استاذي العزيز خوشابا سولاقا ..اتمنى ان تكون سالما وبكل خير وبعيدا عن كل من يستهدف الطبقة المثقفة والنيرة مثل حضرتكم.
اتفق معك تماما بخصوص الهروب من المشكلة ليس حلا لكن اختزالك لاسباب الهجرة وتحويله الى هوس او موضة للقارئ الكريم لا يرسم الصورة الكاملة الواقعية لواقع كل من هاجر. هل هنالك من هاجر لاجل الهجرة؟ بالتأكيد و لا اختلاف على ذلك, فهناك من يسافر من اوروبا الى امريكا وبالعكس للعمل والدراسة او لأسباب الزواج والعائلة ولكي لا ننسى هنا اذكر بعض من اسباب من هاجر من البلد الام بفترات زمنية مختلفة وبحالات عامة او فردية ولم تكن موضة او الهجرة لأجل السياحة والسفر:
--تفجير الكنائس ومثالها كنائس بغداد ومنها كنيسة النجاة ما بعد 2003 قبل فترة داعش. ولي من اصدقاء والمعارف كانوا في كنيسة النجاة وكنيسة الرسولين بطرس وبولس في الدورة من الذين ماتوا فيها او من افراد عائلاتهم او من جرح جروح طفيفة او جسيمة. ولنكن واقعيين بخصوص ان كنت ابا او اما ومعك اطفالك فمواجهة الموت والجثث والاطراف المقطعة والانفجارات والارض المصبوغة بالدم وخاصة في الكنائس ليست كمن يشاهد افلام العنف والاثارة وتأثيرها النفسي يتراوح بشدته باختلاف الشخصيات ويمكن ان تسأل الاطباء النفسين وتقرأ البحوث من اثر الحروب على الجنود بالحرب فكيف بنفسيات المدنيين واطفالهم وحرب الشوارع والمفخخات. كيف للانسان ان يسهم في مجتمعه وبلده الام والحرب دائمة؟
--فترة الحرب الاهلية بين القوى السنية والشيعية بعد 2003 بسبب تفجير مراقد وجوامع من الطرفين والتهاب المشاعر الدينية قبل وجود داعش في العراق وتبادل الهاونات والمواجهات المسلحة في المناطق السكنية والسبب هو المراقد الدينية. تم تفجير كنائسنا وكنا مسالمين ولم نخرج بقاذفاتنا ورشاشاتنا نطلب الانتقام فكيف العيش مستمرين بمنطق (تتفجر كنيستك سامح وعيش انتوا مسيحين دائما خوش اوادم .. يتفجر مرقد احرك الدنيا وما بيها) فالطبقة المثقفة العلمانية في العراق هي الوحيدة التي تتعاطف معنا نسبيا والباقي من الطبقات يظهر معدنه حسب الظرف فيوم نحن احبة واخر فيه نحن "ضيوف عليهم" في بلدنا الام.
--الطبيعة العشائرية و الفصل العشائري بعد 2003 وضمور سلطة الدولة لحماية المسيحيين. ومن الحالات الفردية منها الاطباء الجراحين والذين تم تهديدهم بالفصل العشائري بالقتل بسبب عدم نجاح جراحة القلب او الدماغ لأحد المنتمين من العشائر واعتباره قاتل لأبن عشيرتهم, ومن اعرفه من الكادحين من امتنا يسوق سيارته وصدم احدهم من المشاة في شوارع بغداد وتجربته شبيهة بالطبيب والدولة تتفرج. ارجو ان لا ننسى ان العراق ما زال يعاني من شيزوفرينيا البداوة والتمدن ونحن بين المطرقة والسندان. القانون العشائري ليس من قصص الخيال العلمي والعشيرة لها وما عليها قبل وبعد زمن حكم البعث ونحن عشائرنا ليست بالمنافس الند للعشائر المتعدية والخارجة عن القانون.
--قائمة الاغتيالات التي استهدفت العقول النيرة مثل حضرتكم استاذي العزيز والاساتذة الجامعيين ان كانت مؤامرة لتهجير زملائهم وتخويف الشعب او لأسباب غامضة لا يعرفها الا من يقوم بالاغتيالات.
--زمن حكم البعث وصدام حسين. عمل صدام والبعث الخير والشر في العراق فمن شجع محو الامية وزيادة نفوذ الطبقة المثقفة العلمانية ومن بنى الطرق والجسور والجامعات والمعاهد والمؤسسات المدنية وان كانت من ارث من سبقه من الانظمة التي سبقته واكملها، ولكن لنكن واضحين ان صدام كان له دين وهو دين الانا الصدامية فيه كل من عارضه اعدم وسجن وكل من مشى جنب الحائط سلم من بطشه، وهذا لا يدل على عدم وجود تمييز قومي او ديني فالقومية والدين الرسمي كانت (الانا الصدامية)، وليس معنى عدم تعرضك لتمييز لعدم كونك بعثي معناه غيرك لم يعاني من هذه المشكلة استاذي العزيز, فكم شخص دخل السجن او ذهب الى الامن ولم يرجع من وراء نكتة وتجاوز على الذات الصدامية او كان منتميا للاحزاب الاشورية الممنوعة انذاك او بلغ عنه بتقرير بانه يشتم القائد الضرورة والحزب او لعدم انضمامه للجيش الشعبي.
فمن صدام والانا الصدامية الى اسوأ الان, فان انتقدت صدام اعدمك و الآن ان انتقدت ممارسات المرجعيات الدينية السياسية الآن تم اصدار فتوى بك بتهمة اهانه الذات المقدسة او اهانة الاسلام نفسه وان مشيت جنب الحائط كنت محميا من الاذى استاذي الكريم.
من الممكن ان تجربتنا مع صدام لم تكن ببشاعة تفجير الكنائس ربما لأننا كنا وما زلنا الاقوام المسالمة المحبة للغير لا اكثر ولا اقل وبهذا لا يتوقع اي انقلاب من طرفنا كغيره من المنافسين والمعارضين له. واذكر من امثلة التمييز التي عشناها في العراق بزمن صدام في فترة من فتراته منع فيها تسمية الاطفال المولودين بأسماء غير عربية في الاوراق الرسمية او ان تذكر قوميتك بصراحة فهي اما عربي او كردي واعتبرنا من المسيحيين العرب العراقيين, أليس هذا تمييز لغوي قومي صريح؟؟ وماذا عن الذين اخرجوا من الوظيفة لكونهم "تبعية" الم يكن هذا تمييزا؟
--زمن الحرب الايرانية. اما ان تلتحق بالجيش وترسل للجبهة وتكون محظوظا وتقضي وقتك طباخا او مضمدا اوميكانيكي للمعدات العسكرية او مغضوبا عليك فتوضع في القوات الضاربة الامامية مشاة او دبابات وامامك عدو دولتك يقتلك او تقتله وورائك فرق الاعدامات بجيش صدام تعدم كل جندي ما ان رجع هاربا من خطوط المواجهة, وهذا ما عانى من من وصل عمر الثامنة عشرة سنة ولم يلتحق بالتعليم العالي. فلك ان تعرف العديد الذي التحق وضاعت من عمره ثمانية سنين ان عاد من الجبهة او الذين لا يزالون مفقودين لا يعرف اهاليهم مصيرهم، او من الذين هربوا من الجيش ووضعوا اهاليهم بموقف لا يحسد عليه من مسائلة نظام صدام لهم (وين ابنكم؟) ان لم يتطور لأكثر من مسائلة ونقطة سوداء في ملفه وملف عائلته بالمخابرات والامن. وحتى من تخرج من تعليمه العالي لم يسلم لوجوب خدمته العسكرية لكن بفترة اقصر بحسب شهادته الماجستير او الدكتوراه وحضرتك تندرج في هذه الفئة من الحاصلين للشهادات العليا.
--الاسلام بشقيه السني والشيعي. اي انتقاد للاسلام من غير المسلمين معروفة نتيجته للقارئ الكريم ولا داعي نجمل الواقع بالدفاع عن الاسلام كدين وقابلية المسلمين لتقبل النقد او واذكركم بكاريكاتير محمد في اوروبا والعالم وفتوى المطالبة بهدر دم الكاتب سلمان رشدي بسبب كتاب ولكم ان تروا كمية الكتب النقدية للدين الاسلامي بشقيه وندرتها ان لم تكن ممنوعة اساسا في البلدان الاسلامية وكون علم العراق لا زال يحمل عبارة الله اكبر حتى بعد تغييره لا يدفعني للتفكير بأن العراق متجه الى ان يكون علمانيا او تطبيق مقولة (الدين للفرد والوطن للجميع).
نعم هنالك الطبقة المسلمة العلمانية وعندها الدين تأمل واخلاق وبيوت العبادة ولا يفرضون دينهم بل يحترمون الغير لأنهم "تربوا" على ذلك, وهنا اؤكد انهم "تربوا" على التقبل بناءا على من يحكمهم وتعليمهم فتارة يأتي نظام مدني يدفعهم للمدنية وتعليم عالي ومحو امية يتعلمون به ثقافات الاخر متقبلين لهم, وتارة اخرى نظام ديني وتدهور علمي ثقافي يتعلمون منه التحزب والطائفية. ويأتي هذا كله في اصل وجود ايات قرآنية تدعو انه (لا اكراه في الدين) تارة وآيات اخرى من نفس الكتاب تدعو به (لقتل الكفار واخذ الجزية منهم) تارة اخرى, فالقرآن لا احد ينتقد تناقضه بخصوص "اهل الكتاب" او "الكفار" وانتقائيته التعامل معنا في العراق دون عواقب جسيمة. انا اعرف ان الاسلام والمسلمين ليسوا وجهان لعملة واحدة ويجب التأكيد على ذلك فالاسلام فلسفة واما المسلمين اناس مثلنا مؤمنين بدين ابائهم واجدادهم ولكن الى متى نكذب على ارواحنا مدعين ان اغلبية العراقيين المسلمين ملائكة ان وضعت دينهم على كفة ونحن كبشر على كفة اخرى فيختارونا بدون تردد ويعلنون على الملأ دستوريا وقانونيا ان القرآن ليس مناسبا للعلمانية بدون تنقيح. يا ريتهم غيروا عبارة الله اكبر واستبدلوها ب(لا تفرقة في الدين) او (الدين للفرد والوطن للجميع) لطمأنة القلوب بخصوص مستقبل البلد.
انا لا اختلف معك في ان الهجرة نتيجتها انقراضنا في (العراق) ولكن اسأل هل مصيرنا ان كلنا بقينا هو نفس مصير السكان الاصليين للارض في امريكا فهم يتواجدون اليوم باعداد قليلة لا حول ولا قوة فقط في محمياتهم او "اقاليم" والاسوأ من ذلك انه كانوا من الاقوام المدافعة الذين قاوموا القوة المتعدية بالسلاح وبدون دعم خارجي فكيف بحالنا ونحن من الاقوام المسالمة جدا جدا جدا حتى بعد تفجير "مراقدنا" وتدمير اثارنا الممثلة لجزء كبير من تاريخنا. وهنا اقرأ المستقبل متشائما كون العراق محصورا بين السعودية مدعوما بامريكا وبايران مدعومة بروسيا والتاريخ يعيد نفسه لكوننا حجر من احجار الشطرنج الذي يستخدم للتضحية به وبحقوقه اولا في المفاوضات الدولية متى ما قررت الدول الكبرى ذلك فتراها راعية لانشاء الاقاليم والمحافظات والدول يوما وتتحجج نفس الدول الكبرى بضخامة اجهزتها العسكرية والاستخبارية بانها لم تتوقع دخول داعش للعراق ووجوده اصلا؟؟ فلا اريد ان اسمع خبر مذبحة اخرى ضحيتها ابناء امتي بالمستقبل يكون حصارهم كما حصل بالموصل وسكانها وبالايزيديين لكوننا اقلية محاصرين جغرافيا لا حول لنا ولا قوة (لا سلاح او ميليشيا قوية) بأقوام ليست مهتمة بنا الا لاغراضها الاستراتيجية او انها تريد ابادتنا وجوديا او ثقافيا وتتظاهر بغير ذلك.
انا لا اختلف معك في ان الهجرة نتيجتها انقراضنا في (العراق) ولكن لك ان ترى في كل بلد تم الهجرة اليه فيه كنيسة من كنائسنا ومركزا ثقافيا كالنادي الثقافي في العراق وان لم يكن بحجم نشاطاته. ليس معنى ان تخرج من البلد الام معناه الموت المفاجئ للثقافة والعادات والتقاليد متى ما هاجرت وعبرت حدود العراق بالرغم ان هناك من يحافظ عليها بالمهجر, بل ان المذابح والحروب وضعف القانون المدني وقلة الثقافة وقلة التعليم والجهل والفقر هي من تفعل ذلك.
يجب ان لا ننسى ان من هاجر من العراق بكل اسبابه ان كانت (موضة وهوس بالسفر) او من الاسباب التي انا ذكرتها سابقا, لم يهاجر الى السعودية او ايران او ليبيا او كازاخستان او افغانستان او دول العالم الثالث فيها القانون والدستوربحسب المزاج ,بل الى بريطانيا وامريكا وكندا واستراليا والمانيا والسويد وغيرها من دول العالم الاول التي بفقرها وثروتها على الاقل فيها القانون المحلي الداخلي الخاص بسكانهم يطبق ويحترم وفيها التعليم مصنف عالميا مجانيا كان او الغير مجاني, فكيف تتوقع ان يكون حال الفرد من امتي العزيزة في هذه الدول؟ هل سمعت يوما بهجرة سكان (شيكاغو وكاليفورنيا واريزونا في امريكا) الى (المكسيك) نتيجة للحرب الدائرة بين (امريكا وكندا) لسنوات طوال؟ هل سمعت يوما عن فرار عائلاتنا في (سدني ,استراليا) متجهين الى (ملبورن) نتيجة لسياسات السنة المتشددة في (سدني) ولكون شيعة واكراد (ملبورن) خوش اوادم من اصحاب المظلومية مثلنا ولايطلبون منك اي شئ عدا الكفيل للدخول؟
ليست الغربة سهلة اطلاقا ولم تكن يوما ما ذلك ودول المهجر ليست جنة الله على الارض ولا هي الارض الفاضلة الكاملة الاوصاف كما يصفها البعض ولكن أليست هذه الدول على الاقل وسيلة لأخذ الخبرات العلمية والتكنولوجية والثقافية والمهنية والاقتصادية والقانونية المفتقدة اليوم في (العراق) التي يمكن في يوم من الايام ان نفاوض بها العراق والدول الكبرى ان كانت لدينا (خطة واضحة ومفصلة) في بقائنا كقومية وجزء من وطن كما تفضلت سابقا او اقامة اقليم داخل العراق او خارجه؟ وانت ادرى الآن بالنظام التعليمي في العراق وتدهوره ونتيجة ذلك على امتنا نظرا لكونك من الاجيال التي تلقت تعليمها في فترة كان التعليم في العراق في اعلى مستوياته بكافة المجالات. فان امكن ذلك لهذا الجيل ذلك لحمايتهم من الجهل واثاره الرجعية, لماذا نمتنع مغلقين اعيننا واذاننا عن الواقع المرير, فالمعرفة قوة والجهل ظلام ,فسهل للغير التلاعب بعقول الجهلاء وسذاجتهم وتقسيمهم وما ان تتعلم شيئا لا يمكن لأحد ان يسلبك العلم والمعرفة فلماذا يحرم ابناء امتي من ذلك. لنكن واقعيين، ان تطوير طاقاتنا البشرية المثقفة الجبارة كما كانت ليست ممكنة بالتعليم المتدهور حاليا في (العراق).
احترامي لك استاذ خوشابا سولاقا وللقارئين الكرام.