماما.
  المشكلة الوحيدة التي كانت تزعجني وتسبب قلقي عند دخولي السينما، عدى عن مسألة تأخري عن والدي، هي تحرشات الرجال الشاذين(الفرخـﭼية والدودكية). هذه مشكلة يواجهها غالبية فتيان بغداد، في الشوارع والمدراس والباصات واماكن العمل، حيث كانت تسود ظاهرة اللوطية. وهي عادة تاريخية معروفة  لدى العراقيين، لها تفاصليها التي لا تعنينا هنا. لكن لحسن الحظ ان هؤلاء الشاذين كانوا يمتلكون ما يكفي من العقلانية والادب، لكي يبتعدوا عنك ما ان تبدي لهم رفضك لتحرشاتهم. لكن يبقى امرا متعبا ومقرفا، ان تظل دائما متيقضا حذرا وانت جالس في قاعة السينما المظلمة، لكي تغير مكانك في كل مرة تشعر بأن شاذا يجلس جنبك. خصوصا انك طفل لا تمتلك أي قوة عضلية للدفاع عن نفسك، وليس امامك غير تهديد الشاذ بالفضيحة.
   في اول سن المراهقة، في الصف الاول المتوسط، اكتشفت عادة جديدة مع اصدقائي في متوسطة السعدون(قرب الجندي المجهول، ساحة الفردوس حاليا). رحنا نعبر عن تمردنا على قمع المدرسين، بالهرب من المدرسة. كنا نتفق كمجموعة ونطفر حائط المدرسة ونهرب لكي نتسكع في الطرقات. كنت اهرب مع اصدقائي(عوديشو الآثوري) و(عماد التلكيفي)، ونبحث عن أي فلم هندي لكي نشاهده. في تلك الفترة تعلقت بالسينما الهندية الى حد الولع والخبل. لا يمر فلم هندي واحد في سينمات بغداد دون ان اشاهده. واحيانا اشاهد الفلم الواحد مرات عديدة. رحت اشتري كتيبات الاغاني الهندية لكي اتعلم لفظها الصحيح. حتى الآن لازلت احفظ بعض الاغاني الهندية واتقن غنائها. ولازلت احيانا استمع الى الاغاني الهندية وارقص وابكي معها.
 اما ابطال الافلام فكانوا مثلي الاعلى من اجل تحمل حياتي الحالية. كنت مثل غالبية المراهقين، بعد كل فلم أشاهده كانت شخصية البطل تتقمصني واتماها بها. اذا كان من نوعية ابطال افلام الكابوي مثل رنكو وجانكو، فأني اتخذ مظهر الحزين الصامت ذو النظرات الصارمة المتفحصة الباردة، واجبر نفسي على عدم الكلام والابتسام والضحك، واكون مستعدا لكل حركة مريبة من حولي لكي اسحب مسدسي(الوهمي) واقوم بقفزة بهلوانية نحو الارض مطلقا النيران على الاعداء الذين يتربصون بي. اما اذا كان من ابطال الافلام الهندية، امثال شامي وشاشي كابور وراجندر كومار ودارمندر، فأني تارة اتخذ مظهر الحالم الحزين وانا اصدح بتلك الاغاني الساحرة، وتارة مظهر المغازل اللعوب وانا اقوم بحركات راقصة ومنشدا تلك الالحان الفرحة. حتى الآن اتذكر جيدا عندما شاهدنا انا وصديقي عماد بطو فلم(القاتل ذو الوجه الملائكي) في سينما غرناطة، من بطولة الممثل الفرنسي الشهير(آلان ديلون) فتقمصتنا نظرات البطل الباردة الهادئة الخارقة، حتى خيل لي بأن عيوني قد اصبحت زرقاء مثل عيون البطل.
نعم يا اصدقائي، صدقوني ان قاعات السينما في عمر المراهقة، صارت هي امي ووطني. فيها اجد عوالم الدفئ والحنان والتضامن الانساني المفقود. بلغ بي الامر، اني كنت على استعداد وبصورة صادقة ان اقبل العيش داخل قاعة السينما. امضي حياتي ليلي ونهاري في داخل القاعة اعيش وانام واصحو والافلام تدور وتدور، كما يدور الزمان في جنان الله الموعودة.
 اما في عمر الشباب الاول، بعد ان اصبحت شيوعيا قبل بلوغي سن الثامنة عشر، فأن علاقتي بالسينما اتخذت بعدا ثقافيا ونضاليا لم اعرفه من قبل. لقد كتشفنا ما يسمى بـ (السينما التقدمية) ودورها بتوعية الجماهير ودفعهم الى الى تغيير الواقع. كان ذلك في اوائل السبعينات وقيام ما سمي بـ(الجبهة الوطنية) التي كانت عبارة عن تحالف تكتتيكي بين(حزب البعث) الحاكم و(الحزب الشيوعي) المحكوم، وكان بالحقيقة اشبه بتحالف الذئاب والخرفان. المهم، في تلك الفترة بدأت قاعات السينما في بغداد تعرض افلاما عالمية يسارية مثل(زد) و(ساكو وفانزيتي) وغيرها. كذلك راحت تقام بين حين وآخر مهرجانات سينما الاتحاد السوفيتي وباقي الدول الاشتراكية. فكان علينا نحن الشيوعيين اشبه بالواجب مشاهدة تلك الافلام ودفع اصدقائنا لمشاهدتها من اجل كسبهم لحزبنا. والطريف انه عند عرض احد تلك الافلام كانت قاعة السينما تغص بالطرفين النقيضين، الشيوعيين وانصارهم، ثم اعضاء المخابرات والامن من اجل مراقبة الوضع. اتذكر مرة في سينما سمير اميس في شارع السعدون في الفلم الروسي(الغجر يصعدون الى السماء) غصت قاعة السينما بالتصفيق الحار لمجرد ان احد شخصيات الفلم قال العبارة التالية: (ان هذا جواد عربي اصيل). ويبدو ان هذا التصفيق كان بمبادرة من افراد المخابرات والبعثيين، وقد شاركهم الشيوعيين حماستهم العروبية من باب التضامن الجبهوي لا اكثر.
اما انا، فرغم وضع المالي السيء وتقتيري على نفسي حتى بالطعام، اذا كنت اشتغل كاتب طابعة في مجلس الخدمة ثم في وزارة الصحة، فكنت اخصص جزءا اساسيا من مرتبي للسينما. المشكلة اني كنت اضطر احيانا الى مشاهدة نفس الفلم التقدمي مرات عدة لأني كنت في كل مرة أصطحب معي احد المعارف لكي اكسبه للحزب. اتذكر مرة اصطحبت معي مجموعة من اصدقاء الحزب اعضاء الحلقة التي كنت مسؤولا عنها لمشاهدة احد افلام مهرجان السينما اليوغسلافية في (قاعة الخلد). وكم احسست بالخيبة والخجل والغضب وانا افاجأ بأن قصة الفلم تتحدث عن عائلة يوغسلافية تعاني الويلات من البيروقراطية الحاكمة، حزبا ودولة. يا للاحراج، انا جلبت هؤلاء الاصدقاء من اجل كسبهم للشيوعية وأذا بي اجعلهم يشاهدون فلما من اشد منتقدي وفاضحي النظام الشيوعي! لم يتبقى امامي بعد نهاية الفلم غير ان ارقع المسألة باللجوء الى التفسير المصطنع التالي:
 ـ مثل ما تعرفون يارفاق، هذا الوضع البيروقراطي السيء موجود بس في يوغسلافيا، لانها خرجت من التحالف مع الرفاق السوفييت، وهذا سبب انحطاط الأوضاع عندهم!؟
ورحت اشرح لهم مقولات(الرفيق العبقري لينين) عن(الدولة والثورة) وخطابات الرفيق المحبوب(بريجنيف) عن صعوبات بناء الاشتراكية، واشتريت لهم من جيبي المسكين عدة نسخ من مجلة(المجلة) الصادرة من المانيا الديمقراطية، ومجلة(المدار) السوفياتية، وهي مجلات كانت تحدثنا عن(جنان الاشتراكية العامرة بالمؤمنين والمؤمنات)، من خلال صورعمال بوجنات تفاحية وعاملات شقراوات ساحرات اشبه بالحوريات، وكانوا دائما يضحكون، نعم دائما يضحكون في كل الصفحات وفي كل الاعداد وبأصرار غريب! احتجت لسنوات عديدة لكي ادرك انهم بالحقيقة كانو يضحكون علينا، احنا ولد الخيابة اللي نذرنا حياتنا وخيالنا واحلامنا لمشاريعهم التعبانة. وكنا نحن الشيوعيين العراقيين، دون ان ندرك، عبارة عن كومبارس بائس في افلامهم الاممية السيئة الاخراج!
     حتى الآن لم انسى آخر فلم شاهدته في بلادي، قبل هربي وهجرتي الابدية نهاية عام 1978. كان فلم(الفراشة) الشهير، المأخوذ عن قصة حقيقية لسجين فرنسي عانى الويلات من اجل هروبه من المعتقلات العديدة التي عاش فيها، وكيف انه اصر وقام بمغامرات عجيبة من اجل الحصول على الحرية. شاهدته مرتين خلال اسبوع واحد، قبل سفري بأيام، لأنه كان مناسبا للفترة العصيبة التي كنا نعيشها حيث كانت اجهزة السلطة تشن حملة اعتقالات وقمع وقتل ضد كل المعارضين لاجبارهم على الانتماء الى حزب البعث. وكنا نحن الشيوعيين نقوم بأكبر انجاز في تاريخ العراق القديم والحديث، بتدشيننا لأول واكبر هجرة جماعية عراقية الى بلاد الله الواسعة، لتكون فاتحة تاريخية لموجات الهجرات الوطنية الكبرى المستمرة حتى الآن، والتي لم تعرفها (بلاد النهرين) منذ ان خلقها الله قبل وبعد عصر الطوفان.   
  هذه هي قصتي يا اصدقائي مع قاعات السينما في بلادي. كما ترون انها شكلت جزءا اساسيا من دنياي، ورافقتني في جميع مراحل الطفولة والمراهقة والشباب الاول، بحيث اني لا يمكن ان اتخيل حياتي في بلادي من دون السينما. لهذاكانت الفاجعة الكبرى عندما زرت بلادي نهاية عام 2003، اول مرة بعد غياب دام 25 عاما بالتمام والكمال. كانت الاماكن الاولى التي ارغب بزيارتها بعد بيوت اخوتي واخواتي، هي سينمات بغداد. آه لو تعلمون كيف كنت ولا زلت محملا بالحنين الى مرابع طفولتي تلك، الى عبقها وعفنها وظلامها ومخاوفها واحلامها التي لا تنتهي. بعد يومين من وصولي، اصطحبني اخي الاصغر(طارق) في جولة تفقدية لسينمات بغداد التي اعرفها واحدة واحدة حتى الواقعة منها في مناطق شعبية بعيدة. بدأنا في شارع الرشيد، ثم في شارع السعدون. كانت صدمة قاسية، وغالبت نفسي لكبت حاجة جياشة الى البكاء، لأني حينها فقط ادركت مدى الخراب الذي حل في بلادي. عندما بلغنا (سينما الخيام)، رغم انها كانت تعرض فلمان خلاعيان تافهان، الا اني رغبت ان ادخل، ولو لبضعة دقائق، لمجرد ان استعيد بعضا من نفح الطفولة. لكن العجب حدث حينما رأيت علامات الاعتذار والتردد على وجه اخي وكأني كنت اطلب منه امرا خارقا معيبا، اذا قال متحرجا آسفا:
  ـ (( يا اخي ارجوك سامحني، نسيت مسدسي في البيت..)).. 
نعم، لكي تدخل الى سينما في بغداد، عليك ان تحمل مسدسا!! اقول هذا دون أي مبالغة ويمكن ان تسألوا أي بغدادي. هكذا الحال في جميع سينمات بغداد(لا ادري ان كان نفس الوضع في باقي العراق)، التي منذ ايام صدام قد اغلقت نصفها، وتحولت الى كراجات وكابريهات، اما النصف المتبقي، فجميعها بلا استثناء تحولت الى اوكار للشاذين واللصوص والاشرار. هذه الكارثة لم تحدث بعد الاحتلال الامريكي، بل منذ ايام البعث القومي التقدمي الاشتراكي، في فترة الحصار اعوام التسعينات. بما ان قاعات السينما كانت تعتبر تجمعا للناس خارج نطاق حزب السلطة، فقد اصرت المخابرات على طرد الناس الطبيعيين منها وتحويلها الى اوكار شذوذ لا تهدد الامن. كم اندهشت عندما اكتشفت ان جيل التسعينات في بغداد يجهل تماما السينما، ولما سألت ابناء اخي إن دخلوا السينما في حياتهم، استغربوا وإستهجنوا كأني اسألهم عن الكباريه والمبغى!
هكذا إذن، اثمن قطعة من ذكريات طفولتي ومراهقتي وشبابي الاول، وفيها وجدت دفئ الامومة ومتعة الانتماء، قد اصابها الخراب والنسيان! 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هذا مقطع من كتاب سيرة ذاتية في طور الاعداد