تاريخ ما اهمله التاريخ
(مدرسة اينّونى الأبتداية)
(1ــ 2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شمائيل دانيال
حينما حزمت امري للكتابة عن مدرسة اينونى كما نسميها نحن اهلها، او (كاني ماصي) مثلمايسميها جيراننا الأكراد، كنت ادرك تماما بأن الرغبة وحدها ليست كافية للكتابة عن قصة من قصص نجاحات شعبنا .قصة شكلت فيها خيارات جيل من الناجين من مذابح واهوال وفظائع الحرب العالمية الأولى وفي مرحلة بالغة القسوة ، علامة فارقة في مجرى صناعة تاريخ ذلك الجزء من ارض الآباء والأجداد الذي نسميه "اثرا دبروار".
واليوم ،يتزامن اصراري على تكملة المقال ثم نشره ،مع محاولة اخرى لشعبنا في العراق وسوريا للبحث عن بداية لحياة جديدة اخرى ، في ظل اجواء معتمة يشعر فيها الكثيرين منا بأننا نفقد يوميا قدرا لا بأس به من التاريخ، ويسكننا جميعا هاجس ان يأتي يوم يحكي من كانوا سببا في محنتنا قصصا وهمية لأبنائهم تبني فيهم وجدان العظمة على حساب كل ما حققه اجدادنا من انجازات وابداعات .... فقط لأننا نسينا ان نكتب تاريخنا .
البداية ،كما يرويها السيد يوسب درويش كانت مع نزوح اهلنا من (34) قرية من القرى الآشورية لمنطقة برواري بالا في مايس عام 1914 والتحاقهم بآشوريي هكاري وعودتهم إليها عام 1918... (34) قرية آشورية وبساتينها كانت قد تحولت الى خرائب ، وتم إعمارها جميعا من قبل اهلنا ، بعد ان اعيدت اليهم ممتلكاتهم من مواشي نزولا الى الأدوات المنزلية من قبل اكراد القرى المجاورة " ... اما فكرة انشاء المدرسة في اينونى يضيف السيد درويش "اقترحها القس اوراها شموئيل (1)عام1927 . وبعد موافقة اهل القرية، قرروا ان يكون التدريس في منزل (السيد درويش داود) لحين استكمال بناء المدرسة التي تكونت من غرفتين ، احداهما للطلبة والأخرى عملوا منها ادارة المدرسة ،وكل الطلاب كانوا من ابناء اينونى . وكان على الطالب ان يجلب معه المقعد الذي يجلس عليه في الصف ، وكانوا يدرسون اللغة الأنكليزية والسريانية، واستمروا على هذا الحال لمدة ثلاثة سنوات " .
في احدى زيارات قائمقام قضاء دهوك ، سئيد قزاز كما كان يلفظ اهلنا اسمه ( سعيد قزاز الذي اصبح وزيرا للداخلية في العهد الملكي وتم اعدامه في عام 1959 ، من قبل محكمة الشعب التي ترأسها المهداوي ) للمنطقة ، جاء الى قرية "اينونى " ، وطلب من المختار السيد سخاريا كيوركيس يوخنا ، ان يلتقيه بقس القرية، فقالوا له انه في المدرسة يدرس الآن .. تعجب السيد قزاز ، وهو يعلم بأنه ليس هناك مدرسه رسميه بحسب علمه في تلك المنطقة . وحينما ارسلوا بطلب القس اوراها ، اجابهم بأنه سيحضر حالما ينتهي من حصته التدريسية . أزداد فضول سعيد القزاز ، وطلب ان يأخذوه الى المدرسة ليرى بنفسه ، وحينما اقترب من المدرسة وكانت الحصة باللغة الأنكليزية ، سمع وبرطانة واضحة التلاميذ يرددون ما يقوله القس اوراها :
Run Mouse run
If you don’t
The Cat will catch you
وحين انتهاء الحصة ، سأل السيد قزاز القس اوراها شموئيل ان كان يوافق على بناء مدرسة في "اينونى" مشترطا ان يكون التدريس باللغة العربية الى جانب اللغة السريانية، فأجاب القس اوراها ومعه كل ابناء القرية : اية لغة يتعلمها ابناؤنا نريدها، ونكون فرحين ... وبعد فترة لا تتجاوز العام ، وفى السيد القزاز بوعده لأهالي اينونى ، وكما يذكر المربي الأستاذ كيوركيس داود ، تم افتتاح مدرسة اينونى كاول مدرسة ابتدائية رسمية تتكفل الدولة العراقية بتوفير كل ما تحتاجه من معلمين وكتب مدرسية وبناية ، بإدارة السيد سركيس سوراني وهو من ابناء ديانا ، وكان الأستاذ حنا عمانوئيل ايليا اول معلم للغة العربية ، وهو احد ابناء قرية تللسقف من سهل نينوى ، و كان من اوائل طلابها كوركيس داود خامس (2) الذي كان يبلغ (15) عاما من عمره حينما سجل في الصف الأول الإبتدائي . و كل من بنيامين درويش داود، شليمون أوراها داود، درياوش اوراهم، شيبا باكوس، خائي تورخان زيا، خوشابا ياقو من قرية ديرشكي..
ضحكت وهللت في سرها لهذا الإنجاز ولقيمته العالية للمنطقة ، السيدة شاكر ( بفتح الكاف ) التي كانت على وشك ان تتخرج كأحدى المعلمات في احدى قرى ارياف اورميا ، لولا زواجها من احد النازحين البرواريين اثناء الحرب الأولى والقدوم للعيش معه في قرية اياتي ، وارسلت ابنائها الى المدرسة ، ومثلها فعل الكثيرين من آشوريي منطقة برواري بالا ، حيث ارسلوا ابنائهم للتعلم في مدرسة اينونى رغم كل الصعوبات ،خصوصا اهل قرى اقري ومالخثا وخوارا وبوتارا وسردشتى وهلوا وهيس ومركجيا ، التي كان على التلاميد الصغار ان يبقوا عند اقربائهم في قرى اينونى واياتي ودورى (3)، ويعودوا الى اهلهم يومي الجمعة والأحد التي كانت يعطل فيها دوام المدرسة ، كذلك الصعوبات التي كان يعاني منها التلاميذ الصغار من القرى التي كان عليهم ان يعبروا النهر ، ويقطعوا بملابسهم الرثة مسافة ليست بقصيرة من القرية الى المدرسة ، سواء في الشتاء القارس البرد والثلوج التي كانت تتساقط بكثافة وتغمر المنطقة بأكملها .او مع قدوم فصل الربيع حيث الأمطار الغزيرة وذوبان الثلوج ، مما كان يستدعي من الأستاذ كيوركيس داود (سيدي ججو) الذي بقي مديرا للمدرسة لفترة طويلة ،ان يلبس جزمته صباح كل يوم، ويقف على معابر ساقية سويرى ( مشورى دشقيثا دسويرى ) التي تقع في الجهة الشرقية من اينونى على الطريق القادم من قرية دورى ، والتي كانت تزداد مناسيب المياه فيها نتيجة لسقوط الأمطار وذوبان الثلوج في الربيع ، لمساعدة الأطفال في العبور واحدا تلو الآخر خوفا من وقوعهم في الســـاقية ، ويكرر ذلك اثناء انتهاء دوام المدرسة .
ازداد عدد الطلبة عام بعد عام ، وتم توسيع بناية المدرسة ليستوعب طلاب الصف الرابع والخامس والسادس ، الذين كانوا يأتون الى المدرسة من اغلب مناطق برواري بالا ، حيث يذكر الأستاذ داود كيوركيس " بلغ عددنا في الصف السادس (30) طالبا بضمنهم (6) من الطلبة الأكراد " .
تناوب على التدريس وادارة هذه المدرسة ، اساتذة من مناطق مختلفة من محافظة الموصل، وقضاء دهوك آنذاك ، نذكر منهم الأستاذين ( شمعون افندي ) و ( ويوسف هرمز ريس ) وكلاهما من اراذن ، الأستاذ( اسطيفان) وهو من القوش الذي اصبح فيما بعد مديرا لمدرسة القلب الأقدس في بغداد ، والأستاذ حسدو اوشانا ، الذي كان اول معلم من اهالي اينونى يتعين في مدرسة اينونى كمعلم بعد انهائه للمرحلة الأبتدائية فيها ، الأستاذ حيدر عيسى من قرية ديرى كمدير للمدرسة ، و الأستاذ (يوسف توما رفو ) من برطلة من سهل نينوى ، والأستاذ والمربي ( كيوركيس افندي ) الذي قضى فترة طويلة من عمره مديرا لمدرسة اينونى .
ان الإستفادة من الفرصة التاريخية التي توفرت لأهلنا في منطقة بروار بعد ان وفى السيد سعيد القزاز بوعده بإنشاء مدرسة اينونى ، ساهمت كعنصر دافع للتقدم وكأداة توحيد لفئات المجتمع البرواري ، وعدم تركها لجهات طائفية اجنبية ( الإرساليات الأجنبية) او الكنائس المحلية ، يتعاظم شأنها وموقفعها السلطوي والتوجيهي مع الزمن، والتي يشي تاريخ المنطقة بأنها كانت تتبع منهجا في التعليم يشجع على التمايز الطائفي ، وفي احيان كثيرة ينتهي الى عملية التمايز الطبقي .فالمنهج التعليمي في مدرسة اينونى كان نفس المنهج الذي كان متبعا في عموم العراق آنذاك والذي كان يشمل كتاب القراءة الخلدونية الذي وضعه ساطع الحصري والذي اجريت عليه عدة تعديلات فيما بعد ، اضافة الى مادة الحساب والعلوم الحياتية والتربية الوطنية والتربية الرياضية مضافا اليها مادتي اللغة السريانية والديانة المسيحية ، وبهذا الخصوص يقول الأستاذ داود كيوركيس " بعد ثورة 14 تموز الوطنية 1958 ، تم وبشكل رسمي تعيين كل من القس شمعون عوديشو الذي كان يدرسنا مادة الدين فقط كونه لا يجيد كتابة اللغة السريانية والقس داود توما الملقب ( قاشا جولو) (4) الذي كان يجيد القراءة والكتابة بشكل جيد كونه قد درس في المدرسة الكاثوليكية في مار ياقو في القوش ليصبح قسا للكاثوليك ، لكنه رسم قس لكنيسة المشرق ، ومنه تعلمنا القراءة والكتابة باللغة السريانية " ويضيف الأستاذ داود " هذان القسان تم تعيينهما رسميا ضمن الكادر التعليمي لمدرسة اينونى ، وقبلهما كان يدرس الشماس كوركيس بكو ( شماشا ججي بكو) وهو شماس تابع للكنيسة الكاثوليكية".
يتفق الكثيرين من ابناء بروار ممن عاصروا حقبة ما بعد انشاء المدرسة ،بأن الكتب المدرسية لم تكن مجانية مع بدايات تأسيس المدرسة ، وكانت ادارة المدرسة تحث الطلبة على المحافظة على الكتب وعدم اتلافها ليتم اعارتها الى التلاميذ الذين سيأتون من بعدهم ضمن نفس العائلة او الجيران وهكذا ، وهنا تحضرني حادثة طريفة حكاها لي مرة خالي انويا هرمز(5) الذي كان احد تلاميذ تلك المدرسة ، حينما نجح الى الصف التالي ، ولم يكن في القرية من يعيره الكتب كما جرت العادة في حينها، فكان عليه ان يطلب من جدتي ان تعطيه بعض النقود لشراء الكتب التي سيحتاجها لتلك السنة ، فرفضت جدتي وبشدة قائلة : لماذا عليك ان تشتري الكتب ، انظر الى كتبك فهي مازالت جديدة!!!! صرف خالي انويا في حينها جهدا كبيرا ليقنع جدتي بأن كتبه تلك لم تعد تفيده للعام الجديد وعليه ان يشتري كتب جديدة ... فالأمر عند جدتي في ارسال ابنائها الى المدرسة لم يتعلق بالتعليم وفوائده بقدر كونه الإمتثال لتقليد ارسال الأبناء الى المدرسة الذي بدأ يترسخ في القرى الآشورية في برواري بالا عاما بعد عام ...
قبل ان نختتم هذا الجزء ، وللإنصاف والتاريخ ، لابد ان نذكر لمدرسة اينونى احد جنودها المجهولين ممن خدموا طلبة هذه المدرسة ومعلميها بصمت ، وهو العم نيسان خايي الذي بقي رغم كل التناوبات على ادارة المدرسة او التغيرات السياسية في المنطقة ، وفيا لما قطعه على نفسه ، بأن يقوم اضافة الى عمله كفراش معين في المدرسة ، بنقل وبشكل يومي صفائح الماء من العين التابع للقرية الى المدرسة لكي يشرب منها تلاميذ مدرسة اينونى ومعلميها ، وهو شقيق ياقو خايي زيا الملقب بـ ( ياقو بوسطجي ) الذي كان يوزع البريد لكل قرى برواري بالا الآشورية منها أوالكردية على السواء ، بعد ان اصبح هناك في كل بيت آشوري من هو قادر على قراءة ما كان يصلهم من رسائل ، بفضل مدرسة اينونى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) احد العائدين من المهجر الأمريكي عام 1924 وكان من المذهب البريسبيتاري المشيخي( prespeterian ) واصبح قسا للقرية بعد ان خضع لمشيئة اهل القرية بأن يتحول الى المذهب النسطوري .
(2) يعرفه اهلنا في اثرا دبروار بـ ( كيوركيس افندي او سيدي ججو ) وقد وافته المنية قبل عدة اسابيع من نشر هذا المقال وهو في العام الثالث بعد المائة من عمره ، وكان يعيش في السويد مع ولده الأستاذ داود كيوركيس، وقد زودنا بمعلومات هامة عن الموضوع ، وكان اول آشوري يدخل دارالمعلمين الريفية في الرستمية ببغدد والذي كانت مدة الدراسة فيه اربعة اعوام . وفي العام الدراسي 1940 / 1941 أنهى الدراسة في الدار وتم تعيينه معلما في منطقة الأهوارالتي كانت بحاجة للعديد من المعلمين . في قريتي الطار وآل جويبر في ناحية كرمة بني سعيد، قضاء سوق الشيوخ التابع إلى لواء المنتفك آنذاك الذي مركزه مدينة الناصرية .
(3) حكى لي الأستاذ داود كيوركيس ، بأن بعض النساء الكبيرات في السن من بعض تلك القرى كن يأتين مع هؤلاء الصغار ليعتنين بهم خلال ايام مكوثهم بعيدا عن اهلهم ..
(4) القس داود توما الملقب قاشا جولو استشهد على يد الأكراد الزيباريين في منطقة دشتاني مع حوالي (30) رجلا من عشيرة البيلاتي عام 1961. وهو والد المناضل الأنصاري الأستاذ توما القس داود ( ابو نضال ) .
(5) تدرج في وظائف الدولة الى ان ان اصبح رئيس مهندسين اقدم ــ مدير الكيبل المحوري للأتصالات المدنية والعسكرية في دائرة منطقة الميدان ببغداد ، وكان المسؤول عن اصلاح الكيبلات المحورية وخطوط الهواتف التي دمرتها الحرب الأمريكية على العراق في حرب الكويت ، ويعيش الآن في استراليا .