[size=12pt]الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان
مُسَلسَلٌ بحلقاتٍ مُستلة مِن كتابي ( الكلدان والآشوريون عِبر القرون ) المُرتقَب صدورُه مطلع العام القادم بعون الله
الحلقة الثالثة
بروز العهد الإمبراطوري الكلداني
بعد تَوسُّع شهرة الملك آشور بانيبال ( 668 - 627 ق . م ) وامتِدادِ سُلطتِه الى آفاقٍ لم يحلم بها أسلافُه ، تَمَلكَتهُ الكبرياءُ الى أقصى مَدياتِها ، ونتيجة لذلك تغَيَّرَت نظرتُه نحو أخيه شمش-شم-اوكن المالك على بابل، وتَحَوَّلَت مُعاملتُه له مِن أخ الى تابع ، فثَقُلَ الأمرُ على شمش-شم-اوكن كثيراً ، ولشعوره بخطر أخيه آشور المُبيَّت ضِدَّه تَحَرَّكَ لتدارُكِ الموقف فبدأ بعقد تحالفاتٍ مع العيلاميين ولَبَّت نِداءَه قبائلُ آرام الكلدانية ، وأعلن الإستقلال عن دولة آشور عام 652 ق . م عاقداً العزمَ على الدفاع عن الدولة البابلية المُستقلة . لكن آشور بانيبال فقد اعتبر ما قام به أخوه شمش-شم-اوكن تَمَرُّداً ، فجَرَّدَ حملة عسكرية ضِدَّه وأحكم حصاراً مُدَمِّراً على بابل . لقد كان لهذا التَمَرُّد وما أعقبه مِن قتال ودمار وللحملات العسكرية السابقة التي قادها سركون الثاني (عام 707 ق . م ) ونجلُه سنحاريب ( عام 691 ق . م ) ضِدَّ بابل وكافة الممالك الكلدانية ، تداعيات ونتائج بالغة الخطورة جَلَبَت الوبال على الأطماع الآشورية وأفقدَتها طموحاتها في الدولة البابلية التي تَعَرَّضت بُنيتُها التحتية لأَفدَح الأضرار .
كان الملك شلمنصَّر الثالث ( 858 - 824 ق . م ) أحكم الملوك الآشوريين مِن حيث موقفه مِن المملكة البابلية ، حيث أبرمَ عام 851 ق . م مع الملك البابلي مردوخ ذاكر شمي مِن السُلالة البابلية الثامنة إتفاقية وُدٍّ وصداقة ، بينما الملوك الآشوريون الآخرون ولاسيما ملوك السُلالة السركَونية 721 - 627 ق . م لم يكن سلوكُهم حِيال فّضِّ مشاكلهم مع دولة بابل والممالك الكلدانية الاخرى وُدِّياً بل كان تعامُلُهم معها إستعلائياً يَغلُبُ عليه الطابع العسكري العنيف ، وهو ما خَلَقَ انطباعاً سَيِّئاً وشعوراً بالسُخط والتَذَمُّر لدى الشعب البابلي والكلداني معاً ضِدَّ الدولة الآشورية ، وهذا كان سبباً لعدم ثَبات سيطرة الآشوريين بصورة مُستديمة لإفتقارهم الى قاعدة شعبية في الداخل تُدافع عن وجودِهم ، فكانت سيطرتُهم مُتقَطِّعة ، ولذلك بعد أندحار الملك شمش-شم-اوكن أمام أخيه الملك آشور بانيبال ، وقيام الأخير بوضع يَديه بيدي بيل (الإله مردوخ ) تنفيذاً للتقليد المُتَّبَع لإمكانية اعتلاء عرش بابل ، فأصبح ملكاً على بابل ، وقبل مغادرته بابل عام 648 ق . م قام بتولية أحدِ قادة جيشه مُمَثِّلاً له كحاكم على بابل إسمُه شمش دناني ، ولكن سُرعان ما أطاحَ به زعيمٌ كلداني يُدعى ( كندلانو Kandalano ) بحركةٍ عسكريةٍ سريعة وناجحة ، وفرضَ سيطرتَه التامة على كُلِّ أنحاء البلاد ، بيدَ أن الامور في أواخر عهدِه مالت الى الإضطراب مِما ساعد آشور بانيبال على استعادة بابل ثانيةً وتنصيب إبنه ( سِن شار أشكون Sin Shar Ashkon ) حاكماً عليها ، باستثناء الاقليم الجنوبي لبابل الذي استمَرَّ تحت سيطرة كندلانو .
كان النصفُ الأول من عهدِ آشور بانيبال مليئاً بالأحداث وكانت مُعظم نتائِجها لصالحِهِ ، أما نصفُهُ الثاني فقد شَهِدَ اضطراباتٍ إلاَّ أن نطاقَها لم يتَّضِح إلاَّ بعد موتِهِ عام 627 ق . م ، حيث اشتدَّ الصِراع بين أبنائه ، واستطاعَ إبنُهُ ( آشور أتِلُ ايلاني ) الاستيلاء على العرش عام 626 ق . م ، وفي عام 623 ق . م إغتصبَ العرشَ ( سِن شَمُ ليشير ) لبضعة أشهر ثمَّ استعادَهُ ( سِن شَر أشكِن 623 - 612 ق . م ) شقيقُ ( آشور أتِلُ ايلاني) وعلى عهدِهِ سَقَطَت نينوى عام 612 ق . م بعد موت آشور بانيبال تمكَّنَ حاكمُ القطر البحري( نبوبلاصَّر ) حفيدُ نبوخذنصَّر الأول وابن الملك( بيل ابني ) الذي أقامه الملك سنحاريب ملكاً على بابل عام 702 - 700 ق . م من الزحف على رأس جيش نحو بابل قادماً مِن مدينة الوركاء ( اوروك ) ودخلها مُظفراً بالنصر في شهر تشرين الثاني مِن عام 626 ق . م وفرض حُكمَهِ على بابل ومنطقة الجنوب بأكملها ، مُعلناً أنه الملكُ الكلداني الشرعي لعموم الاقليم البابلي بعد أن قام بتوحيد القبائل الكلدانية ومُدِنهِم تحت الراية والهوَّية الكلدانية الواحدة ، سَطَعَ نجمُهُ إثْرَ تَصفيتِهِ للوجود العسكري الآشوري ، وباشرَ بتوسيع رقعة مملكتِهِ في الجِهات الشرقية والغربية والشمالية مُستغلاً ما آلت إليه الدولةُ الآشورية من الضعف والتراجع والانحسار ، وهكذا على يَدَي نبوبلاصَّر إبتدأَ عصرُ الإمبراطورية الكلدانية ودام ( 87 عاماً ) بدءاً مِن ( 626 - 539 ق . م ) تعاقب على الحُكم خلال هذه الفترة ستة ملوك . ومن أهمِّ العوامل التي ساهمَت في سقوط الدولة الآشورية ، هو وَلَعُ الملوك الآشوريين المُفرط في الاستيلاء على بلدان الشعوب الاخرى ونهبِ خيراتها واستغلال كفآت أبنائها وفي الغالب تدمير حضاراتها العمرانية ممّا جَلَبَ عليهم الاستياء والتذمُّر .
الملك نبوبلاصَّر Nabopolassar
( 626 - 605 ق . م ) مؤَسِّس الإمبؤاطورية الكلدانية .
الابنُ الكلداني البار نبوبولاصِّر هو إبنُ الملك ( بيل ابني ) الذي تسنَّمَ عرش بابل عام 702 - 700 ق . م في عهدِ الملك الآشوري سنحاريب ، فهو إذاً أحد أحفادِ الملكِ الكلداني الثائر ( مردوخ بلادان ) كان حاكماً على القطر البحري على عهد حفيد سنحاريب (الملك آشور بانيبال ) ، وكان يتحيّنُ الوقت المناسب ليستعيد عرش بابل من مُغتصبيه الآشوريين ، فبعد موت آشور بانيبال عام 627 ق . م تفاقمَ تدهورُ الأوضاع في الدولة الآشورية عمّا آلت إليه في أواخر فترة حُكمِهِ ، فانتهزَ الفرصة نبوبيلاصَّر وأعلن الاستقلالَ عن الدولة الآشورية واعتلى العرشَ البابلي عام 626 ق . م ، مؤسِّساً سُلالة بابل الحادية عشر الدولة الكلدانية أو البابلية الحديثة ثمَّ الامبراطورية الكلدانية أو الامبراطورية البابلية الحديثة . قامَ بتصفية الوجود العسكري الآشوري من المناطق البابلية ، وفَرَضَ حُكمَهُ على الجنوب بأكملِهِ بتوحيدِهِ القبائل الكلدانية تحت الهويَّة الكلدانية الواحدة ، مُلغياً بذلك نظامَ القبائل والبيوتات المتعدِّدة ، ثمَّ بدأ بضمِّ مناطق واسعة الى مساحة مملكَتِهِ من الشمال والشرق والغرب ، وبعد قضائه بالتعاون مع حليفه الملك الميدي كي اخسار على الدولة الآشورية ما بين عامي 612 - 609 ق . م أصبحَ اقليم آشور وكافة المناطق التابعة له حتى حدود آسيا الصغرى اليوم بما في ذلك آشور ونينوى وأربيل ( حدياب ) كما أفادَت المصادر التاريخية < مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / طه باقر ص. 548 - عظمة بابل / هاري ساكز ص. 170 - 171 - تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين / الجزء الأول / فيليب حتي ص. 155 - 156 - انتصار الحضارة / جيمس هنري ترجمة أحمد فخري ص. 231 وهنالك مصادر اخرى كثيرة > ضمنَ مساحة الدولة البابلية الكلدانية بالاضافة الى بلاد الشام وفلسطين ولبنان وشبه الجزيرة ، حيث احترم الميديون مضمونَ المعاهدة المعقودة بينهم وبين الكلدان ، واكتفوا بما استولوا عليه من الغنائم الهائلة التي حصلوا عليها من العواصم الآشورية ، واحتفظوا بالاقاليم الشمالية والشمالية الشرقية لنينوي التي كانوا قد استولوا عليها قبل عقد المعاهدة ، حيث كانوا قد احتلوا كركوك عام 615 ق . م وفي عام 614 ق . م إستولوا على مدينة ( طربيسي Tarbissi ) الواقعة شمال العاصمة نينوى ( شريف خان حالياً ) ثمَّ أغاروا على مدينة ( كالح Kalah ) ( نمرود الحالية ) وتلتها مدينة ( آشور Ashur ) ، وكان كُلُّ ذلك يجري وفق الخطة المُتفق عليها بينهم وبين الكلدانيين ، ولكن الميديين لم يحتفظوا بهذه المناطق الجبلية ( كُردستان الحالية ) إلا فترة غير محدودة المدة ، ثمَّ تركوها بأكملها للكلدان عائدين الى أماكنهم الأصلية ، ومنذ ذلك ظهر التواجد الكُردي في شمال العراق وهذا ما يؤَكِّد بأن اصول الأكراد هي ميدية ، وهكذا انضمت تلك الأقاليم الي الأقاليم الغربية فخضعت بمجموعِها لسُلطة الدولة الكلدانية وبخاصةٍ العواصم الثلاث الادارية والدينية والعسكرية التي شَغِلَها أبناء الكلدان وأحفادُهُم منذ ذلك الزمان وحتى اليوم .
الملك نبوخَنصَّر الثاني Nebuchadnezzar II
( 605 - 563 ق . م ) أعظم ملكٍ كلداني !
لُقِّبَ الملك نبوخُذنصَّر بالثاني تمييزاً له عن الملك ( نبوخُذنصَّر الاول 1125 - 1104 ق . م ) ملك سُلالة بابل الرابعة الذي طَهَّرَ أرض وادي الرافدَين من العيلاميين الذين كانوا قد دخلوا مدينة بابل غفلةً ، وعَمِلوا فيها نَهباً ، ثمَّ سرقوا تمثال بيل ونقلوه الى اقليم نابار الكلداني الواقع تحت سيطرتِهم . وُصفَ نبوخَذنَصَّر الثاني بالملك المقدام ونابغة الزمان ، فخر البابليين والأعظم بين ملوكِ الكلدان ، الفاتح الكبير ومُوَحِّد الشرق القديم . و قد دعاه الربُّ القدوس في سِفر إرميا ( نبوخَذنَصَّر ، ملك بابل ، عبدي ) < أنا صَنَعتُ الأرضَ والبشرَ والبهائم التي على وجه الأرض ، بقوَّتي العظيمة و بِذراعَيَّ المبسوطة ، وأعطيتُها لِمَن حَسُنَ في عَنَيَّ . والآنَ قد أسلَمتُ أنا جميعَ هذه الأراضي الى يدِ نبوكَد نَصَّر ملكِ بابل ، عبدي وأعطيتُه أيضاً وحوشَ الحقل لِتَخدِمَه . . . إرميا 27 / 5 - 6 > .
يُفيد المؤرخ يوسيفوس : بينما كان نبوخَنَصَّر يواصل حملتَه ضِدَّ فلسطين ومصر ، وما إن أشرفَ على دِلتا نهر النيل حتى أُبلِغَ بأن والده قد دَخَلَ في مَرحلة الإحتضار ، فأناطَ قيادة الجيش بالمُقَرَّبين إليه وعاد الى بابل بصحبة حرسه الخاص ، ترأسَ مراسيم دفن والده الى جانب شقيقه نابو شِم ليشير ، وبعدها مباشرةً نوديَ به ملكاً على بابل ، وفي الآول مِن نيسان عام 604 ق . م رأس السنة الكلدانية البابلية / أكيتو ، أمسك بيد بيل ( تمثال الإله مردوخ ) مؤَدياً الطقس المُتَّبَع في اعتلاء العرش البابلي ، وكانت تلك سنة بداية حُكمه الملكي الرسمي .
عظمة نبوخَنَصَّر
يقول المؤرخ والآثاري نيكولاس بوستكَيت إن عَظمَة نبوخُذنصَّر وشُهرتَه التي طَبَّقت الآفاق لم توصِلْه إليها ، إنجازاتُه العسكرية الباهرة التي لم تَقِلَّ عن إنجازات أعظم الملوك الأكديين والآشوريين إن لم تَبُزَّها فَحسب ، بل ما أسبغه من المَجدِ الى بابل عاصمتِه وعاصمةِ حمورابي من قبله ، التي تعرَّضت للتدمير مرَّتَين على أيدي سنحاريب وحفيدِه آشور بانيبال ، فكانت أبنيتُها بحاجة الى ترميم وتجديد ، وقد بدأ العملَ بذلك مؤسِّسُ الدولة البابلية الحديثة الملك نبوبيلاصَّر ، بيدَ أن انشغالَه الكبير في تقوية دعائم مملكتِه لم يترك له فراغاً من الوقتِ لتكريسِه لِما كان يطمَحُ إليه من مشاريع عُمرانية كبيرة ، إلاَّ أن تلكَ المُخطَّطات التي كان يصبو الى تحقيقِها قامَ بتنفيذِها بشكل مُتطوِّر وحديث إبنُه الملك العظيم نبوخُذنصَّر الثاني ، الذي سخَّرَ لهذا العمَل الجبّار كُلَّ قابليات ومَهارات الأسرى الذين جَلَبَهم من مُختَلَف البُلدان فكان بينهم السوريون واليهود والمصريون والعرب وغيرُهُم ، فغَدَت بابلُ على عهدِه أجمَلَ وأعظمَ مدن العالَم القديم ، حيث كانت تنتصب بأُبَّهةٍ لا نظير لها زَقُّورةُ الاله ( بيل ) على شكل بُرجٍ عظيم مُكوَّنٍ من سبعة طوابق ، وكُلُّ طابق مُخَصَّصٌ لأحَدِ الآلهة السبعة ومَطلِيٍّ بلون مُختلف ، فالطابق الأسفل أو الأول كان مَطلياً باللونِ الأسود والثاني بالأبيض والثالث بلون القُرمز والرابع بالأزرق والخامس بالأحمر والسادس باللون الفضِّي والسابع باللون الذهبي وعلى سَطحِه يترَبَّعُ تِمثال الاله ( بيل) ا لمنحوت من الذهب الخالص والبالغ ارتفاعُه عشرين قَدَماً ، تقبَعُ الى جانبِه مائدةٌ مصنوعة من الذهب الخالص أيضاً . كانت هذه الزَقّورة بِحسبِ ما ذكره المؤرخ يوسيفوس مُشيَّدةً من قبل الملك الكلداني الأول ( نمرود الجبار ) وهي البُرج الذي ورد ذِكرُه في سِفر التكوين - الفصل الحادي عشر . وبحَسَبِ المؤرخ < فريتز كريشن > ان المعلومات عن بُرج بابل أُستُقِيَت عن وَصفٍ أفردَهُ له المؤرخ هيرودتس ، وعن نَصٍّ مسماري لكاتبٍ بابلي يُدعى < أنو بيل شونو> وكتاب التوراة ، أما الغَرَض الذي من أجلِه شُيِّدَ البُرج فكان لتقديم فروض العبادة للإِله مردوخ الذي جُعِلَ موطِئاً لقَدَمَيه وفقَ ما دَوَّنَه نبوخُذنصَّر في اسطوانتِه التي نقتبس بعضَ المُفردات الواردة فيها :
أنا نبوخُذنصَّر ملكُ بابل ، إبن الملك نبوبيلاصَّر البِكر ، الحاكم الكبير المُختار من قبل الإِله ( مَردوخ ) الحاكم الأكبر ، المحبوب من قبل إِله الكتابة والمعرفة ( نابو) ، الباحث عن الحياة المُرفَّهة ، مُجزِل الهدايا لإيساكلا والمُهتَم بامورها ، الشامِخ الرأس بفضل ( مَردوخ ) الذي سَلَّطَني على الأقاليم النائية ، المُتَرَدِّد الدائم على معابد إبنِ ( مردوخ) نابو وريثِه الشرعي ، والدي نبوبيلاصَّر ملك بابل نَظَّفَ موقع البُرج ( زَقّورة بابل ) ووضع حَجَر الأساس ، أقامَ جُدرانَه الخارجية على ارتفاع 30 ذِراع ، طلبتُ من جميع سُكّان الأقطار القريبة والقصيّة التي أولاني حُكمَها سيدي ( مردوخ ) ليُساهِموا بالبناء ، فجلبوا خشب الارز والصنوبر ، أقَمتُ لسيدي ( مردوخ) صَرحاً عالياً على هيئة مَعبَدٍ للآلهة أجمل ممّا كان عليه في الماضي . . . !
بالرغم من اعتراف العالَم القديم بأسره منذ بداية حُكم الملك العظيم حمورابي ، بأن بابل كانت المدينة الرئيسة الاولى في الجنوب ، وأن شُهرةَ عرشِها الملكي كان ذا سُمعةٍ عظيمة ، ولكن ما شيَّدَه الملك نبوخَذنصَّر الثاني من المعابد والقصور والمباني ، جَعلَها أعظمَ مدينةٍ عَرفَها العالَم آنَذاك ، ويقول الآثاري بوتسكَيت ان الواقع الذي دَلَّت عليه تنقيبات < كولد فاي> لا يُعطي مُبَرِّراً لإعتِزاز نبوخَذنصَّر بِسردِه الشيِّق لتفاصيل سير العمل وتقدُّمِه في تجديد عاصمته الجديدة بابل فَحَسبْ ، بل بالشُهرة التي أحرزَتها في عهدِه بين مُعاصريه ، حيث يَصِفُها المؤرخ هيرودتس وَصفاً مُسهَباً ورائعاً يمتاز بِدِقَّةٍ متناهية .
إمتَدَّ حُكم هذا الملك العظيم (43 عاماً ) استطاع خلالها وباقتدار كبير أن يُوَطدَ أركانَ الإمبراطورية الكلدانية في الداخل والخارج ويفرضَ هيبتَها الى جانبِ نشر الثقافة البابلية في كُلِّ صقع مِن أصقاع الإمبراطورية الواسعة الأرجاء ، حيث خضعت لحُكمها كافة ممالك ودويلات الشرق الأوسط ، ومِن حملاتِه العسكرية الشهيرة تلك التي جَرَّدَها على اورشليم والتي تَمَّ فيها أسرُ الآلاف مِن نُبلاء اليهود وأشرافهم وجلبُهم الى بابل ، كان شغوفا بالنَمط الهندسي المُمَيَّز في الأعمار والبناء ، وقد تجلّى ذلك في تشييدِه القصورَ الفخمة والأسوارَ العظيمة والجنائنَ المُعلَّقة التي أمر ببنائها نزولاً عند رغبة زوجتِه الأميرة الميدية ( أميتس ) حفيدة الملك الميدي كي أخسار ، وقد عُدَّت إحدى عجائب العالَم القديم السبع .
الملك إميل مردوخ E mel Mardukh
( 563 - 560 ق . م )
تُوفيَ نبوخَذنصَّر الثاني عام 562 ق . م بعد أن حَكَمَ ( 43 ) سنة وخَلِفَه إبنُه آميل مردوخ أو كما تُسميه التوراة ايل مردوخ ، تمَّ اغتيالُه عام 560 ق . م بانقلابٍ دَبَّرَه ضِدَّه كَهنةُ المعبد بالاتفاق مع زوج شقيقته الصغرى ( كاشا ) بسبب نظرته الى الديانة اليهودية بأنها الأسمى بين الديانات الاخرى ، ولكونه متسامحاً مع يهود السبي ، و اصداره عفواً عن يوياكين ملكهم الأسير ومنحِه شرف المشاركة بتناول الطعام على المائدة الملكية .
الملك نركَال شَر اوصَرNergal Shar Osser
( 560 - 556 ق . م )
توَلّى الحُكم في السنة نفسِها ( نركال شَر اوصر) أو نركلصَّر زوج ( كاشا ) ولم يَدُم حُكمُه إلا بضعة سنين وقد اكتنف الغموضُ موتَه ، ولم يستطع إبنُه لاباشي مردوخ تَسَلُّمَ العرش لصغر سنِّه وعجزه ، حيث تَمّّت إزاحتُه بعد بضعة أشهر من وفاة والده من قبل كهنة معبد الاله مردوخ .
الملك لاباشي مردوخ Labashi Mardukh
( بضعة أشهر مِن عام 556 ق . م )
كان صغير السن عند موت والده الذي إكتنفه الغموض ، حَرمه مِن تولي العرش كهنة المَعبد بحجة صغر سنه وعدم صلاحيته ، وسَلَّموا مقاليد الحكم بحَسَبِ قول الآثاري والمؤرخ نيكولاس بوستكيت الى نبيل وسياسي كبير يُدعى نبونئيد أو ( نبونيدس ) .
الشماس كوركيس مردو
الملك نبونَئيد ( نبونيدس ) Nabonid
( 556 - 539 ق . م ) وسقوط المملكة الكلدانية ( الامبرطورية البابلية الحديثة .)
كان نبونَئيد كَهْلاً ويُرجِّح الكثيرُ من المؤرخين كونَه متزَوِّجاً من إبنة نبوخَذنصَّر الكبرى ، وهذا ما جعله أهلاً لتسَنُّمِ عرش بابل ، كان من مواليد مدينة حرّان الواقعة على نهر البالخ أحد فروع نهر الفرات ، لوالدين ( نبوبيلاصو أقبي) و( أدد قبي ) ويذكرها المؤرخ هيرودتس باسم (نيتوكرس) تنتمي بنسبِها الى العائلة السركونية الحاكمة في آشور ، شديدة التَدَيُّن منذ حداثتِها وتقَلَّدَت رُتبة الكاهنة الكُبرى في معبد ( سين ) إله القمر ، طَغى تأثيرُها على حياة نبونَئيد ، أما والدُه فكان نبيلاً كلدانياً وتُشير بعض النصوص المسمارية الى كونِه حاكم حرّان المحلي ، ويقول آخرون بأنه كان ( رب ماك ) رئيس الكهنة ، وبعضُهم يؤَكِّد بأنه شقيق لاباشي مَردوخ الذي اغتاله رجال الدين اغتيالاً وليس تنحيةً بحجة صغر السن وعدم الكفاءة ، ومهما كانت التكَهنات فإنه قد تولّى العرش البابلي .
في البيئَةِ التي أشرنا إليها شَبَّ نبونَئيد مستقيماً لتأثُّره بمحبة إِله القمر( سين) والدِ إِله العدلِ والقانون ( شمش ) و الذي كانت والدتُه الكاهنة الاولى لمَعبَدِه ، اختاره الملك نبوخَذنصَّر عضواً في مجلس الحُكم وحازَ على مكانةٍ مُقَرَّبَةٍ منه ، أدَّت الى تزويجِه من كُبرى بناتِه فارتبطَ بالعائلة الملكية بقَرابةٍ دموية ، وبذلك أصبحَ ذا حضور بارز يؤخّذُ برأيِه ويُعَوَّلُ على حُكمِه ، وما يؤَكِّدُ ذلك إنتِدابُه من قبل الملك نبوخَذنصَّر سنة 585 ق . م ، للتفاوض نيابةً عنه لإِرساءِ دعائم السلام بين مملكتي ميديا وليديا اللتين تفاقَمَ الخِلافُ بينهما مُنذِراً بقيام حَربٍ ضَروس بين الجانبين تَجلبُ الفوضى والضرر الى المنطقة بأسرها ، فكان مُوَفقّاً في إحلال السلام .
مِن أهم مآثر الملك نبونَئيد تجريده حملة عسكرية على المقاطعات الواقعة شمال غربي الفرات والجزيرة ، حيث تَمَكَّنَ مِن ضَمِّ مُدِنٍ مُهِمة الى مملكتِه ومِنها مدينة ( حارّان Harran ) القائمة على نهر البليخ أحدِ روافد نهر الفرات و ( تيماء Taima في الديار السعودية الحالية ، تَبعُدُ عن بابل بما يزيد على ألف كيلومتر ، شَيَّدَ فيها قصراً شبيهاً بقصره الفخم في بابل ، واتخذَ مِنه مقرّاً لحُكمه ، تاركاً لإبنه ( بيل شاصَّر Bel-Shassar ) إدارة شؤون الدولة . بعكس تَمَيُّز الملك نبونَئيد بشخصيةٍ مرموقة وتمتُّعِه بسمعةٍ عالية ومكانةٍ دوليةٍ كبيرة ، كان إبنُه بيل شاصَّر واهنَ الشخصية عديمَ الدراية والأهلية لإدارة شوون الحُكم ، إنتبَهَ بقايا يهود السبي البابلي الى نقاط ضعفِه فاستغلوها بشكل يخدمُ مصلحتَهم ويُعَبِّد الطريق أمامهم لإحتلال المراكز الحسّاسة في الدولة ، حيث هَيّأوا له مُختلف وسائل الترفيه واللهو الفاسد فانغمس فيها وأغفلَ الإهتمام بالامور الإدارية ، فانتاب إدارة الدولة التفكُّكُ وعَمَّت الفوضى وتفشّى الفساد والرشوة ، وبسبب هذا التسَيُّب خَلا الجوُّ أمام المُتنفذين اليهود فقاموا ببناء جسور بالخفاء مع الملك الأخميني ( كورش ) الذي كان قد سَرَّبَ أخباراً يَدَّعي أنه ( المسيح المُنتظر ) ، وحيث كان اليهودُ واثقين بأن المسيح مُزمعٌ على القدوم طِبقاً لِمَ تنبّأَ به أنبياؤهم ، رأوا في شخص ( كورش ) المُنقذ الذي بإمكانه إطلاقَ سِراحهم مِن أسرهم المُزمِن ، فعملوا جُهدهم لتمهيد السبيل أمام مُحاولاته لإسقاط بابل ، لا سيما وأنه قد وعدهم بالسماح لهم للعودة الى بلادهم وبمساعدتهم في إعادة بناء هيكل سليمان ، واعتماداً على تَعَهًّد كورش الذي وَثِقوا به ، رسموا خِطة سرية سار على ضوئها كورش في مشروعه لإحتلال الدولة الكلدانية .
ولم تمضِ على الحصار فترةٌ تَقِلُّ عن الشهرين ، أفلحَ الأخمينيون الفرس بعدها في اقتحام أسوار بابل والسيطرة عليها ، وفي التاسع والعشرين مِن العام نفسه ، دخل إليها العاهل الفارسي منتشياً بالنصر . هكذا سقطت الإمبراطورية الكلدانية بسبب التآمُر اليهودي الدنيء ، وغابت شمسُ بابل العِلم والحضارة التي أضاءَت العالَمَ بشُعاعِها ردحاً مِن الزمن طويلاً ! تلك المدينة الظيمة التي وصفها إرميا النبي بقوله : < كانت بابلُ كأسَ ذَهَبٍ بيدِ الرب ، تُسكِرُ كُلَّ الأرض ، مِن خَمرها شَربَت الاممُ ولذلك فقدت رُشدَها . إرميا 51 / 7 > وقال عنها النبي إشعيا : < بابل زينة الممالك وبهاء فخر الكلدانيين . > . والى الحلقة الرابعة قريباً
الشماس كوركيس مردو
في 30 / 3 / 2007 [/size]