المحرر موضوع: الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان  (زيارة 1681 مرات)

0 الأعضاء و 1 ضيف يشاهدون هذا الموضوع.

غير متصل كوركيس مردو

  • عضو فعال جدا
  • ***
  • مشاركة: 563
    • مشاهدة الملف الشخصي
    • البريد الالكتروني
      [size=12pt]الحقائق والأوهام بين الآشوريين والكلدان

                                       مُسَلسَلٌ بحلقاتٍ مُستلة مِن كتابي ( الكلدان والآشوريون عِبر القرون ) المُرتقَب صدورُه مطلع العام القادم بعون الله

                                                                                                              الحلقة الثالثة

بروز العهد الإمبراطوري الكلداني

 بعد تَوسُّع شهرة الملك آشور بانيبال ( 668 - 627 ق . م ) وامتِدادِ سُلطتِه الى آفاقٍ لم يحلم بها أسلافُه ، تَمَلكَتهُ الكبرياءُ الى أقصى مَدياتِها ، ونتيجة لذلك تغَيَّرَت نظرتُه نحو أخيه  شمش-شم-اوكن  المالك على بابل، وتَحَوَّلَت مُعاملتُه له مِن أخ الى تابع ، فثَقُلَ الأمرُ على  شمش-شم-اوكن كثيراً ، ولشعوره بخطر أخيه آشور المُبيَّت ضِدَّه تَحَرَّكَ لتدارُكِ الموقف فبدأ بعقد تحالفاتٍ مع العيلاميين ولَبَّت نِداءَه  قبائلُ آرام الكلدانية ، وأعلن الإستقلال عن دولة آشور  عام 652 ق . م عاقداً العزمَ  على الدفاع عن الدولة البابلية المُستقلة . لكن آشور بانيبال فقد اعتبر ما قام به أخوه شمش-شم-اوكن تَمَرُّداً ، فجَرَّدَ حملة عسكرية ضِدَّه وأحكم حصاراً مُدَمِّراً على بابل .    لقد كان لهذا التَمَرُّد وما أعقبه مِن قتال ودمار وللحملات العسكرية السابقة التي قادها  سركون الثاني  (عام 707 ق . م ) ونجلُه سنحاريب ( عام 691 ق . م ) ضِدَّ بابل وكافة الممالك الكلدانية ، تداعيات ونتائج بالغة الخطورة جَلَبَت الوبال على الأطماع الآشورية وأفقدَتها طموحاتها  في الدولة البابلية التي تَعَرَّضت بُنيتُها التحتية لأَفدَح الأضرار .

كان الملك شلمنصَّر الثالث ( 858 - 824 ق . م ) أحكم الملوك الآشوريين مِن حيث موقفه مِن المملكة البابلية ، حيث أبرمَ عام 851 ق . م  مع الملك البابلي  مردوخ ذاكر شمي مِن السُلالة البابلية الثامنة إتفاقية وُدٍّ وصداقة ، بينما الملوك الآشوريون الآخرون ولاسيما ملوك السُلالة السركَونية 721 - 627 ق . م لم يكن سلوكُهم حِيال فّضِّ مشاكلهم مع دولة بابل والممالك الكلدانية الاخرى وُدِّياً بل كان تعامُلُهم معها إستعلائياً يَغلُبُ عليه الطابع العسكري العنيف ، وهو ما خَلَقَ انطباعاً سَيِّئاً وشعوراً بالسُخط  والتَذَمُّر لدى الشعب البابلي والكلداني معاً ضِدَّ الدولة الآشورية  ، وهذا كان سبباً لعدم ثَبات سيطرة الآشوريين بصورة مُستديمة لإفتقارهم الى قاعدة شعبية في الداخل تُدافع عن وجودِهم ، فكانت سيطرتُهم مُتقَطِّعة ، ولذلك بعد أندحار الملك شمش-شم-اوكن أمام أخيه الملك آشور بانيبال ، وقيام الأخير بوضع يَديه بيدي بيل (الإله مردوخ ) تنفيذاً للتقليد المُتَّبَع لإمكانية اعتلاء عرش بابل ، فأصبح ملكاً على بابل ، وقبل مغادرته بابل عام 648 ق . م  قام بتولية أحدِ  قادة جيشه  مُمَثِّلاً  له كحاكم على بابل إسمُه  شمش دناني ،  ولكن سُرعان ما أطاحَ به زعيمٌ كلداني يُدعى ( كندلانو Kandalano ) بحركةٍ عسكريةٍ سريعة وناجحة ، وفرضَ سيطرتَه التامة على كُلِّ أنحاء البلاد ، بيدَ أن الامور في أواخر عهدِه مالت الى الإضطراب مِما ساعد آشور بانيبال على استعادة بابل ثانيةً وتنصيب إبنه ( سِن شار أشكون  Sin Shar Ashkon ) حاكماً عليها ، باستثناء الاقليم الجنوبي لبابل الذي استمَرَّ تحت سيطرة كندلانو .

                                                                                                                                                                                                                                                         كان النصفُ الأول من عهدِ آشور بانيبال مليئاً  بالأحداث  وكانت مُعظم نتائِجها  لصالحِهِ ، أما نصفُهُ الثاني  فقد شَهِدَ اضطراباتٍ إلاَّ أن نطاقَها لم يتَّضِح إلاَّ بعد موتِهِ عام  627 ق . م ، حيث اشتدَّ الصِراع بين أبنائه ، واستطاعَ إبنُهُ ( آشور أتِلُ ايلاني  ) الاستيلاء على العرش عام 626 ق . م ، وفي عام 623 ق . م إغتصبَ  العرشَ ( سِن شَمُ ليشير ) لبضعة أشهر ثمَّ  استعادَهُ ( سِن شَر أشكِن  623 - 612 ق . م ) شقيقُ ( آشور أتِلُ ايلاني)  وعلى عهدِهِ  سَقَطَت  نينوى  عام 612 ق . م   بعد موت آشور بانيبال  تمكَّنَ حاكمُ القطر البحري( نبوبلاصَّر ) حفيدُ  نبوخذنصَّر الأول وابن الملك( بيل ابني ) الذي أقامه الملك  سنحاريب  ملكاً  على بابل عام 702 - 700 ق . م  من الزحف على رأس جيش نحو بابل قادماً مِن مدينة الوركاء ( اوروك ) ودخلها مُظفراً بالنصر في شهر تشرين الثاني مِن عام 626 ق . م  وفرض حُكمَهِ على  بابل  ومنطقة الجنوب  بأكملها  ، مُعلناً  أنه  الملكُ  الكلداني الشرعي  لعموم الاقليم البابلي  بعد أن قام  بتوحيد القبائل الكلدانية  ومُدِنهِم  تحت الراية والهوَّية الكلدانية الواحدة  ،  سَطَعَ نجمُهُ  إثْرَ تَصفيتِهِ للوجود العسكري الآشوري ، وباشرَ بتوسيع رقعة مملكتِهِ  في الجِهات الشرقية والغربية والشمالية  مُستغلاً ما آلت إليه الدولةُ الآشورية من الضعف والتراجع والانحسار ، وهكذا على يَدَي نبوبلاصَّر إبتدأَ عصرُ الإمبراطورية الكلدانية ودام ( 87 عاماً ) بدءاً مِن ( 626 - 539 ق . م )  تعاقب على الحُكم خلال هذه الفترة ستة ملوك .  ومن أهمِّ العوامل التي ساهمَت في سقوط الدولة الآشورية ،  هو وَلَعُ  الملوك الآشوريين  المُفرط  في الاستيلاء على بلدان الشعوب الاخرى ونهبِ  خيراتها  واستغلال كفآت أبنائها وفي الغالب تدمير حضاراتها  العمرانية  ممّا  جَلَبَ عليهم  الاستياء والتذمُّر .

الملك نبوبلاصَّر Nabopolassar
( 626 - 605 ق . م ) مؤَسِّس الإمبؤاطورية الكلدانية .

 الابنُ الكلداني البار  نبوبولاصِّر هو إبنُ الملك ( بيل ابني ) الذي تسنَّمَ عرش بابل عام 702 - 700 ق . م  في عهدِ الملك الآشوري سنحاريب ، فهو إذاً أحد أحفادِ  الملكِ  الكلداني الثائر ( مردوخ بلادان )  كان حاكماً على  القطر البحري على عهد  حفيد سنحاريب (الملك آشور بانيبال ) ،  وكان يتحيّنُ الوقت المناسب ليستعيد عرش بابل من مُغتصبيه الآشوريين ،  فبعد موت آشور بانيبال عام 627 ق . م تفاقمَ  تدهورُ  الأوضاع  في الدولة الآشورية عمّا آلت إليه في أواخر فترة حُكمِهِ  ، فانتهزَ الفرصة نبوبيلاصَّر وأعلن الاستقلالَ عن الدولة الآشورية  واعتلى العرشَ البابلي عام 626 ق . م  ،  مؤسِّساً  سُلالة  بابل الحادية عشر الدولة  الكلدانية  أو البابلية  الحديثة  ثمَّ  الامبراطورية  الكلدانية  أو الامبراطورية  البابلية  الحديثة  .  قامَ  بتصفية الوجود  العسكري الآشوري من المناطق البابلية ،  وفَرَضَ حُكمَهُ على الجنوب بأكملِهِ  بتوحيدِهِ القبائل الكلدانية  تحت  الهويَّة الكلدانية الواحدة ، مُلغياً  بذلك  نظامَ القبائل والبيوتات المتعدِّدة ،  ثمَّ بدأ بضمِّ مناطق واسعة الى مساحة مملكَتِهِ  من الشمال والشرق والغرب  ، وبعد قضائه بالتعاون مع حليفه الملك الميدي  كي اخسار على الدولة الآشورية  ما بين عامي 612 - 609 ق . م  أصبحَ اقليم آشور وكافة المناطق التابعة له حتى حدود  آسيا الصغرى اليوم  بما في ذلك  آشور ونينوى  وأربيل ( حدياب )  كما  أفادَت المصادر التاريخية  <  مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة / طه باقر ص. 548  -  عظمة بابل / هاري ساكز ص. 170 - 171 - تاريخ  سوريا  ولبنان وفلسطين / الجزء الأول / فيليب حتي ص. 155 - 156 -  انتصار الحضارة / جيمس هنري  ترجمة أحمد فخري ص. 231  وهنالك  مصادر اخرى كثيرة >  ضمنَ مساحة الدولة البابلية  الكلدانية بالاضافة الى بلاد الشام  وفلسطين  ولبنان وشبه الجزيرة ، حيث احترم  الميديون  مضمونَ المعاهدة  المعقودة  بينهم  وبين الكلدان ،  واكتفوا  بما استولوا عليه من الغنائم الهائلة التي حصلوا عليها من العواصم الآشورية ، واحتفظوا بالاقاليم الشمالية  والشمالية الشرقية  لنينوي التي  كانوا قد استولوا عليها قبل عقد المعاهدة ، حيث كانوا قد احتلوا كركوك عام 615 ق . م  وفي عام 614 ق . م  إستولوا على مدينة ( طربيسي Tarbissi ) الواقعة  شمال العاصمة  نينوى ( شريف خان حالياً )  ثمَّ أغاروا على مدينة ( كالح Kalah ) ( نمرود الحالية ) وتلتها مدينة ( آشور Ashur ) ، وكان كُلُّ ذلك يجري وفق الخطة المُتفق عليها  بينهم  وبين الكلدانيين ،  ولكن الميديين لم يحتفظوا بهذه المناطق الجبلية ( كُردستان الحالية ) إلا فترة غير محدودة المدة ،  ثمَّ تركوها  بأكملها  للكلدان عائدين الى أماكنهم الأصلية ، ومنذ ذلك ظهر التواجد الكُردي في شمال العراق وهذا ما يؤَكِّد بأن اصول الأكراد هي ميدية ، وهكذا انضمت تلك الأقاليم الي الأقاليم الغربية فخضعت بمجموعِها  لسُلطة الدولة الكلدانية  وبخاصةٍ العواصم الثلاث الادارية والدينية والعسكرية  التي  شَغِلَها أبناء الكلدان وأحفادُهُم  منذ ذلك الزمان وحتى اليوم .

الملك نبوخَنصَّر الثاني Nebuchadnezzar II
( 605 - 563 ق . م ) أعظم ملكٍ كلداني !

لُقِّبَ الملك نبوخُذنصَّر بالثاني  تمييزاً له عن الملك ( نبوخُذنصَّر الاول 1125 - 1104 ق . م )  ملك سُلالة  بابل الرابعة  الذي طَهَّرَ أرض وادي الرافدَين من العيلاميين الذين كانوا قد  دخلوا  مدينة بابل غفلةً ، وعَمِلوا فيها نَهباً ، ثمَّ سرقوا تمثال بيل ونقلوه الى اقليم نابار الكلداني الواقع تحت سيطرتِهم .  وُصفَ  نبوخَذنَصَّر  الثاني  بالملك  المقدام  ونابغة  الزمان  ، فخر البابليين  والأعظم  بين  ملوكِ  الكلدان  ،  الفاتح  الكبير  ومُوَحِّد  الشرق  القديم .  و قد  دعاه  الربُّ  القدوس  في  سِفر إرميا  ( نبوخَذنَصَّر ، ملك بابل ، عبدي )  <  أنا  صَنَعتُ  الأرضَ  والبشرَ  والبهائم  التي  على  وجه الأرض ، بقوَّتي  العظيمة  و بِذراعَيَّ  المبسوطة ، وأعطيتُها  لِمَن  حَسُنَ  في عَنَيَّ . والآنَ  قد  أسلَمتُ  أنا  جميعَ هذه الأراضي الى  يدِ  نبوكَد نَصَّر ملكِ بابل ، عبدي  وأعطيتُه  أيضاً  وحوشَ الحقل  لِتَخدِمَه  . . . إرميا  27 / 5 - 6  > .

يُفيد المؤرخ يوسيفوس : بينما كان نبوخَنَصَّر يواصل حملتَه ضِدَّ فلسطين ومصر ، وما إن أشرفَ على دِلتا نهر النيل حتى أُبلِغَ بأن والده قد دَخَلَ في مَرحلة الإحتضار ، فأناطَ قيادة الجيش بالمُقَرَّبين إليه وعاد الى بابل بصحبة حرسه الخاص ، ترأسَ مراسيم دفن والده الى جانب شقيقه  نابو شِم ليشير ، وبعدها مباشرةً نوديَ به ملكاً على بابل ، وفي الآول مِن نيسان عام 604 ق . م رأس السنة الكلدانية البابلية / أكيتو ، أمسك بيد بيل ( تمثال الإله مردوخ ) مؤَدياً الطقس المُتَّبَع في اعتلاء العرش البابلي ، وكانت تلك سنة بداية حُكمه الملكي الرسمي .

عظمة نبوخَنَصَّر

يقول المؤرخ  والآثاري نيكولاس بوستكَيت  إن عَظمَة  نبوخُذنصَّر  وشُهرتَه التي طَبَّقت الآفاق  لم توصِلْه  إليها ،  إنجازاتُه  العسكرية  الباهرة  التي  لم تَقِلَّ  عن  إنجازات  أعظم  الملوك  الأكديين والآشوريين إن لم تَبُزَّها فَحسب ،  بل ما أسبغه  من المَجدِ الى بابل عاصمتِه  وعاصمةِ  حمورابي  من قبله ، التي تعرَّضت للتدمير مرَّتَين على أيدي سنحاريب وحفيدِه آشور بانيبال ،  فكانت أبنيتُها بحاجة الى ترميم  وتجديد ،  وقد بدأ العملَ بذلك مؤسِّسُ الدولة البابلية الحديثة الملك نبوبيلاصَّر ، بيدَ أن  انشغالَه الكبير في تقوية دعائم مملكتِه لم يترك له فراغاً من الوقتِ لتكريسِه لِما كان يطمَحُ إليه من مشاريع عُمرانية كبيرة ، إلاَّ أن تلكَ المُخطَّطات التي كان يصبو الى تحقيقِها  قامَ  بتنفيذِها  بشكل  مُتطوِّر  وحديث  إبنُه  الملك العظيم  نبوخُذنصَّر الثاني ،  الذي سخَّرَ  لهذا العمَل الجبّار  كُلَّ قابليات ومَهارات  الأسرى الذين جَلَبَهم من مُختَلَف البُلدان  فكان بينهم  السوريون واليهود  والمصريون  والعرب  وغيرُهُم ،  فغَدَت بابلُ  على عهدِه أجمَلَ  وأعظمَ  مدن  العالَم القديم ،  حيث  كانت تنتصب بأُبَّهةٍ لا نظير لها زَقُّورةُ الاله ( بيل )  على شكل بُرجٍ عظيم  مُكوَّنٍ  من سبعة طوابق ، وكُلُّ طابق مُخَصَّصٌ لأحَدِ الآلهة السبعة ومَطلِيٍّ  بلون مُختلف ،  فالطابق الأسفل أو الأول  كان  مَطلياً باللونِ الأسود  والثاني بالأبيض  والثالث بلون القُرمز  والرابع بالأزرق  والخامس بالأحمر  والسادس باللون الفضِّي  والسابع باللون الذهبي  وعلى سَطحِه  يترَبَّعُ  تِمثال الاله ( بيل) ا لمنحوت من الذهب الخالص  والبالغ ارتفاعُه عشرين قَدَماً ، تقبَعُ الى جانبِه  مائدةٌ مصنوعة من الذهب الخالص أيضاً .  كانت هذه  الزَقّورة  بِحسبِ  ما  ذكره المؤرخ  يوسيفوس مُشيَّدةً  من قبل الملك الكلداني الأول ( نمرود الجبار )  وهي البُرج  الذي ورد  ذِكرُه في  سِفر التكوين  - الفصل الحادي عشر .  وبحَسَبِ المؤرخ < فريتز كريشن >  ان  المعلومات  عن بُرج  بابل  أُستُقِيَت  عن وَصفٍ  أفردَهُ  له  المؤرخ  هيرودتس ،  وعن  نَصٍّ  مسماري  لكاتبٍ بابلي يُدعى < أنو بيل شونو>  وكتاب التوراة ،  أما  الغَرَض الذي من أجلِه شُيِّدَ البُرج فكان لتقديم فروض العبادة  للإِله مردوخ الذي جُعِلَ موطِئاً لقَدَمَيه  وفقَ  ما دَوَّنَه  نبوخُذنصَّر في اسطوانتِه التي  نقتبس بعضَ المُفردات الواردة فيها :

 أنا  نبوخُذنصَّر  ملكُ بابل ،  إبن  الملك نبوبيلاصَّر  البِكر ،  الحاكم الكبير  المُختار  من  قبل الإِله ( مَردوخ )  الحاكم الأكبر ،  المحبوب  من  قبل إِله الكتابة  والمعرفة ( نابو) ،  الباحث  عن  الحياة المُرفَّهة ،  مُجزِل الهدايا  لإيساكلا  والمُهتَم بامورها ،  الشامِخ الرأس بفضل ( مَردوخ ) الذي سَلَّطَني على الأقاليم النائية ،  المُتَرَدِّد الدائم  على معابد  إبنِ ( مردوخ)  نابو  وريثِه الشرعي ، والدي نبوبيلاصَّر  ملك بابل  نَظَّفَ  موقع  البُرج ( زَقّورة بابل )  ووضع حَجَر الأساس ،  أقامَ  جُدرانَه الخارجية  على ارتفاع  30 ذِراع  ،  طلبتُ  من جميع  سُكّان الأقطار  القريبة  والقصيّة التي  أولاني حُكمَها سيدي ( مردوخ )  ليُساهِموا بالبناء ،  فجلبوا خشب الارز والصنوبر  ،  أقَمتُ لسيدي ( مردوخ)  صَرحاً عالياً  على هيئة مَعبَدٍ  للآلهة  أجمل ممّا كان عليه  في الماضي . . .  !

بالرغم من اعتراف العالَم القديم بأسره  منذ بداية حُكم الملك العظيم حمورابي ، بأن بابل كانت المدينة الرئيسة الاولى في الجنوب ، وأن شُهرةَ عرشِها الملكي كان ذا سُمعةٍ عظيمة ، ولكن ما شيَّدَه الملك نبوخَذنصَّر الثاني من المعابد والقصور والمباني ، جَعلَها أعظمَ مدينةٍ عَرفَها العالَم آنَذاك ، ويقول الآثاري  بوتسكَيت ان الواقع الذي دَلَّت عليه  تنقيبات < كولد فاي>  لا يُعطي  مُبَرِّراً  لإعتِزاز نبوخَذنصَّر بِسردِه الشيِّق لتفاصيل سير العمل وتقدُّمِه في تجديد عاصمته الجديدة  بابل  فَحَسبْ  ،  بل بالشُهرة التي أحرزَتها في عهدِه  بين مُعاصريه ،  حيث يَصِفُها المؤرخ هيرودتس  وَصفاً  مُسهَباً ورائعاً  يمتاز بِدِقَّةٍ  متناهية .

إمتَدَّ حُكم هذا الملك العظيم (43 عاماً ) استطاع خلالها وباقتدار كبير أن يُوَطدَ أركانَ الإمبراطورية الكلدانية في الداخل والخارج  ويفرضَ هيبتَها الى جانبِ  نشر الثقافة البابلية  في كُلِّ صقع  مِن أصقاع الإمبراطورية الواسعة الأرجاء ، حيث خضعت لحُكمها كافة ممالك ودويلات الشرق الأوسط ، ومِن حملاتِه العسكرية الشهيرة تلك التي جَرَّدَها على اورشليم والتي تَمَّ فيها أسرُ الآلاف مِن نُبلاء اليهود وأشرافهم وجلبُهم الى بابل ،  كان شغوفا بالنَمط الهندسي المُمَيَّز في الأعمار والبناء ، وقد تجلّى ذلك في تشييدِه القصورَ الفخمة والأسوارَ العظيمة  والجنائنَ المُعلَّقة التي  أمر ببنائها نزولاً عند رغبة زوجتِه الأميرة الميدية ( أميتس ) حفيدة الملك الميدي كي أخسار ، وقد عُدَّت إحدى عجائب العالَم القديم السبع .

الملك إميل مردوخ E mel Mardukh
( 563 - 560 ق . م )

تُوفيَ نبوخَذنصَّر الثاني  عام 562 ق . م بعد أن حَكَمَ ( 43 ) سنة وخَلِفَه إبنُه  آميل مردوخ أو كما  تُسميه التوراة ايل مردوخ ، تمَّ اغتيالُه عام 560 ق . م   بانقلابٍ دَبَّرَه ضِدَّه كَهنةُ المعبد بالاتفاق مع زوج  شقيقته الصغرى ( كاشا ) بسبب نظرته الى الديانة اليهودية  بأنها  الأسمى بين الديانات الاخرى ، ولكونه متسامحاً مع يهود السبي ، و اصداره  عفواً عن  يوياكين  ملكهم الأسير  ومنحِه  شرف  المشاركة بتناول الطعام على المائدة الملكية .

الملك نركَال شَر اوصَرNergal Shar Osser
( 560 - 556 ق . م )
توَلّى الحُكم في السنة نفسِها ( نركال شَر اوصر)  أو نركلصَّر  زوج ( كاشا )   ولم يَدُم  حُكمُه إلا بضعة سنين وقد اكتنف  الغموضُ موتَه  ، ولم يستطع إبنُه  لاباشي مردوخ  تَسَلُّمَ العرش لصغر سنِّه وعجزه ،  حيث تَمّّت إزاحتُه بعد  بضعة أشهر من وفاة  والده  من  قبل كهنة  معبد  الاله مردوخ .

الملك لاباشي مردوخ Labashi Mardukh
( بضعة أشهر مِن عام 556 ق . م )

كان صغير السن عند موت والده الذي إكتنفه الغموض ، حَرمه مِن تولي العرش كهنة المَعبد بحجة صغر سنه وعدم صلاحيته ،  وسَلَّموا مقاليد الحكم بحَسَبِ  قول الآثاري والمؤرخ  نيكولاس بوستكيت الى نبيل وسياسي كبير يُدعى  نبونئيد أو ( نبونيدس ) .

الشماس كوركيس مردو

الملك نبونَئيد ( نبونيدس ) Nabonid
( 556 - 539 ق . م )                                      وسقوط المملكة الكلدانية ( الامبرطورية البابلية الحديثة .)

كان نبونَئيد كَهْلاً  ويُرجِّح الكثيرُ من المؤرخين كونَه  متزَوِّجاً من إبنة نبوخَذنصَّر الكبرى ، وهذا ما جعله أهلاً  لتسَنُّمِ عرش بابل ، كان من مواليد  مدينة  حرّان الواقعة  على  نهر البالخ  أحد  فروع  نهر الفرات ، لوالدين ( نبوبيلاصو أقبي)  و( أدد قبي ) ويذكرها  المؤرخ هيرودتس  باسم (نيتوكرس) تنتمي  بنسبِها  الى العائلة السركونية الحاكمة في  آشور ،  شديدة التَدَيُّن  منذ  حداثتِها  وتقَلَّدَت  رُتبة  الكاهنة الكُبرى  في معبد ( سين ) إله القمر ،  طَغى  تأثيرُها  على حياة  نبونَئيد  ،  أما  والدُه  فكان  نبيلاً  كلدانياً   وتُشير بعض النصوص المسمارية  الى كونِه  حاكم  حرّان المحلي  ، ويقول آخرون بأنه كان ( رب ماك )  رئيس الكهنة  ، وبعضُهم يؤَكِّد بأنه  شقيق لاباشي مَردوخ الذي اغتاله رجال الدين اغتيالاً وليس تنحيةً بحجة صغر السن وعدم الكفاءة  ، ومهما كانت التكَهنات فإنه قد تولّى العرش البابلي .

في البيئَةِ التي أشرنا إليها شَبَّ نبونَئيد  مستقيماً  لتأثُّره  بمحبة  إِله القمر( سين)  والدِ  إِله العدلِ والقانون ( شمش ) و الذي كانت والدتُه الكاهنة الاولى  لمَعبَدِه ،  اختاره الملك  نبوخَذنصَّر عضواً في مجلس الحُكم  وحازَ على مكانةٍ  مُقَرَّبَةٍ  منه ، أدَّت الى تزويجِه من كُبرى بناتِه  فارتبطَ  بالعائلة  الملكية  بقَرابةٍ  دموية ،  وبذلك أصبحَ ذا حضور بارز  يؤخّذُ  برأيِه  ويُعَوَّلُ  على حُكمِه ،  وما يؤَكِّدُ ذلك  إنتِدابُه من قبل الملك نبوخَذنصَّر سنة 585 ق . م ، للتفاوض نيابةً عنه لإِرساءِ دعائم السلام  بين مملكتي ميديا وليديا اللتين تفاقَمَ الخِلافُ بينهما  مُنذِراً بقيام حَربٍ ضَروس بين الجانبين تَجلبُ  الفوضى والضرر الى المنطقة بأسرها ، فكان مُوَفقّاً في إحلال السلام .

مِن أهم مآثر الملك نبونَئيد تجريده حملة عسكرية على المقاطعات الواقعة شمال غربي الفرات والجزيرة ، حيث تَمَكَّنَ مِن ضَمِّ مُدِنٍ مُهِمة الى مملكتِه ومِنها مدينة ( حارّان Harran ) القائمة على نهر البليخ أحدِ روافد نهر الفرات و ( تيماء Taima  في الديار السعودية الحالية ، تَبعُدُ  عن بابل بما يزيد على ألف كيلومتر ، شَيَّدَ فيها قصراً شبيهاً بقصره الفخم في بابل ، واتخذَ مِنه مقرّاً لحُكمه ، تاركاً لإبنه ( بيل شاصَّر Bel-Shassar ) إدارة  شؤون الدولة . بعكس تَمَيُّز الملك نبونَئيد بشخصيةٍ مرموقة وتمتُّعِه بسمعةٍ عالية ومكانةٍ دوليةٍ كبيرة ، كان إبنُه بيل شاصَّر واهنَ الشخصية عديمَ الدراية والأهلية  لإدارة شوون الحُكم  ، إنتبَهَ  بقايا يهود السبي البابلي الى نقاط  ضعفِه فاستغلوها بشكل يخدمُ مصلحتَهم ويُعَبِّد الطريق أمامهم لإحتلال المراكز الحسّاسة في الدولة ، حيث هَيّأوا له مُختلف وسائل الترفيه واللهو الفاسد فانغمس فيها وأغفلَ الإهتمام بالامور الإدارية ، فانتاب إدارة الدولة التفكُّكُ وعَمَّت الفوضى وتفشّى الفساد والرشوة ، وبسبب هذا التسَيُّب خَلا الجوُّ أمام المُتنفذين اليهود فقاموا ببناء جسور بالخفاء مع الملك الأخميني ( كورش ) الذي كان قد سَرَّبَ أخباراً يَدَّعي أنه ( المسيح المُنتظر ) ، وحيث كان اليهودُ واثقين بأن المسيح مُزمعٌ على القدوم طِبقاً لِمَ تنبّأَ به  أنبياؤهم ،  رأوا في شخص ( كورش ) المُنقذ الذي بإمكانه إطلاقَ سِراحهم مِن أسرهم المُزمِن ،  فعملوا جُهدهم لتمهيد السبيل أمام مُحاولاته لإسقاط بابل ، لا سيما وأنه قد وعدهم بالسماح لهم للعودة الى بلادهم وبمساعدتهم في إعادة بناء هيكل سليمان ، واعتماداً على تَعَهًّد  كورش الذي وَثِقوا به ، رسموا خِطة سرية  سار على ضوئها كورش في مشروعه لإحتلال الدولة الكلدانية  .

ولم تمضِ على الحصار فترةٌ تَقِلُّ عن الشهرين ، أفلحَ الأخمينيون الفرس بعدها  في اقتحام أسوار بابل والسيطرة عليها ، وفي التاسع والعشرين مِن العام نفسه ، دخل إليها العاهل الفارسي منتشياً بالنصر .  هكذا سقطت الإمبراطورية الكلدانية  بسبب التآمُر اليهودي الدنيء ، وغابت شمسُ بابل العِلم والحضارة التي أضاءَت العالَمَ بشُعاعِها ردحاً مِن الزمن طويلاً ! تلك المدينة الظيمة  التي وصفها إرميا النبي بقوله : <  كانت بابلُ كأسَ ذَهَبٍ بيدِ الرب ، تُسكِرُ كُلَّ الأرض ، مِن خَمرها شَربَت الاممُ ولذلك فقدت رُشدَها  . إرميا 51 / 7  >  وقال عنها النبي إشعيا  : <  بابل زينة الممالك وبهاء فخر الكلدانيين . > . والى الحلقة الرابعة قريباً

الشماس كوركيس مردو
في 30 / 3 / 2007 [/size]