من يعتمد الماضي يعيش الحاضر
الأديب أوراهم يلدا نموذجاً
بقلم: ميخائيل ممو.شباب في عمر الزهور، جرفتهم مشاعرهم بأن يمتثلوا ويقتفوا درب من أبدعوا في حياتهم، وعلى وفق خاص أولئك الأدباء الذين كانت تملى علينا مسيرة حياتهم وإبداعاتهم الأدبية والشعرية وأفكارهم الفلسفية في مراحل الدراسة المتوسطة وبالتالي الأكثر شأناً في مرحلة الدراسة الثانوية وعلى وجه الخصوص أدباء المهجر، ومن ثم من كانت تترجم أعمالهم إلى العربية من أشهر الأدباء الأجانب. فباتت جذور تلك المرحلة تتفرع رويداً رويدا في أعماق نفوسنا لتشد من إهتماماتنا الأدبية، ومن ثم التأثر والإمتثال بما طرحوه من أفكار في تآليفهم لينطلق كل واحد في تصميم مسار حياته بمحاولات كتابية منفردة جمعتها فكرة إصدارات النشرات المدرسية التي كانت دافعاً لإلتقاء مجموعة من الطلبة في المرحلة الأخيرة من حياتهم الدراسية التي قربتهم من بعضهم وجعلتهم يرتأوا تكوين حلقة أدبية إسبوعية في مقهى منزو ٍ يبعد الشك عن أعين المتلبسين بالخفي في منطقة مدنية لحي عسكري معروف بمعسكر الحبانية، وعلى شكل خاص الفترة الأولى لإستلام البعثيين مقاليد السلطة. حيث كنا في تلك الفترة بعد دراسة مستفيضة قد أقدمنا على تشكيل مجموعة أسميناها بإصدقاء رابطة العروة الأدبية، وعلى ما أتذكر شملت أشخاص من المكونات القومية في الحبانية الذين كانوا يتقنون اللغة الآثورية أيضاً ومنهم الكردي والتركماني والآشوري والمتهم بالتبعية الإيرانية. بعد أن وضعنا خطوط إنطلاقنا ودونّا بياننا الأدبي لإرساله ونشره في الملحق الأدبي والإسبوعي لجريدة الجمهورية آنذاك، إسوة ببعض الجماعات ومنها جماعة كركوك الأدبية من أمثال المرحوم مؤيد الراوي وأنور الغساني وسركون بولص وجان دمو وغيرهم وإنبثاق مجموعات أخرى من المحافظات العراقية. وعلى أثر ذلك فوجئنا في يوم ما على دعوة أفراد منّا من قبل معاونية الشرطة والإستخبارات العسكرية على إتهامنا بتلك الحركة الأدبية التي لم تكن لها أي تأثير على الهيمنة الحزبية في المنطقة وتحذيرنا من الإستمرار إن لم تكن وفق الإجراءات القانونية. وبمرور الأشهر تم تخرجنا من المرحلة الثانوية وإبتعادنا عن بعضنا بدافع إلتحاق كل واحد منا بكليته من الجامعات العراقية.
إن ما دعاني لهذه التقدمة المقتضبة هي معايشتي مع الزميل أوراهم يلدا أوراهم الذي كان في حينها قد سبقنا الإلتحاق بمعهد اللغة الإنكليزية العالي بسنة أو سنتين، شاءت الصدف أن ألتقيه أثناء تواجده في الحبانية لنتعارف ونتباحث معاً في الشؤون الأدبية والثقافية التي قلما كنا نجد من له تلك الإهتمامات. ومما زاد من استغرابه عن محادثاتنا ومناقشاتنا في لقاءاتنا الأولى حين طرحت عليه فكرة الأوزان الشعرية لنظرية الشعر الحر الشبيهة بإنطلاق طير في الفضاء بحركات غير متوازية وعلى غرارها يُكتب الشعر الحر، ليفاجئني مستغرباً وقائلاً: ألا تعلم بأن هذه الفكرة أملاها علينا أحد أساتذتنا في الجامعة وهو وايلت ويتمن أو غيره حسب ما أتذكر الآن بعد ما يزيد عن الخمسين عاماً . ومن هذه الإنطلاقة زاد تقاربنا على اللقاء بين فترة وأخرى حيث كنت اقضي المبيت أحياناً لديهم. وبإفتراقنا المرحلي لتخرجه وتعيينه كمدرس في كركوك ومواصلتي الدراسة الجامعية بكلية الحقوق في البصرة، شاءت الظروف بإنتقال عائلته إلى بغداد وأنا أيضاً فيما بعد بسنوات لنلتقي ويعرفني بأشخاص من مجموعة كركوك الأدبية في دار سكناهم بمنطقة البتاوين. ومن ثم تأسيس النادي الثقافي الآثوري وعضويتنا فيه حتمت علينا إمكاناتنا وإهتماماتنا الأدبية على تولي مسؤولية هيئة تحرير مجلة " المثقف الآثوري" الصادرة عن النادي وإجتماعنا المتواصل على دراسة وإقرار المواد الصالحة للنشر باللغتين الآشورية والعربية إضافة لأعضاء آخرين تفاوتت مراحل مسؤوليتهم لأسباب خاصة ومنهم المرحوم زيا نمرود كانون وكوريئيل شمعون ويُؤارش هيدو وغيرهم.
ما تجدر الإشارة إليه ونحن لا زلنا في بغداد، كانت للإستاذ أوراهم يلدا أوراهم مآثر كثيرة في محيط النادي الثقافي الآثوري التي منها في لجنة التحرير والنشر، مساهمته في دورات التعليم اللغوي والإشراف على مواد مجلة المثقف الآثوري إضافة لما كان يترجمه من اللغة الآشورية إلى العربية من شعر وموضوعات أخرى التي منها في مجال المسرح، ومشاركاته في المهرجانات الشعرية السنوية، وعلى ما يحضرني من تلك الإهتمامات تشجيعنا لإخيه الصغير يوسف يلدا البيلاتي وهو في مرحلة الدراسة المتوسطة بباكورة كتاباته باللغة العربية التي كنا معاً نناقشها وتشجيعنا له بنشر أول قصة قصيرة له بعنوان "اللعبة" في مجلة " المثقف الآثوري"، حيث كانت تلك التجربة دافعاً له ومحفزاً للإستمرار دون معرفتنا إلى الحين الذي برزت مواهبه تتفتح بعد دراسته الجامعية في القسم الأسباني ومن ثم هجرته إلى اليونان وتوليه مسؤولية التحرير في إحدى الجرائد العربية المهجرية، ومن بعدها استقراره في استراليا ومن هناك أرفد العديد من المجلات والمواقع بقصصه القصيرة وكذلك تقاريره الفنية في موقف إيلاف لإهتمامه الفني أيضاً. وذات الحال لأخي المرحوم سلمان مروكل ممو حين كان في المرحلة المتوسطة بتشجعينا لمحاولاته الكتابية شعراً، ونشرها في المثقف الآثوري أيضاً إلى جانب بعض الصحف المحلية في بغداد. فكانت تلك مواقفنا قد أثمرت ليصدر سلمان فيما بعد باكورة ديوانه الشعري تحت عنوان " الأرض والعشق والخوف"، إضافة لعدد من الناشئين في حينها.
تواصلنا الدائم في النادي الثقافي الآثوري جعلنا أكثر مقربة من بعضنا، والأكثر من ذلك يوم تأسيسسنا لإتحاد الأدباء والكتاب الناطقين بالسريانية من الآثوريين والكلدان والسريان الذي كنا قد حولناه بصبغة آشورية من خلال إصداراته بعد رفض مطلب أدباء النادي الثقافي والتزامنا بالتسمية الأولى لتحقيق مآربنا رغم قرار السلطة آنذاك، بدلالة ما كنا ننشره في مجلة الإتحاد والنادي الثقافي الآثوري، حيث كان كافة أعضاء الإتحاد ممن يؤمنوا بالتسمية الآثورية فتولى الأستاذ أوراهم يلدا منصب نائب الرئيس في دورته الثانية عام 1974 ودورته الرابعة عام 1976 إلى اليوم الذي هاجر الوطن ليعيش حياة الإغتراب. وأكبر دليل على ما أشرت إليه هو إصداري كتاب " في رياض الشعر" قصائد آثورية مترجمة وبيبلوغرافي حياة الشعراء ومنهم أوراهم يلدا بترجمتي لقصيدته "الموت والميلاد". وتم منعه بعد إصداره بإسم وتعضيد الإتحاد رغم طبعه بموافقة وزارة الإعلام. ومن ثم إصدارات أخرى منها "المرشد في الإملاء الصحيح" لمؤلفه شموئيل جبرائيل دنخا كتب مقدمته الأستاذ أوراهم باللغة الآشورية، إضافة لديوان شعر مشترك بالآشورية لأعضاء الإتحاد بعنوان "ربيع الإتحاد الآثوري" الذي تم تصميم كلمة الآثوري بشكل رمزي من دقاق عيدان الكبريت أي الشخاط (الثـُـقـُب مفردها الثقاب)، من ضمنه قصيدة الأستاذ أوراهم المعنونة " الموت والميلاد" ص47 يقول في مقدمتها ما ترجمته من الآشورية إلى العربية " يذكر الشاعر الإنكليزي ت. س. إليوت في مطلع إحدى قصائده، في بدايتي تكمن نهايتي، ولكني أنا سأضيف وأقول: في نهايتي تكمن بدايتي" ويفسر ما قاله " السبب من ذلك إن لم أنتهي، لا أبدأ، وكل نهاية تحمل بين طياتها بذرة البداية، وكل عتاقة تنبع منها الحداثة، وكل موت يفسح مجال الولادة. مولد حياة بروح جديدة. والحياة موت وميلاد. فما أبدعه في هذه الإلتفاتة الفلسفية التي يناهض فيها الشاعر الإنكليزي الشهير إليوت (1988 ـ 1965) والحائز على جائزة نوبل عام 1948.
أوراهم يلدا.. رغم ثقافته العالية التي أغناها بإهتماماته اللغوية المجسدة بثلاث لغات متمثلة بالآشورية والعربية والإنكليزية بقي متابعاً ومتواصلاً لعملية الإغتراف عن كل ما ينشر بها، ومما كان مخفياً بين صفحات الطروس المخطوطة في تلك مكتبته البيتية العامرة ومكتبة الإتكال التي أسسها لخدمة القراء وليرصد وجودها بإنشائه مجلة " ليشانا وسبرايوتا أي اللغة والأدب" التي أصدر منها عدة أعداد وتوقفها لأسباب خارج إرادته فرضتها عليه أفكار من يطبلون بوجودهم القومي واللغوي والثقافي دون دعمهم لمن هو أكبر وأبلغ شأناً منهم، ودون تقديرهم لمن يخدم وجودهم بشكل مباشر بما يسعى إليه اليوم، طالما يدعه الغد على ما لم يكن عليه في الحسبان، والتاريخ أكبر شاهد على ذلك من أولئك الذين رحلوا ولم يلمسوا أي تقدير وتقييم أيام وجودهم أحياء ليمطروا الرحمات على أرواحهم بتأسف كبير بعد أن تُتْلى عليهم سيرة حياتهم وما خلفوه من نتاجات فكرية.
وقبل أن أختم كلمتي أود أن أرفع كلمات الشكر لأولئك الذين قلدوه وسام التقدير في يوم اللغة الآشورية من العام الماضي لجهوده وهو في وعكته الصحية، آملين له المعافاة والعودة لحياته الطبيعية طالما لا زالت النسمات تلاطف روحه وتلك إبتساماته التي إعتدنا عليها لحد لحظات كتابة هذا الكلمة تثميناً وتقديراً لجهوده ولمناسبة تتويج إسمه بشخصية العدد في مجلة أترا الغراء.
الشاعر والأديب أوراهم يلدا أوراهم في سطور.
* من مواليد 12 شباط عام 1943 في الحبانية بمحافظة الأنبار. والده الشماس يلدا أوراهم مربينا، ووالدته شربة كيوركيس يونان.
* بدأ منذ طفولته المبكرة بدراسة اللغة الآشورية على يد والده.
* أنهى دراسة الإعدادية في ثانوية الحبانية.
* خريج معهد اللغات العالي- جامعة بغداد، تخصص لغة انكليزية عام 1965.
* التحق في عام 1978 بجامعة ليفربول في مدينة لندن- انكلترا للتخصص في علم اللغة والصوت الخاص باللغة الآشورية.
* كان عضواً نشيطاً وفاعلا في النادي الثقافي الآثوري في بغداد ما بين عامي 1971-1978. وعمل سكرتيرا للنادي المذكور، وعضوا في هيئة تحرير مجلة (المثقف الآثوري),
* ألقى العديد من المحاضرات عن اللغة الآشورية الفصحى والسوادية، إضافة إلى مساهماته في الندوات والأمسيات الشعرية.
* كانت له مساهمة فعّالة في مجال الإذاعة حيث عمل في إعداد وتقديم برامج عديدة باللغة الآشورية في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون في العراق.
* شارك في العديد من دورات تعليم اللغة الآشورية، وتخرجت على يديه مجموعة كبيرة من الأسماء البارزة التي يُشار إليها بالبنان، حالياً، في مجال اللغة الآشورية.
*صاحب ورئيس تحرير مجلة (اللغة والأدب والفن) التي كانت تصدر باللغات الآشورية والإنكليزية والعربية منذ عام 1991 حيث استمرت عشر سنوات بدون انقطاع.
* أصدر ديواناً شعرياً بعنوان (مِوةِأ ومولِدِأ) أي (الموت والميلاد) باللغة الآشورية. وفي عام 1995 عّده العديد من النقّاد والمهتمين بالأدب الآشوري من أوائل الشعراء الذين كتبوا الشعر الحر باللغة الآشورية.
* أنشأ في عام 2006 مكتبة تهتم باللغتين الآشورية والانكليزية باسم (مكتبة الاتكال) في مدينة شيكاغو، وكانت بمثابة منتدى الأدباء من جميع أنحاء العالم.
* ساهم بكتاباته في المجلة التي كانت تصدرها الجمعية الأكاديمية الآشورية في شيكاغو باسم (مغلةِأ دشوةِفوةِأ اِقِدتمِيةِأ اِةورِيةِأ).
* قام بتدريس اللغة الآشورية في (كلية أوكتون) في سكوكي- شيكاغو.
* كان يدير (الحلقة الثقافية) التي كانت تضم العديد من أبناء أمتنا الآشورية من المثقفين والمهتمين بشؤون اللغة والأدب والمجتمع حيث كانت تُقام أسبوعيا في الجمعية الآشورية الأمريكية.
* من المؤسسين الأوائل للمجلس القومي الآشوري (موةثِأ اومةِنِيِأ اِةورِيِأ) منذ تأسيسه في أوائل التسعينات من القرن المنصرم.
* أصيب بجلطة دماغية في 02/06/2014 ولكنه يتعافي رويداً رويداً، وهو في تحسن مستمر.
نصلي من أجله، وندعو له بالشفاء العاجل ليعود إلى ميدان الأدب والشعر سليماً معافى.