حجارة الموصل ان حكت ...... 1........
صورة جميلة غادرتنا.. ذات غفلة من وطن .....
رياض شابا صوب زمن لافت تاخذني ذاكرة الطفولة ؛ لتجول بين ازقة ضيقة متعرجة ؛ و بيوت كثيرة متلاصقة ؛ و حارات متجاورة حد التشابه ؛ تعلوها ابراج كنائس ومنائر جوامع ؛ تكمل صورة الحياة في مدينة عريقة عرفتها في وقت مبكر من خمسينيات القرن الماضي ؛ و جزء قديم منها ؛ صار ساحة لواحدة من اعنف و اطول معارك الشوارع في العصر الحديث .
سحب دخان و السنة نيران . استغاثات نسوة و اطفال خائفين و عائلات محاصرة ؛ و نازحين كتبت لهم النجاة من براثن التتار الجدد وهمجيتهم . اثار دمار و خراب ؛ و اكوام من حجارة و صخور لو قدر لها ان تتكلم ؛ لحكت بالتفصيل حقيقة ما جرى ذات حزيران حزين ؛ قبل اخر سقوط لحاضرة عرفت عبر الاف السنين ؛ كيف تنهض و تستقيم ؛ و تداوي جراحها بعد كل كبوة او غزوة او نكبة .
مشهد يختلف بالتاكيد؛عما علق في ذهني من صور ل"دورات " و "عوجات " و " جادات "؛ تقطعها " عربانات " خيل و عربات يدوية يستعملها الكسبة ؛ مركبات و باصات قديمة بعضها خشبي ؛ و قليل من الدراجات . عيادات و صيدليات ؛ مقاه و مطاعم ؛. محال و دكاكين ؛ و مارة بين عابر سبيل او متبضع او شغيل..... و طلبة كثيرون ؛ وجهتهم مدارس تتوزع انحاء عدة من المكان ؛ في ظاهرة تنم عن شغف كبير للناس بالعلم ؛ و حب عظيم للمعرفة .
اشياء كثيرة تشدني الى المكان ؛ و سيل من الذكريات يقول اني اعرف جميع الناس هنا ...
لكن فريقا معينا من وسط ذلك الزحام ؛ كان يستوقفني ؛ و عديدين غيري ؛ مع كل مرة يجتاز فيها رصيفا او يعبر شارعا في تلك المنطقة من الموصل القديمة ؛ نظرا للزي الذي يرتدونه والطريقة التي يسيرون فيها بموكبين احدهما "رمادي" و اخر " اسود " !
انهم تلاميذ " السمنير " المعهد الكهنوتي الذي يتخرج فيه الكهنة الابرشيون ؛ تراهم بزيهم " السوتانا " الشبيه باردية الكهنة و الرهبان ؛ وهو بالنسبة لتلامذة السنوات الست الاولى بلون رمادي " اوهكذا يتهيا لك في البداية ؛ لانه في الواقع مصنوع من قطعة قماش بارضية بيضاء ؛ مطبوعة بخطوط سود ؛ تتقاطع طولا و عرضا ( عموديا و افقيا ) مكونة مربعات صغيرة ؛ تبدو للرائي و كانها رمادية " ؛ ليتحول الطلبة بعدها الى ارتداء الزي الاسود ، وحتى التخرج النهائي ؛ اذ ان عليهم اجتياز المرحلة الثانية ( و هي بست سنوات دراسية في معهد يوحنا الحبيب ؛ واربع سنوات في معهد شمعون الصفا )؛ قبل ان يصبح كهنة المستقبل جاهزين لاستكمال رسالتهم في الحياة.
و رغم سني الصغيرة ؛ و رغم البيئات التي عشت فيها طفولتي المبكرة بعيدا عن المدينة ؛ فان مشهد هؤلاء الفتية " كهنة المستقبل " كان يبعث في نفسي مزيجا من مشاعر الخشوع و الرهبة ؛ و دعوة الى التامل ....
انهم ينتظمون بصمت و هدوء ملحوظين في صفين متناسقين ؛ يحثون الخطى في مسيرة تحمل الكثير من المعاني ؛ فمن هذا المكان " السمنير " ينطلق الشخص الى العمل في كرم الرب " ؛ و يسعى الى نشر كل ما تعلمه خلال سنوات التنشئة .. و مساعدة المؤمنين لمعرفة " الطريق الذي يقودهم الى السلام الحقيقي في هذه الظروف الصعبة " .
اشياء كثيرة تستوقفني في هذه البقعة ؛ فاحاول اطالة المكوث فيها ؛ و كانني اعيش قلقا مبكرا او خوفا مجهولا مما يمكن ان يحمله المستقبل لهذه الصورة المشرقة التي لم يكن يحلو للبعض ان تستمر وتبقى ؛ حتى حصل ما حصل من تهجير و تكفير و عنف ضد المسيحيين ؛ ومكونات عراقية اخرى اعتادت التعايش في سلام على ارض ؛ هم سكانها الاصلاء لقرون عدة خلت ولفترات زمنية موغلة في القدم ؛
وحتى ان جاء يوم ؛ كتب لهم و لنا ان نعيش فيه زمن داعش الاسود في واحدة من بين اسوأ النكسات الي شهدتها ارض ما بين النهرين عبر التاريخ ..
.. فكنت تراني لسبب ما ؛ او لاسباب عدة تجهل مخيلتي الصغيرة كنهها ؛ ازداد تشبثا بالمكان..
و اذكر انني كنت اكره مغادرة موقعي على الرصيف ؛ مع كل مرة المح فيها طلاب " السمنير" يمرون من هنا... فكنت اصر على الانتظار حتى يمر موكبهم للنهاية ؛ و حتى يختفي اخر شخص منهم عن الانظار ؛ بعد ان يدخل مبنى او يلج منعطفا او زقاقا ؛ يقودانه الى اماكن اثيرة معروفة في محلة المياسة بالموصل القديمة : كنيسة الشهيدة مسكنتة و ما يحيط بها ؛ بعبقها ؛ و عمق المعاني التي حملتها هذه الشهاده هنا ؛ او في اي مكان اخر تضمخ بدماء القديسين والباذلين ارواحهم رخيصة ؛ انتصارا لخلاص البشرية من كل انواع الظلم و الاضطهاد..
و هنا ايضا " الدير " دير شمعون الصفا ؛ مقر " السمنير " و مقر بطريركية بابل على الكلدان في العراق والعالم " قبل نقلهما الى بغداد نهاية الخمسينات ؛ ثم صار مقرا لابرشية الموصل الكلدانية ؛ الذي نقل الى كنيسة الطهرة في محلة الشفاء " و استخدم ايضا دارا للايتام ؛ و مزار " احو ديمي" " اخونا د يمي " ؛ و مدرسة ابتدائية للبنات.. و ليس بعيدا ؛ كنت ترى كنيسة مار توما و مدرسة الغسانية في الكنيسة الارثوذكسية ؛ و كنيسة مار كوركيس ..
كنائس و مواقع ؛ اسماء و اماكن في محيط شارعي نينوى و الفاروق ؛ و نقطة تقاطعهما عند منطقة الساعة ؛ نسبة الى كنيسة الساعة ؛ حسب التسمية الشعبية لكنيسة اللاتين او كنيسة الاباء الدومنيكان.. . او كنيسة الباتري بيير نسبة الى الفاذر او الاب بيير الذي اسس الكنيسة او عاصر تاسيسها حيث اكتمل بناؤها في 4 اب 1873 .
و اشياء كثيرة ماتزال تشدني الى المكان..
و استميحكم عذرا لانني ساطيل الوقوف هنا بعض الشئ ؛ و قدماي تابيان ترك الرصيف ؛ و يداي الصغيرتان تتشبثان بيد احد والدي ؛ رافعا راسي الى اعلى ؛ محدقا في برج الكنيسة و الساعة التي تتوسطه من الجهات الاربع ؛ متوسلا الانتظار حتى يحين موعد دقاتها ؛ و ما ان اسمعها حتى تعتريني فرحة غامرة ؛ تشبه كثيرا تلك التي تغمر حفيدي " نيثن "؛ عندما احمله الى اعلى ؛ قريبا من ساعتنا الجدارية في المنزل ؛ ليسمع دقاتها و موسيقاها ؛ فيهز راسه طربا ؛ و يغفر فاه انبهارا ؛ و هو يحسب الدقات معنا : واحد .. اثنان ..ثلاثة ..اربعة ... هييييييييي ....
وياله من عالم ساحر برئ ؛ عالم الطفولة هذا ؛ خصوصا عندما يعود بك الى كل ما هو جميل ومحبب للنفس ؛ يذكرك بالناس والامكنة والطقوس .. ها انذا اسمع نواقيس تقرع ؛ و ارى راهبات يجتزن الشوارع ؛ و كهنة بملابس بنية غامقة او بيضاء ؛ صاروا بمرور الوقت جزء من شخصية المكان ؛ شانهم في ذلك شان طلاب السمنير الذين اعتاد الناس مشهدهم ؛ بتعاقب السنين..
و في دكاكين المنطقة و محالها ؛ استمع الى بقالين من اكثر من دين ؛ يتكلمون باكثر من لغة و لهجة ؛ يتحدثون عن استعداداتهم ؛ لتهيئة مستلزمات صوم الباعوثة او صوم الخمسين ؛ من مواد غذائية تدخل في وجبات الطعام ؛ مثل الطحينية والعدس و الزيتون والسمسم و زيته ؛ و انواع الحلاوات الخالية من اية دهون ؛ بالنظر لازدياد الطلب على مثل هذه المواد في موسم الصوم.. مثلما يتهياون لصوم رمضان.
و ها أن صوتا خافتا يتناهى الى مسامعي ؛ يزداد وضوحا مع كل خطوة اخطوها في الازقة الملتوية باتجاه " المسكنتة ".. انه " الضجيج " الاتي من مدرسة شمعون الصفا الابتدائية للبنين التي دخلتها وانا في الصف الخامس منقولا من مدرسة بارة الابتدائية احدى قرى سنجار ؛ بعد نقل والدي الموظف الصحي من هناك الى الموصل..
و ها أنذا أشاهد طلبة كثيرين متفوقين في كل مجال .. واسمع جرس الدرس الاول ؛ و اسمع استاذا يعزف الكمان في تحية العلم كل خميس ؛ واشارك اقراني بلباس الكشافة ؛ و اقرا ذات يوم من داخل الساحة بصوت جهوري ملؤه الحماسة ؛ قصيدة " فلسطين " لعلي محمود طه ؛ والتي اختارني لالقائها الاستاذ اسحق عيسكو ؛ خير من علمني العربية انذاك ..
و الاستاذ عيسكو كان ايضا معاون المدير لذلك الصرح التربوي و التعليمي الشامخ ؛ فما زلنا جميعا نحمل ذكريات لاتنسى عن الاستاذ سعيد ججاوي المدير ؛ و المربي و الموجه و الحكيم.. وكذلك عن نخبة من المعلمين الاكفاء الذين اعتذر لعدم تذكري اياهم جميعا او ذكر اسمائهم كاملة.. الاب يوسف كجه جي معلم الدين و حبيب حناوي و ايليا شعاوي و جميل مطلوب وجميل معلم العلوم و الاستاذان نافع و نافع و الاستاذ محمود معلم التاريخ صاحب النبرة الهادئة و والصوت الخافت ؛ الذي كان يرفض ان يستقبله الطلاب وقوفا عند دخوله الى الصف ؛ فيطلب منا الجلوس على الفور..
و هنا اقول ان بعض من زاملتهم و شاهدتهم او عاصرتهم من طلاب في صفي او صفوف اخرى.. ان اسماءهم و وجوههم تبقى حية في الذاكرة ؛ و يسعدني انني تعرفت على البعض منهم او سمعت عنهم ؛ اثر رحلة قمت بها مؤخرا الى مدينة سان دي يغو الامريكية..و انني اعتذر مقدما لجهلي باختصاصات العديد منهم ؛لان الزمن باعد بيننا كل هذه السنين ؛ فذلك هو قانون الحياة.. " حياتنا نحن ربما" وهم جميعا مكانهم في القلب بالتاكيد . و اذكر منهم :
سالم اسعد و مؤيد اسطيفو و هاني بطرس و شقيقيه منعم ومنذر اللذين امضيا سنوات طويلة في التدريس و سمير كامل ابن صاحب سينما كامل وشقيقي الدكتور باسم "دكتوراه في فيزيولوجيا القلب و الاوعية الدموية " الذي ترك العراق استاذا في كلية الطب البيطري بجامعة بغداد و ممتاز يوسف خريج كلية الزراعة بجامعة الموصل و قيصر خمو كوركيس " دكتوراه في الهندسة المعمارية " والدكتور انطوان صبري البنا " دكتوراه في علم الفايروسات " و رامز جميل مطلوب الطبيب البيطري و شقيقه شوقي الذي اختص في الطيران وكمال ممو اسمرو و كمال جلو و اديب هرمز و جلال موقا و هيثم سلمان اودو و باسل موسى شكوانا .. والشقيقين نزار و نادر عبدالكريم قاقو و جوزيف يونس رحيمة " اذ اوجه شكري الجزيل لاخر ثلاثة ورد ذكرهم"للمعلومات التي زودوني بها عن منطقة مسكنتة تحديدا..
و لهؤلاء الاعزاء وغيرهم الكثيرين اقول انني قرات عن مدرستنا تلك ؛ بضع كلمات في زمن ما و مكان ما ؛ ان " مدرسة شمعون الصفا تخرج منها الاف الطلبة الذين اصبحوا رواد النهضة و الازدهار في مدينة الموصل .. "....
ولكنني اضيف الى ذلك ان اولئك الطلبة صاروا رواد نهضة و ازدهار ؛ ليس للموصل وحدها ؛ بل لبلدهم العراق باسره..وان اشد ما يؤلم حقا ان الكثيرين منهم و الملايين مثلهم ؛ تشتتوا و تغربوا في ارجاء الدنيا ؛ بعيدا عن الارض التي ولدوا فيها ؛ بعيدا عن الجذور و مراتع الصبا ؛ شانهم في ذلك شان الملايين من ابناء وطننا العزيز الذين غادروه مكرهين ؛ بقلوب دامية وعيون دامعة ؛ حيث تم اقتلاعهم من موطن الاباء و الاجداد ... من صورة جميلة ؛ احتوتنا داخلها جميعا امتدادا لزمن جميل طويل عشناه معا من مختلف الاديان الاعراق و القوميات...زمن لم يكتب له ان يعيش و يستمر ؛ اذ سرعان ما ان غادرنا او غادرناه ذات غفلة من وطن..
ولعل حجارة الموصل تحكي لنا شيئا عن حقيقة ماجرى......